قضايا

عبد الامير الركابي: الهوية الشرق متوسطية الابراهيمية والعصر (1)

لم تكن منطقة الشرق المتوسطي / العربي في وضع يؤهلها لكي تحضر فاعلة حين انبثقت الاله في الطرف المقابل من المتوسط  وفعلت فعلها في دفع وتسريع الاليات المجتمعية في المكان الاعلى والاكثر ديناميات ضمن صنفه المجتمعي الاحادي بحكم ازدواجيته الطبقية الاصطراعيه، هذا في الوقت الذي كانت منطقة شرق المتوسط ماتزال تعيش تحت طائلة الانقطاعية الانحطاطية الملازمه لتاريخها، والحاكمه لمساره كقانون متراوح دورات صعود وانقطاع. ومنذ 1258 يوم سقوط عاصمة الدورة الثانيه الامبراطورية بغداد، والمنطقة المشار اليها بحال انحدار، مظهره الابرز وقوعها تحت طائلة  وغلبة  البرانيه الشرقية  من متبقيات الدورة الثانيه الاسلاميه الشرق متوسطية، حيث تعاقب اشباه الامبراطوريات والدول المماليكيه  اليدويه، وصولا الى العثمانيه اخر محطاتها، قبل ان يتم الانتقال الى الصيغة البرانيه الاوربية الحالية المستمرة على انقاض العثمانية، باسم التوهمية النهضوية الحداثية الانتقاليه.

ولم يكن التعرف على الذاتيه امرا مرهونا فقط لمتوالية الانقطاع الانحطاطي والنهوض الدوراتي، بقدر ماكان بالاحرى مسالة متلازمة مع اجمالي العملية المجتمعية والبشرية ومراحل تطورها التاريخي، وبالذات بما يخص العقل البشري ومامتوفر له حتى حينه من قدرة وطاقة على الاستيعاب والادراك بازاء الظاهرة المجتمعية ومنطوياتها، الامر الذي جعل نقطة بعينها من الشرق الاوسط، هي الاعلى ديناميات بناء لبنيتها الاصطراعية الازدواجية المجتمعية، تعيش تاريخها الاطول بين التواريخ المجتمعية، وبعد دورتين وانقطاعين، الاول السومري البابلي الابراهيمي، والثاني العباسي القرمطي الانتظاري، من دون مقاربة مناسبة للجانب الجوهر والاساس كمنطوى وغاية غير مكشوف عنها النقاب، الظاهرة المجتمعية مرهونة لها، ومتجهه لبلوغها، الامر الذي لم تكن قد تهيأت اسبابه بعد.

ولم يكن المطلوب لهذه الجهه واردا اصلا لانه لم يكن قابلا للحضور من دون توفر اسباب تحققه على مستوى الظاهرة المجتمعية، لاوعيا وادراكا فحسب، بل ماديا وعلى صعيد وسيلة الانتقال/ الانتاج المطابقة للمطلوب ومايغدو واجبا مع اكتشاف الحقيقة المجتمعية، فلا يمكن التعرف على الازدواج المجتمعي الناظم لتاريخ المجتمعات،  وصولا للتفريق بين  اللاارضوية المجتمعية ومقابلها الارضوية المعاشة الى اليوم، ومنذ تبلور الظاهرة المجتمعية، من دون تبدل مجمل الحياة ووجهتها، ونوعها كليا، مابين اشتراطات الرضوخ للحاجاتيه  وحدود القدرة الجسدية، والذهاب للتحرر منها ومن وطاتها على العقل وحضوره المنتظرعلى انقاض الجسدية الحاجاتيه الارضوية الاحادوية الحالية، الموكولة طبيعة للانتاجية اليدوية وحدودها، وماتتيحه من افاق فعل حياتي، او مايعرف ب "الحضاري" الارضوي.

وحتى حينه والى ان يحصل الانقلاب الالي، تبقى الارضوية الجسدية غالبة ومهيمنه على العقل بصيغته الاولى، او وثبته  الابتداء مع الانتصاب على قائمتين واستعمال اليدين والنطقية، وماقد مر به الكائن البشري من حينه من احتبارات تمهيدية، وصولا الى "اللقاط والصيد" قبل دخول العتبة الختام من مساره الارتقائي المتواصل مابين "الحيوان" و "الانسان"، حيث " "الانسايوان" الحالي ينتظر الانقلاب الاكبر التحولي التاريخي، وهو مايفترض ان تتظافر لاجل بلوغه الانتقالة الفاصلة في وسائل الانتاج،  والانقلابيه العقلية،  او الوثبة العقلية الثانيه بعد تلك الاولى التي اعقبت الطور الحيواني من ترقي  ونشوئية الكائن الحي، وهو ماكان مرهونا بعمل البيئة وديالكتيكها كطبيعة مواكبة للكائن الحي،  راعية  ومقرره بالاشتراطات والاسباب لمساره الارتقائي المنتهي الى مابعد ارضوية، وهو ماتتكفل به الطبيعة من دون تدخلية ذاتية للحيوان، او الكائن البشري "الانسايوان"، حتى نهايات امده واللحظة الفاصلة في سيرورته.

هكذا يترقى العقل، من الغياب ابان الفترة الحيوانيه بظل هيمنه الجسدية شبه المطلقة، الى  الحضور الابتدائي  بعد الانتصاب واستعمال اليدين والنطقية، مع بلوغ الجسد حدود ترقية النهائية، الى   الانتقال الثاني الاعظم مع تجاوز القصورية الارضوية،  وتوفر اسباب التحولية المادية،  تقابلها اماطة اللثام عن  المنطوى المجتمعي، وتحديدا "اللاارضوية المجتمعية"  الجسدية وافقها الانتقالي الاكبر، بعد اطراح بقاياها العالقة،  ووقتها تتهيأ اسباب التحولية الانتقالية الفاصلة العظمى.

ماتقدم يضعنا بوضوح امام مهمة كونية متعدية للمكانيه والكيانيه، تعجز الارضوية عن رؤيتها او مقاربة نمطيتها، وبالذات كونها بدئية واساس تشكلي ابتدائي منطو على الحقيقة المجتمعية الكبرى الاساس، بما هي انتقالية تحولية من الجسدية الى العقلية، ومن الارض والكون المرئي،  الى الكون الاخر اللامرئي،كما وجدت في ارض سومر ابتداء، وكما تجسدت بعد اصطراع طويل تعبيريا كونيا نبويا حدسيا، بالابراهيمه، بصيغتها المحكومة لاشتراطات الحضور ضمن غلبة الارضوية اليدوية طويلة الامد، لانتفاء اسباب التحقق الانقلابي( ماديا وادراكيا) في حينه عند المبتدا،  لتعم مخترقة المجتمعات بغالبيتها بناء على ماتنطوي عليه من اسباب عامه ازدواجية غير مدركة، مرتكزها الازدواج التكويني البشري المجتمعي ( عقل / جسد)، عكس ماتعتقده الاحادية الجسدوية التي تجعل العقل اداة ملحقة بالجسد،  مدمجة به كعضو من اعضائه مثل اليد والعين والحاجب.

ليست المجتمعية هي ما نعيشه وعشناه او اعتقدنا اننا نعيشه، فالمعاش هو بالاحرى انتكاس ونقص  مادون مجتمعي، ارضوي يعاش يدويا تحت طائلة ووطاة الارضوية الجسدية واحكامها وممكناتها، بينما يكون العقل في حينه تحت فعل واثر الجسدوية الحاجاتيه، مايزال في العتبه الاولى من عتبات  وثبته الارتقائية، ينتظر التفاعلية التاريخيه المجتمعية ومساراتها عبر الدورات والانقطاعات الثلاث، وفعل الانتقال  الى الاله واحتداميتها وتحوراتها، وصولا الى التكنولوجيا العليا العقلية،  وقت تحين ساعة بلوغ عتبة الاكتمال التشكلي الضروري المقدر والحتمي بناء على اجمالي السياق الوجودي البشري، والحقبة الاخيرة المجتمعية منه بخصوصيتها، ودرجة ارتقاء العقل ضمنها.

واذن فلا ادراك او وعي بالمجتمعية الا بعد الالية ومرورها بالطور الاول التوهمي الاوربي الغربي الاحادي الاعلى، كذلك لاوجود ل الكائن "الانسان" الامن يومها، وعند تلك الساعة من التاريخ، حين يتحقق الانتقال وقتها من "الانسايوان"، وتنقلب شروط وموضوعات الفعل الحياتي، والمهمات الانتقالية التحولية الوجودية الحياتيه تكريسا للعقلية على حساب الحاجاتية الجسدية،  ذهابا لتقليصها والغائها(الحاجاتيه)، الى  العمرية حيث الانتقال من استبداد الموت الجسدي وسطوته المطلقة على العقل، ذهابا الى تحرر الاخير  بما يفضي لاضطلاعه بكينونته، ومايتفق مع طبيعته  الخلودية وجودا، تحقيقا للحلمية الغلغامشية المبكرة بشرط اطراح الجسدية.

ـ يتبع ـ

***

عبد الاميرالركابي

 

في المثقف اليوم