قضايا

مجيدة محمدي: حقوق الإنسان بين المعايير الإنسانية والأساليب التوظيفية

الإيجابيات والسلبيات

المقدمة: الصراع بين المثاليات والممارسة
تُعَدُّ حقوق الإنسان إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية الحديثة، حيث تجسدت في مواثيق دولية مثل "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" (1948) و"العهدين الدوليين للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية" (1966). لكن الفجوة بين المبادئ النظرية والتطبيق العملي تظل واسعة، مما يدفعنا إلى تسليط الضوء على الثنائية الجدلية بين المعايير الإنسانية المثالية والأساليب التوظيفية التي تعكس الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي المعقد. هذا المقال يستكشف هذه الثنائية عبر تحليل معمق للجذور التاريخية، والآليات التنفيذية، والإشكاليات الناجمة عن التوظيف الانتقائي لحقوق الإنسان.
الفصل الأول: تطور المعايير الإنسانية وتجذُّرها الفلسفي
1 - الجذور التاريخية والفكرية:
نشأت فكرة حقوق الإنسان من تراكم فلسفي وديني وقانوني عبر الحضارات، بدءًا من "قوانين حمورابي" و"العهد الميسوبوتامي"، مرورًا بالديانات السماوية التي أكدت على كرامة الإنسان، ووصولًا إلى عصر التنوير الأوروبي الذي صاغ مفاهيم "الحقوق الطبيعية" (جون لوك، روسو). ومع ذلك، فإن الصيغة العالمية المعاصرة لهذه الحقوق تشكلت كرد فعل على فظائع الحرب العالمية الثانية، حيث سعت الأمم المتحدة إلى تجسيد مبادئ المساواة والحرية في إطار قانوني ملزم أخلاقيًا، وإن لم يكن دائمًا فعّالًا.
2 - الإطار القانوني الدولي:
تشكل المنظومة الدولية لحقوق الإنسان من مجموعة معاهدات تتراوح بين الإلزام القانوني (مثل اتفاقيات جنيف) والإلزام الأخلاقي (مثل الإعلانات غير الملزمة). وتُقسَم الحقوق إلى ثلاثة أجيال:
الجيل الأول: الحقوق المدنية والسياسية (الحق في الحياة، المحاكمة العادلة).
الجيل الثاني: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (الحق في التعليم، الصحة).
الجيل الثالث: الحقوق الجماعية (حق تقرير المصير، البيئة الصحية).
الفصل الثاني: الآليات التوظيفية بين الإرادة السياسية والمصالح
1 - آليات التنفيذ الرسمية:
تعتمد الدول والمنظمات الدولية على آليات متعددة لترجمة المعايير إلى واقع، منها:
اللجان الأممية: مثل لجنة حقوق الإنسان ومجلس حقوق الإنسان، التي ترصد الانتهاكات عبر تقارير "الاستعراض الدوري الشامل".
المحاكم الدولية: مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، التي تحاكم مجرمي الحرب، لكنها تواجه انتقادات لتركيزها على دول أفريقيا.
الضغط الدبلوماسي: كالعقوبات الاقتصادية أو الحظر الجوي، كما في حالة جنوب أفريقيا خلال حقبة الفصل العنصري.
2 - دور المنظمات غير الحكومية (NGOs):
تلعب منظمات مثل "العفو الدولية" و"هيومن رايتس ووتش" دورًا محوريًا في فضح الانتهاكات عبر تقارير موثقة، لكنها تُتهم أحيانًا بالانحياز الأيديولوجي أو تبني أجندات غربية.
الفصل الثالث: الإيجابيات: إنجازات لا يمكن إنكارها
1 - انتصارات تاريخية:
إسقاط الأنظمة العنصرية: نجاح الضغط الدولي في إنهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا.
حماية الفئات الضعيفة: اتفاقيات منع الاتجار بالبشر وحماية اللاجئين (اتفاقية 1951).
تمكين المرأة: اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو 1979).
3 - تعزيز الوعي العالمي:
أصبحت حقوق الإنسان لغة مشتركة تعبر عن ضمير عالمي، مما ساهم في:
خلق حركات اجتماعية عابرة للحدود (مثل حركة #BlackLivesMatter).
دمج الحقوق في السياسات التنموية (أهداف التنمية المستدامة 2030).
الفصل الرابع: السلبيات: الفجوة بين الخطاب والممارسة
1 - الانتقائية والازدواجية:
توظيف الحقوق كأداة سياسية: كاستخدام الولايات المتحدة لخطاب حقوق الإنسان لتبرير غزو العراق (2003)، بينما تتغاضى عن انتهاكات حلفائها ، خاصة إسرائيل التي تتنصل وتتجاوز كل هذه القرارات وتواصل انتهاكها احقزق الشعب الفلسطيني ، والحرب الاخيرة على غزة اكبر دلبلا على ذلك مع التجرأ على احتلال دول معترف بها دوليا كسوربا ولبنان.
التجاهل المنظم للحقوق الاقتصادية: ففي حين تُدان انتهاكات الحريات السياسية في فنزويلا، تُهمش معاناة الشعوب من الفقر المدقع بسبب سياسات صندوق النقد الدولي.
2 - التحديات البنيوية:
سيادة الدولة vs. العالمية: تتعارض مبدأ سيادة الدولة مع تدخل المجتمع الدولي، كما في حالة الصين والأويغور.
التبعية المالية: تعتمد العديد من المنظمات الحقوقية على تمويل غربي، مما يحد من مصداقيتها في الجنوب العالمي.
3 - الإشكالية الثقافية:
يثير النموذج الغربي لحقوق الإنسان إشكالات في مجتمعات تُقدِّم القيم الجماعية على الفردية، كما في النقاش حول عقوبة الإعدام في الدول الإسلامية أو حقوق المثليين في أفريقيا.
الفصل الخامس: نحو نموذج أكثر شمولية: اقتراحات للتطوير
1 - إصلاح البنية الدولية:
دمقرطة صنع القرار: تقليص هيمنة الدول الكبرى في مجلس الأمن.
تعزيز المحاسبة: توسيع اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليشمل جرائم الشركات متعددة الجنسيات.
2 - تعزيز الحوار الثقافي:
الاعتراف بالتعددية الثقافية دون التخلي عن الحد الأدنى من الحقوق غير القابلة للتصرف، عبر آليات مثل "مبدأ التدخل الإنساني المُتدرج".
3 - تمكين الجهات المحلية:
دعم منظمات المجتمع المدني في الجنوب العالمي لقيادة الحملات الحقوقية بدلًا من الاستعاضة عنها بمنظمات غربية.
الخاتمة: حقوق الإنسان كمسيرة متواصلة
ليست حقوق الإنسان نصوصًا جامدة، بل هي مشروع ديناميكي يتطلب مراجعة مستمرة لمواءمته مع تعقيدات الواقع. فبينما تظل المعايير الإنسانية ضرورية كبوصلة أخلاقية، فإن التوظيف الفعّال لها يحتاج إلى إرادة سياسية شجاعة، وإلى وعي جماعي يُقدِّم العدالة على المصالح الضيقة. في هذا السياق، قد يكون من المفيد استعادة مقولة الفيلسوف "إيمانويل كانت": "عامِل الإنسان دائمًا كغاية، وليس كمجرد وسيلة"، وهي القاعدة التي إن التزم بها العالم، ستذوب الفجوة بين الخطاب والممارسة.
***
مجيدة محمدي – شاعرة وباحثة تونسية
........................
المصادر:
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)
- العهدان الدوليان للحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)
- قوانين حمورابي
- أفكار التنوير لجون لوك وجان جاك روسو
- اتفاقيات جنيف
- اتفاقية 1951 لحماية اللاجئين
- اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979)
- تقارير من منظمات حقوق الإنسان (منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش)
- المحكمة الجنائية الدولية (ICC)
- مقولات وإرث إيمانويل كانت

في المثقف اليوم