قضايا
محمد الزكري: الاستبداد المستنير.. هل يمكن أن يكون مخرجًا من أزمة أوروبا؟
تستكشف هذه المقالة مفهوم الاستبداد المستنير (Enlightened Despotism) كأنموذج تاريخي يمكن النظر إليه كحل محتمل للأزمات المعاصرة التي تواجه أوروبا. من خلال تحليل مبادئ هذا النمط من الحكم—المرتكزة إلى الإصلاحات التنويرية في القرن الثامن عشر—وعلاقته بفلسفات كل من آدم سميث (Adam Smith)، وألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville)،
وكارل شميت (1888–1985) Carl Schmitt، وميشيل فوكو (Michel Foucault)، تتناول المقالة ما إذا كانت دروس الاستبداد المستنير تقدم رؤية لمواجهة انهيار الدولة، التفاوت الاقتصادي، والتفكك الاجتماعي في أوروبا اليوم.
هذه المقالة تتفاعل مع كتابات جورجيو أغامبين (Giorgio Agamben) بتصرف وفهم معدل عنه وتتساءل: لماذا هناك محاولات إحياء الملكيات في أوروبا وعودة قوى اليمين المحافظ إلى الواجهة السياسية؟ وهل هذا انعكاس لإرهاصات كونية أرهقتها طبيعة الديمقراطيات البرلمانية؟ علما أن الأروبيين يصفون دور البرلمانات أحيانًا ب "بيوتات الكلام". فهذه البرلمانات تستهلك الساعات والأيام والاسابيع في الكلام وكثيرًا ما تُظهر عجزًا عن اتخاذ قرارات حاسمة تمس القضايا الجوهرية التي تهم الناس في حياتهم اليومية. في المقابل، تُبرز الملكيات الخليجية نموذجًا متفردًا يستقطب الاهتمام العالمي، حيث تجمع بين الحزم في القيادة والعدالة الاجتماعية، مما يجعلها مثالًا كونياً جديرًا بالاقتداء.
لقد كتبت مقالة بعنوان " الملكيات الحازمة العادلة: نموذج جيد للعالم؟" لكي أتحدث الى محبي جورجيو أغامبين أننا في دول الخليج العربي نعيش في أجواء الدولة المستقرة على عكس الدولة الأوربية المنهارة ففي هذا النموذج الخليجي، الذي يحقق التوازن بين تأمين احتياجات المواطنين وضمان الاستقرار الوطني، يعيد تعريف مفهوم الملكية الحديثة في سياق عالمي يتوق إلى أنظمة حاكمة قادرة على تقديم حلول عملية وفعالة. ولعل الرغبة المتزايدة في استلهام هذا النموذج تشير إلى إدراك متزايد بأن الملكيات الحازمة ذات الطابع التنويري قد تكون الخيار الأفضل لإدارة شؤون المجتمعات في زمن يشهد اضطرابًا سياسيًا واقتصاديًا على مستوى العالم.
أوروبا في بحث عن الحلول
تواجه أوروبا اليوم أزمة مستدامة تتجلى في ارتفاع معدلات التفاوت الاجتماعي، تآكل الطبقة الوسطى، وعدم الاستقرار الاقتصادي. أدت الإهمال في توفير الطاقة بأسعار معقولة والتسييس المتزايد للموارد إلى تفاقم هذه المشكلات، مما خلق حالة وصفها البعض بـ"منطقة استثناء مستدامة" (Liminal Zone). هذه الأزمات أدت إلى تزايد الإحباط من الأنظمة الديمقراطية التقليدية، ودعت البعض إلى البحث عن نماذج بديلة للحكم.
أحد هذه النماذج هو الاستبداد المستنير (Enlightened Despotism) Israel, J. I. 2006) )، وهو شكل من الحكم المطلق ظهر في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، حيث نفذ الملوك إصلاحات مستوحاة من عصر التنوير لتعزيز دولهم مع الحفاظ على سيادتهم. تسعى هذه المقالة إلى إعادة تقييم هذا المفهوم، مع التركيز على صلته بالسياق الأوروبي الحديث من خلال عدسة أفكار كل من آدم سميث (1723–1790)، ألكسيس دو توكفيل (1805–1859) ، وميشيل فوكو (1926–1984).
تعريف الاستبداد المستنير
يشير مصطلح الاستبداد المستنير (Enlightened Despotism)، أو كما يُعرف بالفرنسية Despotisme éclairé، إلى نظام حكم ظهر في أوروبا في القرن الثامن عشر، حيث مارس الحكام سلطات مطلقة لتنفيذ إصلاحات تقدمية مستوحاة من أفكار التنويري
Israel, J. I. 2006
من بين أبرز هؤلاء الحكام:
- فريدريك الثاني البروسي (Frederick II of Prussia) (1712–1786).
- كاترين العظمى الروسية (Catherine the Great of Russia) (1729–1796).
- جوزيف الثاني النمساوي (Joseph II of Austria) (1741–1790).
ركز هؤلاء الحكام على إصلاحات إدارية، وتعزيز التسامح الديني، والتنمية الاقتصادية. ومع ذلك، لم يسعوا إلى إجراء تغييرات يمكن أن تقوض سلطاتهم أو تهدد النظام الاجتماعي القائم.
يلخص شعار جوزيف الثاني فلسفة الاستبداد المستنير: "كل شيء من أجل الشعب، ولكن لا شيء بمشاركة الشعب". في حين زعم هؤلاء الحكام أنهم يحكمون لصالح شعوبهم، بقي حكمهم استبداديًا في جوهره. لاحقًا، رأى الفيلسوف السياسي John Stuart Mil (1806–1873) جون ستيوارت ميل (Mill, 1863) أن الاستبداد قد يكون مبررًا في التعامل مع المجتمعات "غير المتحضرة"، بشرط أن يكون الهدف هو تحقيق التحسين.
إعادة النظر في الاستبداد المستنير في أوروبا المعاصرة
مع تزايد التفكك السياسي، صعود الشعبوية، وتصاعد الأزمات الاقتصادية في أوروبا، دعا البعض إلى الحكم المركزي القوي كوسيلة لتحقيق الاستقرار. تاريخيًا، نجح الاستبداد المستنير في معالجة الأزمات من خلال قيادة حاسمة ركزت على الإصلاحات البنيوية مثل تطوير الاقتصاد والتعليم.
في العصر الحديث، تظهر أوجه تشابه مع هذا النموذج في النقاشات حول التكنوقراطية (Technocracy)، حيث تُبرر القرارات السياسية بناءً على الخبرة العلمية بدلاً من الإرادة الشعبية. ومع ذلك، حذر ميشيل فوكو من أن هذه الأنظمة غالبًا ما تخفي نزعات سلطوية تحت ستار العقلانية والتقدم.
آدم سميث: الأخلاقيات والسوق
يشكل آدم سميث مرجعية محورية في النقاش حول الحوكمة، خاصة في السياق الاقتصادي الأوروبي. وبينما يُعرف غالبًا بكتابه ثروة الأمم (The Wealth of Nations) (1776) (Smith, 1776). فإن كتابه الأسبق نظرية العواطف الأخلاقية (The Theory of Moral Sentiments) (1759) (Smith, 1759). يقدم رؤى أخلاقية مهمة تتعلق بالسلوك البشري.
التعاطف والانسجام الاجتماعي
في كتابه نظرية العواطف الأخلاقية، شدد سميث على مفهوم "التعاطف" (Sympathy) كعنصر أساسي في العلاقات الإنسانية. يرى أن المجتمعات تتأسس على التفاهم المتبادل والمسؤولية الأخلاقية، وهي مبادئ يجب أن توجه الأنظمة الاقتصادية والسياسية. (Smith, 1759)
أخلاقيات السوق
في ثروة الأمم، أوضح سميث آليات السوق الحرة، لكنه حذر من الإفراط في الاعتماد على هذه النظم. انتقد الممارسات الاحتكارية مثل شركة الهند الشرقية (East India Company)، وحذر من سياسات "العلاج بالصدمة" (Shock Therapy) التي تركز على الكفاءة على حساب رفاهية الأفراد. فضل سميث التغيير التدريجي والسياسات التي تعوض المتضررين، وهو ما يتماشى مع الانتقادات المعاصرة لنهج اتخاذ القرارات السريع والتكنوقراطي. (Smith, 1776)
فوكو وتوكفيل: التحول التكنوقراطي
بينما ركز سميث على الأخلاقيات الاقتصادية، قدم كل من ميشيل فوكو وألكسيس دو توكفيل تحليلات نقدية للعواقب السياسية للحكم المركزي.
فوكو: الحوكمة والاستبداد
في ولادة البيوبوليتيك (The Birth of Biopolitics) (1979)، سلط فوكو الضوء على النزعات السلطوية في النظم التي تعتمد بشكل مفرط على "حقائق" علمية أو اقتصادية. تناول كيف استخدم الفيزوقراطيون (Physiocrats)، وهم اقتصاديون فرنسيون من القرن الثامن عشر، القوانين الطبيعية لتبرير الحكم الاستبدادي، مما أدى إلى تهميش المعارضة السياسية وتقويض الحريات الفردية.
توكفيل: الإصلاح والحرية
في النظام القديم والثورة (The Old Regime and the Revolution) (1856)، رأى توكفيل (Tocqueville, 1856) أن الثورة الفرنسية تأثرت بفكرة الاستبداد المستنير كما طرحها الفيزوقراطيون. أشار إلى أن الإصلاحات المفروضة "من الأعلى" فشلت في تمكين المواطنين، مما أدى إلى تركيز أكبر للسلطة (Tocqueville, 1856).
إعادة النظر في الاستبداد المستنير من خلال منظور كارل شميت
مع تزايد الأزمات الأوروبية التي تهدد الأنظمة الديمقراطية التقليدية، يُعاد التفكير في الاستبداد المستنير ليس فقط كنموذج تاريخي، ولكن أيضًا كإطار معاصر لإدارة الأزمات. يظهر هنا بُعدٌ جديد يمكن إضافته إلى النقاش عبر أفكار كارل شميت حول السيادة وحالة الاستثناء، وهو ما يثري فهمنا لمفهوم الاستبداد المستنير.
كارل شميت والاستبداد المستنير: السيادة كأساس للاستقرار
يجادل شميت بأن السيادة هي القدرة على اتخاذ القرار في لحظات الأزمات وحالات الاستثناء، حيث تصبح القوانين العامة عاجزة عن معالجة الظروف الطارئة. وفقًا لشميت، يتقاطع هذا المفهوم مع المبادئ الأساسية للاستبداد المستنير، الذي يركز على السلطة المطلقة المدفوعة برؤية إصلاحية تهدف إلى تعزيز الاستقرار والرفاهية العامة.
شميت يرى أن حالة الاستثناء (State of Exception) هي أداة السيادة الحقيقية، وهي تتجاوز حدود القوانين العادية من أجل حماية النظام العام. هذا المفهوم يُذكرنا بفلسفة جوزيف الثاني: "كل شيء من أجل الشعب، ولكن لا شيء بمشاركة الشعب"، حيث يكون الهدف النهائي هو استدامة الدولة وإعادة بنائها في أوقات الأزمات.
السيادة مقابل الديمقراطية
انتقد شميت النظم الليبرالية التي تتجنب الاعتراف بسلطة سيادية واضحة، معتبراً أن ذلك يضعف قدرتها على إدارة الأزمات. هذا التحدي يتماشى مع الانتقادات التي وُجهت للاستبداد المستنير، حيث ركز النقاد مثل ألكسيس دو توكفيل على عجز الإصلاحات التي تُفرض "من الأعلى" عن تحقيق المشاركة الفعالة للمواطنين.
التحدي المعاصر: الكفاءة مقابل الحرية
بينما يحذر فوكو من مخاطر النزعات السلطوية المستترة تحت ستار الكفاءة العلمية أو العقلانية، يقدم شميت بُعدًا إضافيًا يتضمن ضرورة اتخاذ قرارات حاسمة خلال الأزمات، حتى لو كانت هذه القرارات تتطلب تجاوز القوانين القائمة. هذه الرؤية تضيف عمقًا إلى النقاش حول إمكانية الاستبداد المستنير في تقديم حل للأزمات الأوروبية، حيث يمكن تصور نظام حكم يستمد شرعيته من كفاءته في إدارة الأزمات بدلاً من الالتزام التام بالمبادئ الديمقراطية.
خلاصة الدمج بين شميت والاستبداد المستنير
يمثل دمج أفكار كارل شميت في النقاش حول الاستبداد المستنير تطعيمًا نقديًا لفهمنا للعلاقة بين السلطة والإصلاح. من خلال التركيز على السيادة وحالة الاستثناء، يمكننا استكشاف آفاق جديدة للتعامل مع تحديات العصر الحالي. ومع ذلك، يبقى السؤال الأساسي: هل يمكن لهذه النماذج أن تُطبّق دون تهديد الحريات الأساسية؟
الدروس المستفادة من الاستبداد المستنير
يوفر الاستبداد المستنير دروسًا قيمة لمعالجة الأزمات الأوروبية المعاصرة، مع وجود بعض التحذيرات المهمة:
1. القيادة المركزية والكفاءة:
يوضح الاستبداد المستنير أهمية القيادة الحاسمة في تنفيذ الإصلاحات خلال الأزمات. ومع ذلك، فإن استبعاد المشاركة الشعبية قد يؤدي إلى فقدان الشرعية.
2. الأخلاقيات كأساس للحكم:
تؤكد أفكار سميث على ضرورة وضع الأخلاقيات والمسؤولية الاجتماعية في قلب السياسات العامة، خاصة عند معالجة عدم المساواة.
3. مخاطر التكنوقراطية السلطوية:
تشير انتقادات فوكو وتوكفيل إلى أهمية حماية الحريات الفردية ومنع تقليصها تحت مبررات الكفاءة والخبرة التقنية.
الخاتمة
تتطلب الأزمات الأوروبية الحالية إعادة التفكير في النماذج التقليدية للحكم. وبينما يوفر الاستبداد المستنير دروسًا حول التوازن بين السلطة والإصلاح، فإن قيوده—خاصة استبعاده للمشاركة الديمقراطية—يجب أن توجه التفكير المعاصر.
من خلال العودة إلى أعمال آدم سميث، كارل شميت، ميشيل فوكو، وألكسيس دو توكفيل، يمكننا فهم أفضل للتنقل بين الكفاءة والحرية لمعالجة انهيار الدولة وعدم المساواة الاجتماعية.
***
د. محمد الزكري
أنثروبولوجي بحريني
...................
المصادر
- الزكري، محمد. (2024، 26 نوفمبر). السيادة والاستبداد المستنير: منظور الألماني كارل شميت. صحيفة المثقف:
https://almothaqaf.org/qadaya/978633
- Foucault, M. (1979). The birth of biopolitics. Palgrave Macmillan.
- Hofmann, H. (2002). Legitimacy and the state of exception. Cardozo Law Review, 21(1), 49–64.
- Israel, J. I. (2006). Enlightenment contested: Philosophy, modernity, and the emancipation of man, 1670–1752. Oxford University Press.
- Kahn, P. W. (2011). Political theology: Four new chapters on the concept of sovereignty. Columbia University Press.
- Latour, B. (2005). Reassembling the social: An introduction to actor-network-theory. Oxford University Press.
- Mill, J. S. (1863). On liberty. Longman, Roberts & Green.
- Schmitt, C. (1921/2014). Dictatorship (M. Hoelzl & G. Ward, Trans.). Polity Press.
- Schmitt, C. (1985). Political theology: Four chapters on the concept of sovereignty (G. Schwab, Trans.). MIT Press.
- Smith, A. (1759). The theory of moral sentiments. A. Millar.
- Smith, A. (1776). An inquiry into the nature and causes of the wealth of nations. W. Strahan & T. Cadell.
- Tocqueville, A. (1856). The old regime and the revolution. Harper & Brothers.