قضايا

مجدي ابراهيم: العمامة المقدسة

لا تحتاج الدعوة الدينية لشئ أكثر من التحقق برافدين: العلم والنور. ولكن يُلاحظ أن الذين يكتبون في الدين فضلاً عن الذين يقولون فيه ما ليس فيه، يركبهم غرور أجوف لا يستند لا على العلم، ولا على النور؛ بل على الصلف وحب الظهور وسياق الناس بالإكراه إلى حظيرة الإيمان، مع أن الدعوة الدينية شريفة سامية هى من معدن الرسالة تستقي مددها.
قال صاحبي وهو من ذوي العمائم المقدسة: لم ترد "التناكة" باسم الدين في الذهن بالمرة، ولكننا حين نكتب في الدين نكتب لأنفسنا لعل شيئاً ممّا كتبناه يرسخ في النفس فيقوِّيها على الهداية ويلزمها الاستقامة. وهذا هو القصد حتى إذا صادف توافقاً مع أحد فمسّ كلامنا فؤاده؛ فبها ونعمت، وإنْ لم يكن فالله من وراء القصد، وهو خير شاهد وخير معين.
قلت: وما الذي تراه من غرور بالعلم والعبادة، ومن تعالى بما ليس في الإنسان من حقائق بل متاجرة بالأكاذيب، ألم يكن الأمر بحاجة إلى تطهير؟ ثم استطرد ليصف مهمة التجديد التي يعتبرها في زماننا هذا مهمة شاقة، بل مستحيلة فرددت عليه قائلاً:
مهمة شاقة نعم. أمّا أن تكون مستحيلة أو شبه مستحيلة فلا؛ لأنها لو كانت مستحيلة لما وجد مجددون ومصلحون، وما تقدًمت الإنسانية قيد أنملة. الأصل يا صديقي هو الإمكان لا الاستحالة، وبالإمكان يقدم التفاؤل البناء على الهدم والإنكار، وليس التجديد هدماً ولا إنكاراً. وإنما تفاؤل بمستقبل إنساني أفضل وأرقى في ظل قيم جديدة تتجاوز وتستنير.
فالإنسان ليس من طبيعته الميل إلى التقوقع والخلود إلى الراحة، وإلا لما عمّر الأرض وصعد القمر وتحالف مع الشيطان، فهو ابن النضال مجبول على العزم والمضاء. غير أن التجديد في هذه المنطقة مشروط بشروط تستوفى في المجدد وفق تقدير شروط الاجتهاد، لكن البصيرة يا صديقي كالبصر أقل هفافة عابرة تؤثر فيها. والدين قائم على البصيرة ومن فقدها فقد الدعوة إلى الله على بصيرة، وفقد تباعاً التجديد في أسلوب الخطاب، ولم يعالج العارض الذي عرض لبصره حتى أعماه. خذ مثلا صارخاً على ما عساك هربت من التعليق عليه.
عندما اجتمع جلال الدين الرومي بـ شمس تبريزي للوهلة الأولى، كان الرومي ماسكاً بيده كتاباً، فأخذ التبريزي الكتاب من الرومي ومسكه بالمقلوب، وأخذ يتطلع فيه ثم رماه في النهر، فجن جنون الرومي وقال له: لماذا ألقيته في النهر، إنه علم، ولا توجد نسخة أخرى من الكتاب. غير أن التبريزي لم يكترث لحديث الرومي وقال: أتريد الكتاب؟ فقال الرومي: نعم فمد التبريزي يده في الماء وأخرج الكتاب سليماً، فتعجب الرومي، ولم يكد التبريزي يراه على هذا الحال حتى قال: أطلب علماً لا يمحوه الماء، علماً يثبت في القلب؛ فذهل الرومي وقال: أتبعك على أن تعلمني، فقال التبريزي: إنك لن تستطيع معي صبراً، قال الرومي: بل أصبر.
رد التبريزي: أريدك أن تأخذ جُرّة من الخمر وتطوف في المدينة لتبيعه، فقال الرومي: كيف أعمل هذا المحرم؟ فقال: كما تشاء. قال الرومي: أطلب مني شيئاً آخر فقال: لا أريد غير هذا.
ذهب الرومي ومكث الليل يفكر في الأمر ثم وافق. فأخذ جرة الخمر بملابسه وعمامته وهو يجوب الشوارع يبيع الناس الخمر، فقال الناس: جُن الرجل، وقال أناس آخرين: لقد فضحه الله، وهذه حقيقته. فعاد منكسراً ذليلاً إلى التبريزي وهو يقول: لم يشترِ مني أحد. قال التبريزي: هذا يكفي ألقِ ثيابك وأغسلها، وتطهر. فقال الرومي: ثم ماذا ؟ فقال لا شئ، بل أنت الآن إنسان عادي كنبتةٍ صغيرة، لقد كان على رأسك صخرة كبيرة من غرور عمامتك، وها قد كسرتها.
إنّما أردت أن أزيل عنك هذا العجب والشعور الدائم بالأنا؛ لترجع الى حقيقتك بلا عنوان ولا ألقاب، ترجع كما أنت وتنزع عن روحك كل ما يكدرها، وأن تذهب هذه الهيبة المصطنعة لرجال الدين على أنهم مقدّسون في أعين الناس.
***
بقلم: د. مجدي إبراهيم

في المثقف اليوم