قضايا

مراد غريبي: لولا النقد العقلاني لما كان التحقق الحضاري

"لقد تعلمت شيئا واحدا في حياتي الطويلة: أن كل علومنا، مقارنة بالواقع، بدائية وطفولية - ومع ذلك فهي أثمن شيء لدينا" (آينشتاين، من سنواتي الأخيرة، ص. 23)
كتب مؤخرا في مجلة الفيصل السعودية العدد 575-576، الدكتور زكي الميلاد المفكر الإسلامي السعودي مقالا مهما بعنوان: لولا أينشتاين لما كان كارل بوبر، حيث قارب بين الفكرين ومدى تأثير السابق للاحق مقتبسا العنوان من مقولة: (لولا نيوتن لما كان كانط)، حيث طرح فكرة عامة لما يتصل بتأثير آينشتاين في بوبر ، كل هذا جميل ومثير للنباهة لكن المثير في المقال ذو ارتباط بقضية أشار إليها المفكر الدكتور عبد الجبار الرفاعي في كتابه "مفارقات وأضداد في توظيف الدين والتراث" هذا الكتاب الذي يعتبر سابقة مميزة في راهن العقلانية النقدية العربية والإسلامية إن دامت بالطبع ليس بمستوى الجدلية البوبرية ولكن على الأقل نظم الأمور فيما يتعلق بالموتى والتراث وما أنتجته من الآثار، هناك من يستغرق في الثناء والتعظيم والتقدير لمفكر لدرجة التيه عن الواقع وهذا ما أشار إليه الأستاذ الدكتور الرفاعي: (لأننا محكومون بالتراث وقيمه وأحكامه، ترسخت لدينا تقاليد الاحتفاء المبالغ به بالأموات، والإفراط في الثناء على آثارهم، والإعلاء من قيمة منجزهم، وتجاهل ما أنتجته هذه الآثار من تعصبات وكراهيات وأحقاد وجروح نازفة في حياتهم وبعد وفاتهم) هذا الواقع جعل العقلانية النقدية بيننا كعرب ومسلمين إلحاد وكفر لعل ذلك لكون كارل بوبر رائدها في الزمن المعاصر وهو اللا أدري !!
فكرة التقليد على طول الزمن والجغرافية العربية منذ عدة قرون ترسخت وتعمقت في مفكرة الإنسان والمجتمع، فالمفكر أي مفكر بعد رحيله يأتي بعده طوفان من التضخيم والنفخ والتبجيل والتقديس لآثاره عبر طباعة مجموعة آثاره وتراثه وآرائه دون الاكتراث بماهية هذا التراث أو دراسته وتمحيصه بل نجتهد ونعض على النواجذ لننافح عليه بتعصب وتطرف، وحتى لو كان هذا المفكر مميز وفذ وفيلسوف وما هنالك من مسميات ترفع له، أليس الأحرى هو إعطاءه حجمه الذي يستحقه بكل موضوعية وعدل وأمانة من أجل الارتقاء بالعقل العربي والمسلم من سفوح التقليد والأدلجة والطائفية والتحيزات الفكرية والحزبية ، نحو قمم التفكير الحر والعقلانية الناقدة بحكمة وروية والقراءة الموضوعية للفكر وأصحابه مع طرح سؤال مصيري: ماذا بعد فلان؟
لا ريب أن التعامل العاطفي مع أهل الفكر والثقافة والفلسفة لا ينتج وعيا، لأن التموضع في إطار التقليد محال أن يفضي إلى أي تجديد وإصلاح ونهضة ، فالأمم التي تقدمت عرفت كيف تتعامل مع التراث الفكري والديني وما هنالك، حيث اتجهت نحو العقلانية النقدية التي لا تؤمن بالحقيقة المطلقة أو احتكارها ، بل على العكس السعي نحو خلق مناخ ثقافي يناقش الأفكار ولا يقدسها وأصحابها بل يفكر بحرية وموضوعية من أجل فتح آفاق العلم لا الوهم والشعوذة والأسطورة ، حيث صدق آينشتاين حين قال: "الشيء المهم هو عدم التوقف عن طرح الأسئلة" وهذا الأخير تخلى عن الوضعية في سنواته الأخيرة وأسر لبوبر أنه يأسف لدعمه موقفا لا يعتبره الآن خاطئا فحسب، بل خطيرا على التطور المستقبلي للعلوم الفيزيائية وفلسفتها. هكذا المفكر الحر في أواخر حياته لا يخجل من البوح بما يراه خطيرا على الوعي العلمي والفكري والثقافي والديني، للأسف واقعنا العربي والإسلامي عانى ولا يزال وسيظل يعاني مادام التقليد الفكري والرثاء الثقافي كاسحا للعقول والجماعات والتيارات والمؤسسات الأكاديمية والإعلام، بدلا من النقد الموضوعي البناء في مجتمع مفتوح كما أسماه بوبر، أي الفلسفة المنبوذة في واقعنا ، الفلسفة التي نفهمها شيء معايش وذو صلة بالجميع، وليست نشاطاً أكاديمياً أو تخصصاً - وبالتأكيد ليست شيئاً يتكون في المقام الأول من دراسة كتابات الفلاسفة المحترفين. بل هي وعي تصنعه اختبارات نقدية للنظريات والأفكار والمطارحات والواقع، وبالتالي العديد من المناقشات حول "المعتقدات والمفارقات" والعديد من التلميحات إلى مفكري الماضي والحاضر خاصة، بينما فقر التقليد بلغة المتفقهة لا يمكنه تطوير هذه الاهتمامات المعرفية لأنها تتطور بالتوازي مع تطور الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي للمجتمع، لأن فضيحة التقليد أنه ذو طابع شمولي في التعامل مع الأفكار والأشخاص والأشياء، وهذا يشبه في بعض تمثلاته التاريخانية، حيث التقليد ينطلق من التاريخ بمعنى الماضي والاستغراق فيه وتزييف إشكالاته ومشكلاته بدل حلها …
بالمختصر ليس بمقدورنا ولا قدرنا أن نبقى نجتر المواضيع والمقاربات والأفكار والأزمات، الخطورة تكمن في أننا أصبحنا ندمن الاعجاب من كثرة ادماننا على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي بدلا من ادمان الدهشة والفضول في قراءة صفحات الواقع المنغلق والمعقد والمغلوط والخطير والفوضوي ، ليس قدرنا أن نستغرق في المدح والصياح لأفكار غيرنا سواء من هم منا أو أولئك البعيدين عن واقعنا والمؤثرين فينا ، يكفي ألا نبخس الناس أشياءهم ونركز في وعينا الذاتي ووعينا لأهمية المنهج في المعرفة وجدلية النظام في الواقع، فتحقق المشهد الثقافي النقدي العربي والإسلامي للواقع والخطاب والتفاؤل بحاجة لصدمة نقدية عميقة وطويلة المدى حتى يتم فرز مقتضيات التفكير النقدي في العالم العربي والإسلامي لمواجهة موجة تقديس التراث الفكري والديني والثقافي ورجاله، بالتوازي مع أعلى فضول للتحقق من حيثياته ومخزوناته ومناهجه ولغته...
من خلال كل الكتابات النقدية الهامة للواقع من طنجة إلى مسقط والملاحظات والمنبهات للجيل الجديد، لابد أن نتذكر أن قيمنا ومبادئنا تتشابك مع بعضها البعض في تسلسل هرمي، مثل الدمى الروسية: دمية كبيرة تخفي أخرى وتخفي أخرى.... بالنسبة لكل واحد منا، هناك قيم معينة أكثر أهمية من غيرها. بينما في الواقع، أعتقد أن بعض القيم والمبادئ أكثر أهمية من غيرها حسب مراحل حياتنا. لذلك أقول: لولا النقد العقلاني ما تحققنا من معارفنا ولا وعينا قيم ومبادئ الرقي والتقدم والكرامة التي ترتبط بدقة بحقيقة معتقداتنا وبالأساس المبادئ الإنسانية: إعطاء معنى للحياة الكريمة، والتصرف بوعي، وحب واحترام الآخرين، وتغذية الروابط بين الناس، والتواصل مع الكل دون احتكار الحقيقة..
***
بقلم: أ. مراد غريبي

في المثقف اليوم