قضايا

عدي عدنان البلداوي: عصر التقنية الرقمية ومستقبل الثقافة العربية

تواجه ثقافتنا العربية في العقدين الاخيرين من بداية القرن الحادي والعشرين تحديات كثيرة من شأنها ان تهدد حركة تطورها في المجتمع يتعلق جزء كبير منها بالتطور التقني المتسارع الذي بات يفوق قدرة استيعاب الثقافة العربية لهذا التطور ولما يترتب عليه من تأثير في حياة الفرد.

يتطور العلم من حولنا تطوراً سريعاً بتقدم البحث العلمي وتكنلوجيا المعلومات وتقنية الأجهزة الآلية والحواسيب ومشاريع الذكاء الإصطناعي بشكل يتخطى قدرة استيعاب كثير من الناس، بل انه يتقدم بشكل يفوق الوقت الذي يحتاجه أحدنا لإعادة النظر في امور حياته، وإعادة ترتيب ما يستلزم منها . بالكاد يجد كثير من الناس وقتاً يتقنون فيه استخدام هذه التقنيات المتطورة، ويقضون في اعمالهم جزءاً كبيراً من يومهم كي يتمكنوا من كسب المزيد من المال الذي يجعلهم مواكبين لموديلات الأجهزة التي تطرحها شركات التقنية. بالتالي فغالبية الناس يجدون انفسهم - من حيث يشعرون ولا يشعرون - مجرد مستخدمين، يصنفهم المجتمع على وفق درجات إتقان أحدهم لإستخدام التقنية المتطورة. لم يعد لدى كثيرين وقت للتدبر والتفكير والتأمل، وسيترك التقدم المتسارع اثره النفسي السلبي على المستخدم، حيث شعوره بالضعف في شخصيته وقدرة تفكيره، بل وربما في جدوى حاجته الى التفكير في عصر تهيمن فيه الأرقام على الأفكار وتبتلعها في جوف سوقٍ عالمي يسلّع كل شيء. وسينتابه شعور متواصل بالتأخر، ليس في عجزه عن مواكبة تطور الدول الصناعية والدول الكبرى في العالم، وانما في عجزه عن إستيعاب هذه التطورات التقنية، فلا يكاد يجيد استخدام تطبيق تقني حتى يظهر أحدث منه، وهكذا. وهناك مسألة مهمة جداً، وهي ان المجتمع اخذ يتعامل مع تلك التقنية المتطورة كمعيار للحكم على ثقافة الفرد، فكلما كان بحوزته موبايل حديث كان مظهره اكثر ثقافة وامكانية من آخر يستخدم موديلاً أقدم من موديلات الموبايل.

في نهاية الفصل الأول من كتابه “ الدين والتحليل النفسي” يقول الفيلسوف الأمريكي من أصل الماني إيريك فروم “ ليس صحيحاً ان علينا التنازل عن إهتمامنا بالروح اذا كنا لا نقبل عقائد الدين، ذلك ان المحلل النفساني في وضع يسمح له بدراسة الإنسان عبر الدين وعبر نسق الرمز اللادينية “

التطور العلمي موجود قبل يومنا هذا، لكن ما يميزه اليوم هو ان عصر التقنية اتاح مخرجات التطور الصناعي للجميع فصار بمقدور الكل على اختلاف امكانياتهم المادية ان يقتنوا اجهزة الاتصال والحواسيب والانترنت. كما ان فكرة الاتصال والتواصل ليست بالجديدة فهي قديمة قدم بداية تعرف الانسان الى الطبيعة والى المجتمع عندما كان يسعى الى تطوير وسائل تواصله مع الاخرين، لكن ما يميز عالم الاتصال والتواصل اليوم هو ان التطور العلمي عمل على تمكين الجميع من استخدام هذه التقنية المتطورة حتى وان كانوا لا يعلمون شيئا عن علم الحاسبات او علم الاتصالات وهو بذلك يهيئ مساحة كبيرة جداً للاستخدام تتضمنها وفرة في المعلومات وتدفق هائل للبيانات وسرعة عالية في الوصول الى المعلومة والخبر، وحرية واسعة في التنقل والاختيار والاتصال، وحرية في التعبير والنشر. يقوم هذا التوسع على محتوى ضخم، وهذا المحتوى الضخم لا يخلو بحكم التوسع والتنوع من مادة جيدة ومادة رديئة، ومن نافع وضار، ومن خير وشر. وهذه الثنائة ليست بالجديدة، فهي قديمة قدم وجود الانسان على الارض وهناك حديث نبوي يورده اليعقوبي في تاريخه يخاطب فيه نبي الأمة الناس قائلاً : لا يقولن احدكم انا مع الناس.. وفي هذا القول اشارة الى نقطة ثقافية مهمة وهي ان الجو الغالب على مجتمع ما في فترة زمنية معينة لا يمكن اعتماده معيارا. كما لا يمكن اعتباره عذرا لتبرير السلوك. يقول النبي الخاتم: ايها الناس انما هما نجدان نجد خير ونجد شر.

اذا ثنائية الخير والشر فكرة قديمة زمنياً، لكن ما يميزها اليوم في عصر التقنية هو ان هذه الثنائية تتحرك بعيدا عن محور الانسانية.

الانسانية هي محور الثقافة، والثقافة هي مشروع انساني في المجتمع ، لذلك فإن القول بأن الثقافة هي ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع لم يعد كافيا. وارى ان من الضروري جدا ان يصبح مفهوم الثقافة اليوم انها ذلك العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع من اجل تمكين المجتمع ثقافيا. وبدون هذه الاضافة - تمكين المجتمع ثقافيا - اذا قارنا واقعنا اليوم بما كان عليه الحال في الماضي سنجد في عصر الجاهلية مثلاً شعراء مبدعون وخطباء متمكنون، لكن مجتمع ذلك الوقت لم يكن متمكنا ثقافيا، كما ان مجتمع اليوم غير متمكن ثقافيا. الفارق بين الزمنين هو ان ثقافة اليوم وظفت التطور التقني لصالح العطاء الذي يقدمه المثقف للمجتمع، فصرنا نرى اعدادا كبيرة من عنوانات الكتب واسماء كثيرة لكتاب ومؤلفين وصار هناك كتاب الكتروني وكتاب مجاني كما ان المحاضرات الثقافية تنوعت وتوسعت وصار بمقدور اشخاص في أماكن مختلفة ومتباعدة ان يتفقوا على عقد ندوة ثقافة في زمن محدد وان يتواصلوا مع بعضهم. لكن مع كل هذا الحراك لم تتطور الثقافة. وانا لست مع الذين يعدون هذا الانجاز تطوراً ثقافيا لأنني انسبه الى التقنية وليس الى الثقافة.

لكي تتطور الثقافة أرى من الضروري جدا اليوم ان تمر الثقافة من خلال الانثروبولوجيا علم الإنسان الذي يعنى بدراسة كل ماله علاقة بطبيعة المجتمع فهو علم يتناول الجانب الحياتي للانسان والجانب الاجتماعي والجانب الثقافي وتأثير اللغة.

علاقة الانسان بالآلة علاقة قديمة تعود الى ملايين السنين حيث الفأس الحجري، وكانت هذه العلاقة تتحرك في نطاق الوجود الطبيعي للانسان في الحياة، اما اليوم وبعد التطور العلمي والتوسع الصناعي ودخول الانانية على خط الانتاج الصناعي فقد تضررت الطبيعة واسيء الى المناخ وتعقدت سبل الحياة وكثرت احتياجاتها وفرض كل هذا على فهم علاقة الانسان بالالة تغيراً، فقد صارت الالة تتدخل في حياة الانسان ويراها بعض المشتغلين في التقنية انها تقرر مصيره، وحمل القلق بعضهم على التصريح بأن مستقبل عصر التقنية سيقضي على انسانية الانسان عندما يصبح كتلة بشرية فاقدة لمعنى الانسانية ويتحول المجتمع الى تجمعات فاقدة لمعنى المجتمع، وسيشمل القلق الثقافة حين تتحول الى مظهر حياتي بعد ان كانت جوهر الحياة.

المقلق في ذلك هو ان نشاط التقنية الرقمية لم يتوقف عند الخدمات الرائعة التي يقدمها للمثقف الباحث والمؤلف في الحصول على المصادر وسهولة الوصول الى المعلومة وسهولة التنضيد والاعداد للنشر ثم الطبع والتوزيع والنشر الورقي والنشر الالكتروني. فمشاريع الذكاء الاصطناعي تعمل على توفير تطبيقات ذكية تصل قدراتها الى تأليف كتاب، والى انتاج روبوت ذكي يقول الشعر. فهناك تطبيق يمكّن مستخدميه من اعداد كتاب من خلال عنوان ومضامين وحتى عدد الصفحات يحددها المستخدم، وما هي الا دقائق حتى يقدم التطبيق كتاباً مترابط المضامين. هذا العمل سيتسبب في ظهور القلق حيال ما ينتج من اعمال ثقافية وهذا القلق سيوصلنا الى الشك فيما نتلقى من مطبوعات وما نقرأ من مقالات وصحف ومجلات وهذا الشك سيغيّب المصداقية. عندها يبقى المعيار والرهان على الابداع، لأن الإبداع صفة انسانية لا الية.

يصنف العطاء البشري الى نوعين. نوع يراد منه اظهار الذات على انها ذات مبدعة، ونوع اخر يُراد منه تدريب المتلقين على تقليد الابداع لكي يبدعوا. اننا اليوم بحاجة ماسة الى تمكين المجتمع ثقافيا ليعتادوا على العطاء، ويتأتى لنا ذلك من خلال الانثروبولوجيا، ذلك العلم الذي يعرّف الثقافة انها دراسة طريقة حياة الناس والوسائل والسبل التي يستخدمونها للتعامل فيما بينهم من اجل تطوير تلك الوسائل والسبل.

في عصر التقنية اليوم وبعد وفرة وسهولة حصول الناس على منتجات التقنية المتطورة وتعقد سبل الحياة وصعوبة ظروفها لم يعد امام الفرد العادي متسع من الوقت للقراءة والتأمل والتفكير واصبحت التقنية الرقمية هي عالمه، وهي مصدر تشكيل ثقافته. رصدت دراسة ميدانية ان غالبية الشباب اليوم يعتمدون اعتماداً كلياً على الانترنت في الحصول على المعلومة، لذلك فإننا معنيون ومسؤولون اليوم عن تمكين المجتمع ثقافيا لأن عصر التقنية يشتغل على مشاريع الذكاء الاصطناعي التي توفر تطبيقات يمكن لها مستقبلاً ان تشكل خطورة على ثقافة الجيل القادم كتقنية التزييف العميق التي يمكن من خلالها تقديم احاديث وخطابات وتصريحات واراء واحكام على لسان شخصية لم تقل ذلك في الواقع، لكن التقنية الذكية ستتمكن من خداع المتلقي عبر دقة المقطع الصوتي الذي يتم انتاجه بواسطة هذه التقنية الذكية التي تحتاج الى صور للشخص وتسجيل صوتي مع فديو يظهر فيه حركات وجهه ويديه وبواسطة التزييف العميق يمكن اظهار هذه الشخصية للناس على غير محتواها الثقافي الحقيقي ومن شان هذا التطبيق ان يقدم مصادر مفبركة للجيل القادم الذي ستكون التقنية الذكية كل عالمه ومكتبته ومصادره.

يرى خبراء التقنية ان مستقبل التطور التقني ومشاريع الذكاء الاصطناعي ستتسبب في فقدان الناس القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما هو مزيف وهنا يأتي دورنا الثقافي اليوم حيث تقع على المثقف الحقيقي مهمة تمكين المجتمع ثقافيا كي يمتلك قدرة التمييز بين الحقيقي والمزيف ويتأتى ذلك من خلال توضيح الخطوط العامة للحق الذي توفر معرفته قدرة تمكين الفرد من معرفة اهل الحق كما قال الامام علي عليه " اعرف الحق تعرف اهله "

إشباع الرغبات وتلبية احتياجات الانسان موضوع يشغل تفكير العقل الثقافي قديماً وحديثاً، لكن ما يميزه اليوم في عصر التقنية الرقمية المتطورة هو ان مشتريع الاستثمار الاقتصادي الصناعي لا تعطي مجالاً لوصول الى حد مقبول لإشباع هذه الرغبات، فدائماً هناك عروض جديدة واغراءات اكثر اثارة وتشويقاً من سابقاتها، وبهذا تقيدت حركة حياة الناس في حدود مواكبة الاصدارات الجديدة لسوق الاستهلاك في عالم التقنية الرقمية ووظفوا وجودهم في الحياة لخدمة ولمواكبة هذا التطور والتنوع، وصارت ثقافة الفرد تعني كثرة تسوقه وامكانيته المادية التي يمكنه من اقتناء موبايل احدث وسيارة افخم وارتياد مطاعم ارقى ومولات عالمية. نعم لقد نجحت مشاريع التقنية المتطورة في تحديد وربما في الغاء ظاهرة الموت جوعاً، لكن هذه المشاريع تسببت في نوع جديد من الفقر، يطلق عليه فقر الرفاهية. انها مرحلة ما بعد الجوع، مرحلة تعطيل الاعتقاد بفكرة القناعة واحلال مفهوم البراعة بديلاً عنه، إذ لم يعد تعليل الفقر في المجتمع على انه تقصير اداري في مؤسسات الدولة، وفشل سياسي وغياب للحس المجتمعي والمسؤولية الانسانية والالتزام الديني والاخلاقي، بقدر ما صار يعني فشل قدرة اولئك الفقراء في ركوب امواج التغيير الجديد في البلاد والعالم . تسبب هذا التعليل في دفع كثيرين الى تغيير اعتقاداتهم بخصوص ثنائية الحلال والحرام والمعقول واللامعقول في سبل كسب المال، وصارت ثنائية القبول والرفض بديلاً استهلاكياً مقبولاً يتيح لأشخاص توظيف الحيلة والغش على انها مواصفات معينة قابلة للقبول او الرفض ولا علاقة للأمر بالوعي الموضوعي الذاتي للفرد. وصار للشارع قوة فرض ثقافة المرحلة وان كانت ثقافة غير منتجة او غير صحيحة، لكن حرية استخدام وسائل التواصل وحرية النشر الالكتروني مع قلة وعي العامة من الناس وكثرة استخدامهم واعتمادهم الكلي على وسائل التواصل الاجتماعي، مكنهم من فرض ثنائية جديدة على المشهد الثقافي تتمثل في وجود نوعين من المثقفين. نوع مع ثقافة التبرير للتمرير، ونوع اخر مع ثقافة التغيير للتطوير. ثقافة التبرير اكثر إقبالاً وأكثر قبولاً في المجتمع، لأنها ثقافة تتناغم مع حاجة السلطة السياسية لفهم مجتزأ للثقافة ينحصر في الجانب الادبي والفني. كما تتناسب ثقافة التبرير مع محدودية استيعاب الشارع للنشاط الثقافي كدور فعال في التغيير، فقد شهدنا خلال العقدين الماضيين كثيراً من التظاهرات ومحاولات التغيير التي كانت تتم على يد وبجهود وسط جماهيري شعبي غاية مطاليبه تكمن في تلبية احتياجات المواطن الأساسية التي تنحصر في الماكل والملبس والمسكن والوظيفة الحكومية. النوع الأخر من المثقفين هو المثقف الذي يرى في الثقافة وسيلة للتغيير الحقيقي في عصر التقنية، لأن أساليب التغيير المالوفة كالتظاهرات والاحتجاجات والانقلابات لم تعد مجزية بعد ان تمكنت الآلة من التحكم في هذه الأساليب لصالح السلطات وقد لاحظنا ما حصل في تظاهرات هنا وهناك في دول العالم منها دول مصنفة ضمن الدول المتطورة صناعياً وعلمياً والاقوى نفوذاً مثل امريكا وكيف ان تظاهرات طلبة الجامعات المطالبين بإيقاف الحرب الصهيونية ضد الفسلطينيين لم تلق اهتماماً يرقى الى ثقافة انسنة الوجود البشري فقد طلبت رئيسة جامعة من قوات الشرطة الدخول الى الحرم الجامعي لفك اعتصام الطلبة، واعفيت رئسة جامعة اخرى لانها لم تتمكن من منع اعتصام الطلبة، ورفضت احدى الجامعات مطاليب المتظاهرين في فك ارتباط الجامعة بالمشاريع التي تقيمها مع شركات اسرائيلية واقترحت بدل ذلك مشاريع دعم للفلسطينيين.

ثقافة التمرير تنتج مثقفاً منهوماً بالشهرة والمظهر الذاتي للثقافة، بينما تنتج ثقافة التغيير مثقفاً مهموماً بالعبرة والمظهر الموضوعي للثقافة. فالمثقف المنهوم يتحرك بنشاطه الثقافي من اجل ان يصبح على مقربة من سلطة القوة ونفوذ المال والجاه. اما المثقف المهموم فإنه يتحرك بنشاطه الثقافي من اجل ان يصبح على مقربة من واقع الحال لتغييره الى ما ينبغي ان يكون عليه.

لا شك ان مناخات العالم المغبرة بشكل عام لها تأثيرها في ثقافات المجتمعات وفي تشكيل ثقافات جديدة بفعل هيمنة عالم الأرقام على طرق التفكير التي اخذت تنحرف عن انسنة نتاجات العقل الثقافي، وخلاصة القول كما يرى الأمريكي هاري ألين اوفر ستريت في كتابه (العقل الناضج) ص32 في الطبعة الثانية الصادرة سنة 1964م (ان الكائن البشري يمكن ان يصبح - في حدود معينة - أي شيء يراه محبباً اولئك الذين يحددون له المثيرات التي يستجيب لها..).

***

د. عدي عدنان البلداوي

في المثقف اليوم