قضايا

عبد الأمير الركابي: ضرورات تجاوز الرؤية الغربية للحداثة (1-2)

كان من قبيل البداهه ان تتكفل اوربا بالرؤية المواكبه لانبثاق الاله ومانتج عنها وتسببت فيه من حالة تسارع في الديناميات المجتمعية، وهو ماقد حدث ليوافق المنجز الفكري التصوري يالمادي الانقلابي، فاذا كان الاول خارج الفعل الواعي الاوربي، فان الثاني بالاحرى كان ومايزال حريا بان ينسب للمكان الذي وقعت فيه الصدفة من دون ان يتناولها احد، واولهم الغرب نفسه الذي ابدع في الكثير من المجالات الرئيسية، من دون ان يجرب الانغماس في محاولة تفسير الكامن، والسبب المتضمن وراء اختصاص الغرب الاوربي من دون سواه، بالانبجاسية الاليه، الامر الذي مايزال مبهما، ومن الاسرارالتي لم يجعل العقل الحداثي من بين مهماته الاجابة عنها، مثلها مثل الاجابة عن الاسباب التي جعلت المجتمعية تتبلور ابتداء في ارض سومر جنوب مابين النهرين، لتاتي وفق شاكله ونمطية بعينها ماتزال غير مكشوف عنها النقاب حتى الساعه.
الاهم غير ذلك، ان العقل لم يقارب مايبدو من قصورية متغاضى عنها، تظل خارج الادراكية الضرورية في حالتين منفصلتين، الاولى التبلورية البدئية، والاخيرة الراهنه الانقلابيه ما بعد اليدوية، ومايبدو انه المقصود غير المعاين والخفي وراء المناسبتين الفاصلتين، هذا وقد يكون مماينبغي عدم اهماله كون المناسبة الثانيه كما مفترض، وجدت في وضع افضل، ويدعي انه متجاوز نوعا ومستوى ما قدسبق، ماكان يوجب عليه افتراضا تحقيق ماسبق وعجز عن تحقيقه ماقبله، بالاخص قبل الاف السنين من التاريخ، وضمن نوع انتاجي ومن ثم مجتمعي ادنى، وهو مالم يحدث، فظل ماقد وقف العقل دون الكشف عنه ابتداء، كما كان بعدما اضفيت عليه تصورات واراء هي بالاحرى تجديد للقصورية الاولى، ومرحله متقدمه من مراحل سيطرتها على الاعقالية البشرية، العاجزه بازاء الظاهرة المجتمعية.
وقبل هذا وذاك من الموضواعت الاساس المطوية، تشخص مساله كبرى مغيبه هي الاخرى بما يضيف للنقص الادراكي السائد، مسالة كبرى لاموضع لمايمكن نسبته للوعي البشري مع غيابها، تلك هي مسالة الوعي الفاعل المدبر والمتحكم بالوجود البشري، وهل هو مرهون للكائن البشري، ام لقوة اخرى عليا خارج قدرة الكائن البشري على تدبر مصيره وسيرورة تصيره، والحال فاننا اذا اخذنا بالاعتبار سيرورة النشوء والترقي الدارونيه فاننا سنتعرف على موضوع ومادة حيوية هي موضوع غير مدرك ولا واع على مدى عشرات ملايين السنين، مع انها ظلت محكومة لاشتراطات حيوية ترقوية اخذتها الى الحيوانيه ومراحلها وانواعها، الى ان وصلت بها الى اللبونات، ومن ثم الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين، وظهور الفعالية العقلية المطوية داخل الجسدية الحيوانيه على مدى الزمن الهائل الطول المنقضي قبلها. وكل هذا يعني ببساطة ان الكائن الحي محكوم لفعل وتدبيرية نشوئية، خارجه، لها مقاصد ومنتهيات ليس له هو بالذات دورا فيها، ولايعيها، مايضع الوجود البشري ضمن مقاصد كونية وطبيعيه هو ليس الطرف الواعي ولا الفعال ضمنها، وبما يتعلق بوجوده فيها، وهو مايستمر ساريا بعد ظهور العقل بصيغته الاولية، ودخوله من يومها حالة الترقي الثانيه، بعد تاريخ وجوده غير المتحقق والمطموس ابتداء، حين كان تحت وطاة الغلبة الجسدية الحيوانيه الساحقة.
ولايعقل بالطبع، بعكس الغالب المتداول، ان يظهر العقل مكتملا او متحققا بالصيغة التي وجد عليها، من دون استمرار فعل الاليات الطبيعيه الكونية، وغايتها غير المتاح ادراكها ابتداء وعلى مدى صيرورة العقل وتشكله الارتقائي ضمن العملية المجتمعية والياتها السائره الى غرضية صارت متعلقة بكينونه العقل ومساره نحو ماهو مهيأ لبلوغه، الامر الخارج عن ادراكيته، ويظل كذلك يتدرج ضمن ماتهيئه الطبيعه من موجبات، هي ادرى بها وبمفاعيلها، اي ان الكائن الحي يمر بطورين، الاول ماقبل عقلي والثاني عقلي في حال تشكل وتكامل، يظل ابتداء ناقص الادراك لاشتراطات واليات وجوده، لم يتحرر من فعل وغلبة الغائية الكونية الخارجه عن ارادته ووعيه.
وتبقى البيئة والطبيعه هي الرحم الذي يتصير فيه الكائن الحي، هي التي توفر له اسباب وجوده وتحقيق حاجاته واشراطات تطوره عبر المراحل والفترات، وصولا الى البداية والى الفترة الاولى من محاولة ادراك الغائية الطبيعية الموصوله بالغائية الكونية العليا قوانينها وغراضها غير المكشوف عنها النقاب ودور الكائن الحي ضمنها، فما كان كما هو الحال الواقع ممكنا كابتداء ادراكي، ان لايذهب العقل الابتدائي الحالي الى تكريس ذاتيته ومعتقده حول وجوده المادي والمجتمعي بصفته هو بما هو عليه راهنا، الغاية الاساس للوجود، والقادر بعد ظهور العقل الابتدائي على ادراك كل مايخص ويتعلق بحقيقته الوجودية.
ومع ان هذا الميل ظل هو الغالب تصورا وممارسة عملية، الا ان نوعا اخر من النظر كان قد لازم الظاهرة المجتمعية من بداياتها، وظل يمثل ازدواجا في النظر والرؤية مابين وجهة سماوية تحيل الوجود الى مابعد مادية، وارضوية هي الاكثر حضورا واقعيا وعمليا، تلك التي تعتمد الملموسات والمعاش، وهنا ايضا تتدخل البيئة الفاعلة المقررة فتجعل من المجتمعية التي هي اخر المحطات التصيرية باتجاه الغلبة العقلية على حساب الجسدية الحاجاتيه، فتجعل من المجتمعية الاولى ومفتتح التبلور المجتمعي النهري الرافديني، محكومة لاشتراطات الطرد البيئي اللاارضوية، ومن ثم للتعبيرية التي تطابق نوعها، وتجعل منه بالاليات الاصطراعية معمما مخترقا للبنية المجتمعية الارضوية، وحاضر بين تضاعيفها ارتكازا الى الازدواج البنيوي البشري ( عقل / جسد)، ذلك بغض النظر عن كون المنظور اللاارضوي الممكن في حينه وكابتداء هو مادون ممكنات التحققية، بانتظار ان تنتهي السيرورة المجتمعية الى توفير اسباب الانقلابيه العلّية اللاارضوية المادية والادراكية مافوق الحدسية الاولى النبوية.
توجد المجتمعات بحسب مامصاغ ومصمم كونيا، باعتبارها المحطة الاخيرة الفاصلة بين القصور الادراكي الوجودي البشري، وبين المنتهى المقصود، حين يصبح العقل (ادراك فعال) وفعل، من المؤكد ضمن اشتراطات اخرى غير مجتمعية ارضوية، اي ان المحطة المجتمعية هي طور الانتقالية من الحيوانيه الى "الانسان" الذي لم يظهر بعد، بينما تلصق به هذه الصفة اعتباطا بدل اسمه الذي يستحقه باعتباره "انسايوانيا" وصيغة انتقال كينونه.
بينما يبدا التشكل المجتمعي السومري لاارضوي مستقبلي متعد للارضوية مترافقا مع الابتداء اليدوي انتاجا، يبدا الانقلاب الالي الاوربي مكرسا باعلى الممكنات التصورية، التابيدية المجتمعية الارضوية، فلا يرى في الاله كونها عنصر انهاء للاارضوية، وذهاب الى مابعدها بناء للتحورات الموضوعية الحاكمة للوسيلة الانتاجية الانقلابيه النوعية، وهو مايسقط دونه العقل الارضوي متوقفا عند الصيغة الالية الاولى المصنعية، قبل التكنولوجية الانتاجية الراهنه، والتكنولوجيا العليا الوشيبكة الانبثاق.
ـ يتبع ـ
***
عبد الأمير الركابي

 

في المثقف اليوم