قضايا

محمد الربيعي: التعليم العالي في الدول العربية

امام تحديات وفرص الذكاء الاصطناعي في عام جديد

مع اطلالة عام جديد، يواجه التعليم العالي في الدول العربية مفترق طرق حاسما، حيث يتداخل التطور الهائل للذكاء الاصطناعي مع تحدياته المتراكمة، ليشكل فرصة ذهبية للتطوير او خطرا محدقا بالتراجع. هذا التطور، الذي يحمل في طياته امكانات ثورية لخدمة المعرفة والارتقاء بالتعليم، يفرض علينا في الوقت نفسه تحديات وجودية تستدعي وقفة جادة من التامل والتفكير العميق، خاصة وان التعليم العالي يعتبر قاطرة التنمية وبناء المجتمعات في الوطن العربي.

ان احد اخطر التحديات التي نواجهها كاكاديميين في المنطقة العربية هو التعامل مع تدفق المعلومات المتسارع، فالكم الهائل من البيانات لم يعد هو المشكلة، بل كيفية غربلة هذه البيانات وتمييز الغث من الثمين، الحقيقة من الوهم. هنا يظهر الذكاء الاصطناعي كاداة ذات حدين، فهو قادر على كشف الحقائق ومحاربة الاخبار المضللة، ولكنه في الوقت نفسه يمكن ان يستخدم لخلق "وقائع خيالية" من خلال نشر معلومات مضللة مخصصة تستهدف عواطفنا وتحيزاتنا. هذا الواقع يلقي بظلاله القاتمة على العملية التعليمية في الجامعات العربية، حيث بات لزاما على التدريسيين والباحثين والطلبة على حد سواء امتلاك مهارات عالية في التعامل مع المعلومات الرقمية وتقييم مصداقيتها، وتحويلها الى معرفة نافعة تساهم في بناء المستقبل.

هذا التحدي يمتد ليهدد بشكل خطير المؤسسات الاكاديمية التي لطالما كانت منارات للمعرفة والحقيقة في العالم العربي، فمع الازدياد المطرد لحملات التضليل الممنهجة وعمليات التزوير والافتراس العلمي التي تستغل ادوات الذكاء الاصطناعي، ليس فقط تتاكل الثقة في هذه المؤسسات، بل يزداد بشكل مقلق عدد "المتعلمين الجهلة" و "الاكاديميين المزيفين" الذين يفتقرون الى الادوات المعرفية والمهارات اللازمة للتمييز بين الحقيقة والزيف، ما يضعف بشكل كبير قدرة المجتمع على مواجهة الاكاذيب والتصدي لها. هنا، يبرز دورنا كاكاديميين في الدول العربية في جعل مؤسساتنا التعليمية حصنا منيعا يقف في وجه هذا الخطر المحدق، خطر انتشار التزوير والتضليل والنشر الزائف، من خلال اصلاح جاد للتعليم وتطوير مناهج دراسية محدثة تركز بشكل اساسي على التفكير النقدي وتحليل المعلومات، بالاضافة الى وضع برامج تدريبية متخصصة تمكن طلبتنا من التعامل بفعالية مع تحديات العصر الرقمي ومخاطره المتزايدة. يجب ان ندرك ان صمتنا او تقاعسنا عن هذا الدور سيساهم في تعميق الازمة وتفاقمها، ما يهدد مستقبل التعليم والمعرفة في اوطاننا.

الامر لا يتوقف عند هذا الحد، فالخطر الاكبر يكمن في امكانية استخدام الذكاء الاصطناعي للتلاعب والسيطرة على الافراد والمجتمعات من خلال الدعاية المخصصة والتلاعب بتدفق المعلومات، ما يمكن جهات خفية من التاثير على الراي العام وتوجيه السياسات وتغيير السلوك الفردي، وهو ما يهدد اسس البناء السليم للفرد والمجتمع في المنطقة.

لذا، فان مواجهة هذه التحديات المتنامية التي يفرضها الذكاء الاصطناعي تتطلب منا كاكاديميين في الدول العربية تبني استراتيجية شاملة ترتكز على عدة محاور متكاملة، اولها دمج التفكير النقدي في صلب المناهج الدراسية، حيث يجب ان نعيد النظر في مناهجنا لتضمين مهارات التفكير النقدي والتحليلي في جميع التخصصات، وتمكين طلبتنا من فحص المعلومات وتقييمها بموضوعية، وتجاوز الانجرار وراء العواطف والتحيزات، وثانيها توفير برامج تدريبية متخصصة للتدريسيين العرب لتمكينهم من استخدام ادوات وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، وتحسين جودة التدريس وتوفير تجارب تعليمية مخصصة للطلبة، تراعي الفروق الفردية بينهم، واخيرا يجب على مؤسساتنا التعليمية الانفتاح على التعاون مع المجتمع ومؤسسات الدولة والمنظمات والجمعيات غير الحكومية في الوطن العربي، وبناء شراكات فاعلة مع الجامعات والمؤسسات البحثية العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتبادل الخبرات والمعلومات، والاستفادة من افضل الممارسات العالمية.

في هذا العام الجديد، ندعو جميع الاكاديميين في الوطن العربي الى ان يكونوا في طليعة المستعدين لمواجهة تحديات العصر الرقمي، والعمل معا لبناء مستقبل يسخر فيه الذكاء الاصطناعي لخدمة التعليم والمعرفة والتنمية في بلداننا، مع الحفاظ على قيمنا الانسانية والدفاع عن حرياتنا الاكاديمية التي تتاكل تدريجيا. هذا ليس خيارا، بل هو ضرورة حتمية لبناء مستقبل مزدهر لاجيالنا القادمة.

***

ا. د. محمد الربيعي

بروفسور متمرس ومستشار دولي مهتم بالعلوم والتكنولوجيا في العالم العربي، جامعة دبلن UCD

 

في المثقف اليوم