قضايا

جمال العتابي: تعدد وجوه الأزمة الثقافية

المفاهيم والآراء والأفكار التي تطرح كمشاريع ثقافيَّة أو بديل ثقافي، ظاهرة صحية تستحق العناية والتأمل، وإن جاءت بمتبنيات عراقيَّة الآن،  فتلك الأطر النظرية تناولها مفكرون عرب (عبد الله العروي، الجابري، طرابيشي، ادونيس، اركون) وغيرهم، كانت لهم أفضليَّة الريادة في صياغة رؤاهم عبر نظريات جديدة في ميداني الفكر والثقافة، لاقت قبولاً ايجابياً وانتشاراً سريعاً في الأوساط الثقافيَّة، لأنَّها تصدت للظواهر الثقافية وواجهت بضرواة اساليب مصادرة العقل، لذا تأتي المحاولات  في الاتجاه نفسه، امتداداً لتلك المحاور المعرفيَّة التي شغلت المثقف لعقود من الزمن وما تزال في تشكيل وعي الإنسان وتحقيق ذاته ووجوده، من دون خضوع لتأثيرات أيديولوجية.

نحن إذن بإزاء إرادة إنسانيّة تسعى الى تغيير واقع ما، ذاتاً أم مجتمعاً، وإزاء معطيات فكريّة ذات ارتباط بحقل المعرفة يراد بلورتها كمنطلقات نحو الإصلاح.

هذه المحاولات في محاورها المختلفة، وخطاباتها المتعددة تستجيب إلى سؤالين: سؤال عن ماهيةالثقافة، وآخر عن الذات سواء على مستوى الفكر، والفلسفة والسياسة، والتاريخ، أو الإبداع أم في مناقشة الأفكار بوعي نقدي مختلف. لأنّنا بالسؤال نختبر حيوية المعرفة، وفي تعدد الأسئلة يكون الجدل اللانهائي في مفاهيم أخرى: الأصالة والمعاصرة، الذات والأنا والهوية، التراث والتجديد.

القراءة المتأملة للأفكار تدعو منذ البدء الى عدم التسرّع في اطلاق الأحكام، إنّما واقع الحال يقتضي مناقشتها بنظرة واعية وعميقة، فكثيرة هي المشاريع الثقافيّة والفكريّة والنقديّة التي حاولت البحث في أسباب أزمة الثقافة.

والمثقف كونه مبدع القيم والأفكار لا يختبر المقولات فحسب، انما يختبرها في حركة الثقافة في الذهنية الثقافية، وتحولات المجتمع، نعني الاحتكام الى الواقع، لأنه في هذين المختبرين يكتشف فاعليته وأثره ومدى استجابة "مشروعه" لتحولات الواقع وحركة التاريخ. المثقف ذاته أحد وجوه الازمة، حين يظن انه يقبض على المعنى، أو يمتلك مفاتيح الحقيقة، وحده لاشريك له، في امتلاك الحلول للاصلاح، أعني تحديداً المثقف المتألّه، الواقع فريسة نرجسيته.

باعتقادي ان محاولة حصر تفكيرنا فيما يسمى بمشاريع هي محاولة للتأطير كذلك، بينما ينبغي أن يترك الفكر حراً طليقاً من دون قيود.

ولما كان الخطاب الإصلاحي غالباً ما يبحث عن معادل موضوعي له في صميم الحياة المجتمعيَّة، فإنّه يتوجه الى أزمة الثقافة في بداية الأمر. والمثقف أولاً. لأن مفهوم الازمة ملازم لمفهوم الثقافة، وموضوعة الاصلاح هي موضوعة فكرية - فلسفية، تتطلب دائماً بناءً عقلياً يصوغ الرؤى التي تنشد تغيير الواقع الذاتي للإنسان وتغيير المجتمع الذي ينتمي اليه، وقصدنا المثقف لان وعيه يجعل تفكيره خارجاً عن إطار ما هو متحقق بالفعل، بل ان المثقف كان في معظم العصور خارجاً عن إطار القيم الشائعة، هذه الأزمة مزدوجة بطبيعتها، فهي من جهة تعبّر عن عجز الواقع من مسايرة الفكر، وربما بالضد من هذا المعنى حين يكون الواقع هو الأسرع تطوراً من الفكر، في المجتمعات سريعة التطور، ونتيجة لهذا التعارض تتلاحق الازمات الثقافية، وتتخذ في كل جيل شكلاً جديداً، او تطرح مفاهيم جديدة.

المهم في الأمر أن مفهوم الازمة ينتج عن التصادم بين الفكر والواقع، ويبدو أنه ملازم للتطور الحضاري للإنسان، بل ربما كان علامة صحيَّة تدلّ على يقظة الوعي الإنساني ورهافة إحساسه بالظروف المحيطة به.

ولكن للأزمة معنى آخر أشدّ مضاءً، تكون فيه تعبيراً عن مرض أو اختلال، يتمثل في القيود الشديدة على حرية التعبير بوجه عام، أو أن توكل الثقافة الى الجهلة الذين يتعمّدون تخريبها، أو نشر التفاهة، ان جزءاً من هذه الأزمة في بلداننا العربيّة ينتمي الى هذا النوع الأخير. وغالباً ما تكون مقدمات أسباب فشل مشاريع الثقافة هي في إحالتها الى عناصر وإدارات تقف بالضد من الثقافة.

هنا يتبين لنا أنّ العلاقة بين الثقافة والسلطة هي التي تتحكم الى حد بعيد في ازدهار الثقافة أو وضع المعوقات في طريقها، والأخطر في هذا النهج أن يكون المثقف الوجه الآخر للسلطة السياسية في ارتكاب المفاسد والمساوىء

ويبتعد ممثلوه عن أداء مهماتهم الحقيقية، في الهرولة نحو السلطة، حينذاك يفقد هؤلاء  استقلاليتهم المهنيّة وتتفاقم الأزمة وتتعقد حين يتفق اطراف المعادلة جميعاً على إبعاد المثقف الحقيقي عن أداء دوره الفاعل، المؤثر في المشهد الثقافي، واقصائه عنه بشتى الوسائل والأساليب، فتضيع المعايير، والرؤى الوطنية المسؤولة، ويتسلل أولئك الهامشيون ، ..الطارئون ، البعيدون عن الهمّ الابداعي الحقيقي  إلى ادارة تلك المؤسسات، لتحقيق منافع شخصية، ومكاسب وامتيازات من أجل البقاء . من البديهي أن لا يمضي الطارئ بخديعته الى النهاية.

تتعدد وجوه الأزمة في الشرط الأول للإبداع هو الحرية، كيف للمثقف أن يتنفّس هواء الحرية وهو مكبّل بقيود سلطات :  سياسية ودينية .والأمضى حين يكون هناك قيد آخر يفرضه الجمهور الجاهل، فالمثقف الحقيقي يتجنّب المساس بهذه الجماعات التي تترصّد أي فكر مجدد يخرج عن إطارها الخاص، أو معارض ومختلف معها، وحتى الرأي الآخر يصبح تهمة تهدد   صاحبه. بمعنى آخر أن رجل الشارع الجاهل يصبح رقيباً أكثر شراسة من رقابة السلطة.

هذا التعارض مرتبط من دون شك بالتخلّف الثقافي، وغياب الوعي، وحين تكون النخب وحدها القادرة على تذوق الأعمال ذات المستوى الرفيع، وتكون الغالبيّة عاجزة عن الاستمتاع إلّا بالأعمال السطحيّة المبتذلة، في مثل هذه الأوساط، تتخذ هذه المشكلة صيغة حادة، يكون فيها الباب مفتوحاً على مصراعيه أمام المزيفين لخداع الناس بثقافة سطحيّة تتملق غرائزهم وعواطفهم، أو تشلّ عقولهم وتغيّب  وعيهم.

الخلاصة،  أن البحث في أوضاع المثقف والمثقفين يقتضي إبداء اهتمام أكبر بنوع العقل الذي يراد تكوينه للإنسان، وهل هو عقل مشدود الى الخلف؟ أم جامد في مكانه؟ أم هو عقل قادر على التطلع بأمل إلى مستقبل أفضل؟.

***

د. جمال العتابي

 

في المثقف اليوم