قضايا
فؤاد لوطة: اللغة العربية والتطور التكنولوجي
اللغة العربية أرقى اللغات وأسماها وأجلّها وأعلاها، وما زادها طيبة وعذوبة أنّ القرآن بها يُتلى، وأن الأذان بها يُرفع، وأن الصلوات بها تفتتح وتُختتم، لكن أرى نفسي في دولة لم تمكّن لغتها ولم تفعّلها، ولم تدخلها في لغة البرمجيات وفي جميع مفاصل الحياة كجزء من شخصية وطنية استقرت بسماتها وترسخت.
فوضعية اللغة العربية في عصرنا الحديث تطرح إشكالات مهمة ضمن منظومة التواصل، وهي وضعية تدفعنا للتساؤل عن كفاياتها من خلال النظر إلى المعاجم والقواميس كمصادر يمتح منها الدارس والمتعلم مفرداته وكمرجعٍ للكلم ودلالاته. لكن المفارقة العجيبة التي نستخلصها، هي أن المرء سيجد في اللغة العربية عشرات المفردات والأسماء لحيوانات الصحراء، ولكن لن يجد فيها أي من المفردات التي تروج في في عصرنا التكنولوجي والتي تتعلق بوسائل التكنولوجيا الحديثة، بهذا المعنى تصبح اللغة العربية فقيرة المفردات والتعبيرات، عاجزة عن اللحاق بالاختراعات وأسمائها التي أنتجها العالم الأول وما زال ينتجها في وفرة هائلة.
وبالتالي فاللغة العربية تواجه عدة تحديات منها التغيرات اللغوية، حيث تتعرض اللغة العربية للتغيرات اللغوية المستمرة، خصوصًا في اللغة العامية والمصطلحات الحديثة، مما يؤدي إلى التشوه في البنى اللغوية الأصيلة للغة العربية. كذلك الاستخدام الخاطئ، حيث يتم استخدام اللغة العربية بطرق خاطئة وغير مقبولة من قبل الناطقين بها، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على اللغة ويجعلها أقل قدرة على التعبير بالشكل الصحيح. ونشير أيضا للتأثيرات الثقافية الأخرى، حيث إن اللغة العربية تتأثر بالثقافات الأخرى، خصوصًا فيما يتعلق بالمصطلحات الجديدة والكلمات الأجنبية، مما يؤدي إلى تأثير سلبي على فهم اللغة العربية واستخدامها.
ومن أهم التحديات أيضا التي تعيشها لغتنا العربية في المجتمع المغربي في عصر التكنولوجيا هو ثنائية اللغة أو الإزدواجية، بمعنى أن نتكلم لهجة نتداولها في التعامل اليومي، أي ما يعرف بالعامية، ولغة تدريس الآداب والعلوم، أي اللغة العربية؛ ما يميز هذه الثنائية وجود تقارب وتشارك بينهما، لكون العامية منها ما هو منحدر ومأخوذ من اللغة العربية في صيرورة تطورها، ومنها ما هو مستورد من لهجات محلية، إذ أغلب مفرداتها مستقاة مما ذكر، بها يعبر أفراد المجتمع عن حاجاتهم اليومية بعفوية وتلقائية وطلاقة، ويمكن القول بطريقة فطرية، كما أن للعامية نصوصاً أدبية شفوية وغنائية، وأمثال شعبية متداولة.
يعد هذا التقارب دعامة لما هو مشترك بينهما، مما يقوي الاشتغال الوظيفي لكليهما، أي وظيفة التداول العام الذي تؤديه العامية، ووظيفة الدرس اللغوي أو العلمي الذي تؤديه اللغة العربية.
هذا الواقع لم يلغ وجود لغة رسمية، هي اللغة العربية، لغة لها رصيدها اللغوي وقواعدها النحوية، ومعاجمها المتعددة، تدرس بها المواد الدراسية في المدرسة والجامعة، كما أنها تستخدم في أجهزة الإعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، فضلاً عن استعمالها في الأجهزة الإدارية، والخطب الرسمية. هذا جانب فقط من الثنائية اللغوية التي يعرفها الواقع اللغوي بالمغرب كما تعرفها المجتمعات العربية.
تعد هذه الحالات من التعدد أو الازدواج اللغوي بمجملها جد طبيعية، تعرفها أغلب دول العالم، بآسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وحتى في بعض الدول الأوروبية، مثل إسبانيا وسويسرا وبلجيكا، وكندا ومنطقة الألنراس بفرنسا.
يمكن القول في ضوء الدراسات اللغوية السوسيولوجية والنفسية إن الثنائية أو الازدواجية اللغوية من شأنها تقوية مدارك الأفراد، وجعلهم متفتحين على مختلف الأنظمة اللغوية، لكنها قد تحدث اضطرابات لغوية رغم أنها عابرة، كما أن أشكالاً من الاضطرابات اللغوية قد تحدث حتى عند الأطفال الوحيدي اللغة.
فالدراسات اللسانية الحديثة تنظر إلى اللغة كأداة للاستعمالات المتنوعة، وفي سياقات تفرض أن تكون الحمولات الدلالية مبحثا تواصليا، يراعي خصوصية العلاقات التي تربط مستعملي اللغة كنظام من الأبنية الصوتية والتركيبية والدلالية سياقيا. هكذا يصبح الإنجاز فضاء للتواصل، يكون فيه المعجم وحدة تؤطرها مجموع العلاقات الذهنية والنفسية والاجتماعية واللغوية التي تتقاطع كنظام تواصلي في تشكيلة زمنية متكاملة، تحقيقا للتوافق بين الباث والمتلقي حول مرجعية أساسها الكفاية التواصلية القائمة على سيرورة مختلف الاستعمالات المعجمية .
وإن حاولنا البحث باختصار في الحقب التي مرت بها العربية والأدب العربي؛ نبدأ بالعصر الجاهلي الذي ظهرت فيه المعلقات بأغراض شعرية عادية والتي أصبحت نهجا سار عليه الشعراء حتى يومنا هذا (الغزل، الرثاء، الهجاء، المديح، الوصف... الخ) وشعر الفروسية نتيجة الغزوات بين القبائل، وظهور الخطابة، وظاهرة الصعاليك...
وفي العصر الإسلامي جاء المديح النبوي كما عند حسان بن ثابت الانصاري، والشعر الديني، فتطورت الأغراض الأخرى.
أما العصر الأموي ظهر شعر الفتوحات والنقائض كما عند جرير والفرزدق والاخطل، ثم الشعر السياسي وشعر الغزل العذري،
وحديثنا عن العصر الأندلسي يذكّرنا بالموشحات والوصف بسبب طبيعة الأندلس، أما العصر العباسي فامتد على أكثر من خمسة عقود وظهر فيه الغزل الصريح والمقامات والفتوحات وشعر الحروب والوقائع الحربية، كما شهد رثاء الممالك والمدن بعد غزو التتار والمغول، فتطور غرض الفتوحات، وعند اقتراب انهيار الدولة ظهر الغزل الفاحش وشعر المجون والفتن والخلاعة وفي المقابل ظهر التصوف والزهد، وتطور فن الرسائل، وتطور حركتي الترجمة والتأليف.
وبخصوص العصر الحديث فقد شهد ظهور المعارضات بشكل أوضح، فجاء أدب المقاومة، الشعر المسرحي، أدب السجون، الأدب المهجري، مدرستا الإحياء والديوان، شعر التفعيلة (الشعر الحر)، الشعر الوطني والقومي وظاهرة الاغتراب، الأدب الشعبي...
فعلا مرت العربية بحقب زمنية عصيبة، لكن علينا أن نطوّرها أكثر، فيماذا تنفع هذه اللغة في عصرنا الرقمي الحالي، لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإخبارية الإلكترونية جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية.
وفي هذا السياق، فإن كل الدول وضمن مناهجها التربوية تعتمد سياسة لغوية واضحة المعالم، أي الانطلاق من اللغة الوطنية، والتدرج الدقيق لإدراج تعليم اللغات الأجنبية حسب أوصافها وقواعدها، ووفق المستويات الدراسية المطلوبة، مما يفرض بالضرورة اعتماد مقاربة دهنية ونفسية في علاقتها بالقدرات الذهنية للطفل.
يمكن القول أنّ اللغة العربية اليوم، تواجه خطرا يهددها في سياق التحولات التي يتعرض لها العالم العربي، بإقبال كُتّابه ومثقفيه ونسائه ورجاله على اللغات الأجنبية الأخرى، كاللغة الإنجليزية، نظرا لما تتيحه من مزايا متعددة، حيث إن أغلب البحوث العلمية على المستوى العالمي تصدر باللغة الإنجليزية ولغات أجنبية أخرى، وهذا الأمر ليس ناشئا عن خلل في اللغة العربية نفسها، وإنما سببه هو أن البحث العلمي والإنتاج الأدبي والثقافي بشكل عام يخضع لتحكم ذوي الاقتصاد القوي، وبما أننا في عصر اقتصاد المعرفة، فكل شيء صار له ثمن، وأصبحت المعلومات والبيانات أيضا بضاعة تباع وتشترى كسائر البضائع الأخرى.
في الختام، يظل دور كل فرد في المجتمع محوريًا في مواجهة ظاهرة الزوائف. من خلال التحري الدقيق والتفكير النقدي. لكن ومما لا شك فيه أن اللغة العربية في ظل الظروف الراهنة تعيش حربا مع التكنولوجيا ومع اللغات الحية الأخرى، بحيث إنه من المنظور الديني يلزمها البقاء، أما من المنظور الاجتماعي فأهلها تخلفوا معرفيا، بحيث إن الاعتماد على الأجنبي بديلا ولّدَ عجزا أمرض العقل العربي.
وتظل أي لغة انعكاسا للمستوى الحضاري لأي أمة من الأمم، ومرتبط وضعها بوضع أهلها الناطقين بها، وهي كذلك صورة حقيقية لهذا المستوى قوةً وضعفاً، وفاعلية وعجزاً وصعوداً وهبوطاً.
ولا بد من إجراءات أقترحها؛ إجراء دراسات أكثر تفصيلاً حول تأثير التكنولوجيا الحديثة على اللغة العربية، واستثمار التقدمات التكنولوجية واستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي إلى تحسين وتطوير دراسات اللغة العربية، كما يجب توفير قاموس لغوي حديث في كل مرحلة من مراحل التعليم العام.
***
ذ. فؤاد لوطة