قضايا
عبد الله الفيفي: أَبَتِ الدَّراهمُ إلَّا أنْ تُخرِج أعناقها!

في المساق الماضي حدَّثَنا (ذو القُروح) عن كتاب عنوانه «نَهْج البلاغة: نسخةٌ جديدةٌ محقَّقةٌ وموثَّقة». أشار إلى أنَّه دراسةٌ أصلها أطروحة دكتوراه. وأنَّ المؤلِّف (صبري إبراهيم السيد) قد ذكرَ أنه توصَّل، في نتائجه لتمحيص ما يمكن أن تَثبت صحَّته للإمام (عَليٍّ)، إلى أنَّ النصوص التي اتَّفق جُلُّ علماء المسلمين، سُنةً وشيعةً، على صِحَّة نسبتها إليه من الخُطَب هي أقل من النِّصف، ولا تعدو: 44.5%، ومن الرسائل: 65.8%، ومن الحِكم: 26.9%، ومن الغريب: 44.4%. على أنَّ ثمَّة نصوصًا منسوبة إليه لم يَرْوِها أحد، ولم تَرِد في أيِّ كتاب. ثمَّ ذكرَ المؤلِّف النصوص المشكوك في صِحَّة نِسبتها، والنصوص التي ثبتت نِسبتها لآخَرين. ويَخلُص من ذلك إلى القول: «إنَّ نِسبة تدخُّل أقلام أخرى في النصوص الواردة بالكِتاب تعلو في الحِكَم، ويليها الغريب من الكلام، ثم الخُطَب، وتأتي الرسائل في نهاية الخطِّ البياني.» وحين سألتُه عن رأيه في الكِتاب، قال:
ـ مهما يكن رأيي في الكِتاب، فكُلٌّ يُؤخَذ من كلامه ويُرَد. وممَّا يُلحَظ على هذا العمل أنه كثيرًا ما يعتمد على تقميش المقولات من هنا وهناك، بلا تمحيص، أو تأصيل. ومن عاقبة هذا أن تجده، مثلًا، ينسب كلام الأوَّل السابق إلى المتأخِّر اللَّاحق، بل التَّابع المردِّد.
ـ مثل ماذا؟
ـ مثل كلام (الذَّهبي، ـ748هـ) في «ميزان الاعتدال»، على المباينة بين نَفَس كاتب «النَّهْج» ونَفَس (عَليٍّ) والجيل الذي جايله في صدر الإسلام، فقد نسبَه المؤلِّف إلى (ابن حجر العسقلاني، ـ852هـ)، في «لسان الميزان».(1) والحقيقة أن ابن حجر إنَّما نقلَ هذا نقلًا عن الذَّهبي؛ فالذَّهبي هو صاحب هذه اللفتة اللِّسانية البارعة، وهو أحقُّ بالتوثيق عنه. وقد سبق توقُّفنا عند هذا القول الذَّهبي للذَّهبي.
ـ وماذا أيضًا؟
ـ من هناته كذلك عدم التدقيق في ما يورد من معلومات. مثال ذلك أنَّه ذكرَ، في مسردٍ بأسماء الجامعين الأقدمين لخُطَب الإمام: (الجاحظ، ـ255هـ)، في ما سمَّاه كتابًا بعنوان «مئة كلمة من كلام أمير المؤمنين عَليِّ بن أبي طالب». والحقُّ أنَّ هذا ليس بكتاب، كما نفهم من هذا المصطلح، بل لا يعدو في مخطوطه سبع صحائف، إذا استظهرنا غاية الاستظهار! ثمَّ إنه ليس في الخُطَب، بل في العبارات الحِكْميَّة، وقد تقدَّم الكلام عليه. وإنْ كان قد يُعتذر عن تلك العيوب بما يلزم منه الاعتذار، على حدِّ قول (أبي الطَّيِّب):
وأَعْلَـمُ أَنِّـي إِذا مـا اعْتَـذَرْتُ:::إِلَيْـكَ أَرادَ اعْـتِـذارِي اعْتِذَارَا
وذلك أنَّ المؤلَّف قد سردَ في تمهيده كلَّ ما أثير حول «النَّهْج» من الشُّبهات، وما قيل في الرَّدِّ عليها، دون تمحيص، أو نقد، أو مناقشة، فاحتملَ عُهدة أغلاطها. إذ كان ينقل المعلومات على عواهنها خبط عشواء، وهذا مزلقٌ منهاجيٌّ أكبر ممَّا يظهر في التفصيلات من مزالق جزئيَّة. هذا إلى اضطرابات صياغيَّة، وأخطاء لُغويَّة، وإملائيَّة، مستغرَبة من مِثله.
ـ لكنَّ المهمَّ أنَّ تلك الدراسة قد كشفت كثيرًا مما ظلَّ يسعى بعض المتعصِّبين إلى تبرئة مؤلِّف «النَّهْج» منه.
ـ نعم. إلى درجة أنها كشفت أنَّ نصوصًا من أحاديث الرسول الكريم، وأقوال السيِّد المسيح، قد نُسِبت اعتباطًا إلى (عَليٍّ) في «نَهْج البلاغة». كما أنَّ مأثورات من أقوال الصحابة والتابعين وتابعي التابعين- ومن هذا أقوال لـ(عُمَر بن الخطاب)، و(عبد الله بن مسعود)، و(حُذيفة بن اليمان)- قد أضيفت بلا تحرُّج إلى أقوال الإمام. بل أضيف إليه ما ثبتَ بالبحث أنَّه لمتأخِّرين عنه، كبعض أقوال ابنه (الحَسَن بن عَلي)، والأئمة (الرِّضا)، و(الباقر)، و(الصَّادق)، و(عَليِّ بن الحُسين بن عَلي)، و(زَين العابدين بن عَليِّ بن الحُسين)، وغيرهم وغيرهم. كلُّ ذلك جمعه (الشَّريف الرَّضِي) وعزاه إلى (عَليِّ بن أبي طالب)، ولا عزاء لغيره! بل تجاوز ذلك إلى عَزْو بعض كلامٍ للخليفة العبَّاسي (المأمون) إلى ابن أبي طالب!
ـ أَبَتِ الدَّراهمُ إلَّا أن تُخرِج أعناقها؟
ـ أَبَت! حتى إنَّ المدافعين عن (الرَّضِي)، الذاهبين إلى محاولة إثبات مصادره، كانوا في الوقت نفسه لا يملكون إنكار أنَّ بعض ما ورد في «نَهْج البلاغة» كان يُنسَب إلى غير (عَليٍّ) قبل تأليف «النَّهْج»، ثمَّ إذا به قد صار، بقُدرة شريف، منسوبًا في «النَّهْج» إلى (عَليٍّ).(2)
ـ مثال ذلك؟
ـ على سبيل المثال، ما وردَ بشأن الخطبة الثامنة عشرة، «في ذَمِّ اختلاف العلماء في الفُتيا»- بما يَتبدَّى فيها من سفسطةٍ كلاميَّةٍ مدرسيَّة، يَبعُد عقلًا أن تكون من كلام (عَليٍّ)- ومنها هذا النص:
«تَرِد على أحدهم القضيَّة في حُكم من الأحكام، فيحكُم فيها برأيه، ثمَّ تَرِد تلك القضيَّة بعينها على غيره، فيحكُم فيها بخلاف قوله، ثمَّ يجتمع القُضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوِّب آراءهم جميعًا، وإلاههم واحد، ونبيُّهم واحد، وكتابهم واحد! أ فأمرَهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعَصَوه؟! أم أنزل الله سبحانه دِينًا ناقصًا، فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله سبحانه دِينًا تامًّا، فقصَّر الرسول عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ»، وفيه (تِبْيان كُلِّ شيء)...».
ليظهر أن هذا النَّص من كلام (ابن أُذَينة العَبْدي البَصْري، توفي بعد169هـ)، وهو من رواة (جعفر الصَّادق، ـ148هـ)، له كتاب في «الفرائض».
ـ كيف عرفتَ ذلك؟
ـ وردَ في كتاب «دعائم الإسلام»، للفقيه الإسماعيلي القاضي (النعمان المغربي المِصْري، ـ363هـ)(3) قوله: «ورُوِّينا عن عَمْرو بن أُذَيْنَة، وكان من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمَّد، (ص)، أنَّه قال: دخلتُ يومًا على عبدالرحمن بن أبي ليلى بالكوفة، وهو قاضٍ، فقلتُ: أردتُ، أصلحك الله، أن أسألك عن مسائل. وكنتُ حديث السِّن. فقال: سَلْ، يا ابن أخي، عمَّا شِئت! قلتُ: أخبِرْني عنكم، معاشرَ القضاة، تَرِدُ عليكم القضيَّة في المال والفَرْج والدَّم، فتقضي أنت فيها برأيك، ثمَّ تَرِد تلك القضيَّة بعَينها على قاضي مَكَّة، فيقضي فيها بخلاف قَضِيَّتك، ثمَّ تَرِد على قاضي البَصْرة، وقاضي اليَمَن، وقاضي المدينة، فيقضون فيها بخلاف ذلك، ثمَّ تجتمعون عند خليفتكم الذي استقضاكم فتُخبرونه باختلاف قضاياكم، فيصوِّب رَأْيَ كلِّ واحدٍ منكم، وإلاهكم واحدٌ ونبيُّكم واحدٌ ودِينكم واحدٌ! أ فأمرَكم الله عزَّ وجلَّ بالاختلاف فأطعتموه؟! أم نهاكم عنه فعصيتموه؟! أم كنتم شركاء الله في حُكمه؛ فلكم أن تقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله دِينًا ناقصًا؛ فاستعان بكم في إتمامه؟! أم أنزل الله تامًّا؛ فقصَّر رسول الله، (ص)، عن أدائه؟! أم ماذا تقولون؟ فقال: من أين أنت يا فَتَى؟ قلتُ: من أهل البَصْرة. قال: من أيِّها؟ قلتُ: من عبد القَيس. قال: من أيِّهم؟ قلتُ: من بني أُذَيْنَة. قال: ما قرابتك من عبد الرحمن بن أُذَيْنَة؟ قلتُ: هو جَدِّي. فرحَّب بي وقرَّبني...».
وهكذا صاغ (الشَّريف الرَّضِي) هذه الحكاية- التي دار حِوارها بين (ابن أبي أُذَيْنة) و(عبدالرحمن بن أبي ليلى)- ليشكِّل منها خُطبةً، أو كلامًا، ينسبه إلى (عليٍّ) في «نَهْج البلاغة»!
ـ عجيب ما أسمع! وهذا، إذن، ما كان يدفع دائمًا كلَّ ناقدٍ للتُّراث العَرَبي النثري إلى الشكِّ والارتياب في ذلك الخليط الذي قمَّشه (الرَّضِيُّ) ونسبَه، بقضِّه وقضيضه، إلى (أبي الحَسَن، رضي الله عنه).
ـ نعم. لقد كان يفعل ذلك تكثُّرًا ومفاخرةً، إمَّا عن لَبسٍ أو تلبيس. لكنَّ هذا لم يَبْدُ كافيًا عند بعض لاحقيه، من المتحمِّسين أكثر منه، فنهضوا إلى الاستدراك عليه؛ إذ لم يشف غليلهم حجم كتاب «النَّهْج». وقد بلغ المستدرِكون خمسة، لعلَّ آخِرهم (محمَّد باقر المحمودي)، الذي ألَّف كتابًا سمَّاه «نَهْج السعادة في مستدرك نَهْج البلاغة»، وهو موسوعةٌ ضخمة، تقع في مجلَّداتٍ ثمانية!(4)
[للحديث بقيَّة].
***
أ. د.عبد الله بن أحمد الفَيفي
.........................
(1) يُنظَر: السيد، صبري إبراهيم، (1986)، نَهج البلاغة: نسخةٌ جديدةٌ محقَّقةٌ وموثَّقةٌ تحوي ما ثبتت نسبته للإمام عَليٍّ (رضي الله عنه وكرَّم الله وجهه) من خُطَب ورسائل وحِكَم، (الدوحة: دار الثقافة)، 24.
(2) يُنظَر: الخطيب، عبد الزهراء، (1985)، مصادر نَهْج البلاغة وأسانيده، (بيروت: دار الأضواء)، 1: 363- 366.
(3) (1963)، تحقيق: آصف بن علي أصغر فيضي، (القاهرة: دار المعارف)، 92- 93.
(4) يُنظَر: الخطيب، 1: 267- 271.