قضايا

محمود محمد علي: خرافة قرابين الآلهة

ذكر المؤرخ العربي ابن عبد الحكم في كتابه "فتوح مصر والمغرب" في القرن التاسع الميلادي، في معرض حديثه عن "النيل"، أن لدى المصريين عادة إلقاء فتاة جميلة في مياهه لاسترضاء النهر كي يفيض ويعم عليهم بالخير في شتى مناحي الحياة اليومية. وقد أصبحت تلك الأسطورة، من أبرز الأساطير التي رُوّجت عن علاقة المصريين القدماء بنهر النيل، والتي تقول إنهم كانوا يلقون بعروس جميلة عذراء، ترتدي أفخر الثياب والحلي، ويزفونها إلى نهر النيل، بعد أن يُلقوها حية لتبتلعها المياه، وأن هذا التقليد أصبح متواترا للوفاء بفضل النيل على أرض مصر.

وعندما سمع  الخليفة الثاني " عمر بن الخطاب "، بتلك الأسطورة بادر على الفور بدحرها والقضاء عليها، وذلك حسب رواية ابن كثير  في كتابه (البداية والنهاية، المجلد 7، ص114-115(، والذي قال: " من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر: أما بعد، فإن كنت إنما تجري من قبلك ومن أمرك فلا تجر فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت إنما تجري بأمر الله الواحد القهار، وهو الذي يجريك فنسأل الله تعالى أن يجريك "

وإذا كانت الأديان قد نشأت وارتبط مفهومها البشري بفكرة القرابين، وفق المعتقدات القديمة، فقد ظن الناس قديما كما قلنا أن القرابين بجميع أنوعها هي أقرب طريق لنيل رضا الإله ودفع الضرر عنهم، ولم تختلف الحضارة المصرية القديمة عن باقي الحضارات بهذا الأمر، وظلت هذه الفكرة ملاصقة لدى الكثيرين المهتمين بتلك الحضارة العريقة لتظهر من جديد مؤخرا في يومنا هذا .

فقد فوجعت مصر بجريمة قتل طفل يبلغ من العمر 8 سنوات، حيث وُجد مذبوحا، ومبتور الكفين في جريمة كشفت تحقيقات الشرطة أنها مرتبطة بالتنقيب غير الشرعي عن الآثار في إحدى قري صعيد مصر .

وقد خيمت حالة من الغضب والحزن بعد  العثور على جثة الطفل، والتي وجدت في قرية الهمامية التابعة لمدينة البداري بمحافظة أسيوط في صعيد مصر، حيث عثر عليها الأب في أرض زراعية بعد غيابه عن المنزل لساعات معدودة .

الشرطة المصرية قالت في بيانا لها أنه تم القبض على مرتكبي الجريمة، وهم 3 أشخاص، واعترف الاثنان منهم بارتكابها بالاتفاق مع منقب شرعي عن الآثار، وتقول تحقيقات الشرطة أن الاتفاق بين الجناة والمنقب غير الشرعي يقضي بالحصول على كفي الطفل لاستخدامها كقربان تساعد المنقب للوصول إلى الآثار، وهذا  هو داقع ارتكاب الجريمة .

فُوجع المصريون أكثر حين علموا أن الجناة هم أبناء عم والد الطفل الضحية، وما زاد الطين بلة، أنهم مثلوا دور الحزن، وساعدوا والد الضحية وأهل القرية في البحث عن الطفل لإبعاد الشبهة عن أنفسهم، حتى كشفتهم الشرطة، وألقت القبص عليهم .

وبالبحث والتقصي تبين أن هذا النوع من الجرائم التي تتداخل فيها القسوة والجشع والخرافة، تقوم على طقوس خاصة، مفادها أن فتح أي مقبرة فرعونية للبحث عن التماثيل الفرعونية الصغيرة، يتطلب وجود شخص يدعي أنه شيخ متخصص في فك طلاسم فرعونية أساسية لفتح المقبرة، وهذا الشيخ يعرف لدينا في صعيد مصر بـ "شيخ العزيمة"، والعزيمة هي قراءة الطلاسم واستحضار الجن، الذي يحرس المقبرة .

ولتنفيذ هذه  المهمة يطلب الشيخ مبالغ مالية كبيرة، أو دماء طيور أو حيوانات، أو دماء بشرية أيضا؛ وخصوصا دماء الأطفال، وكلما وقعت جريمة من هذه النوع قد تبين أن شيخ العزيمة مجرد دجال لا أكثر .

وفي رحلة البحث عن الآثار تُفقد كثيرا من الأرواح، إما بخرافة قرابين آلهة، أو تورط في الجريمة، تلبية لطلبات "شيح العزيمة"، ـو حتى تُفقد الأرواح خلال التنقيب عن الآثار بشكل غير شرعي بسبب انعدام الخبرة والمعلومة والافتقار في الأدوات اللازمة للبحث ؛ فتحدث الإصابات القاتلة .

والقرابين البشرية والجريمة لم تكن حالة فريدة في مصر، ففي شهر أيلول في عام 2021، اهتزت مصر بجريمة ذبح شاب، وتقتطيع أوصاله، وتقديمه قربانا لفتح مقبرة أثرية بحسب اعتراف الجناة، والمفارقة أنهم أقارب الضحية أيضا، وهم عمه، وزوجة عمه، وابناؤهما وفق تحقيقات الشرطة .

وللأسف تستيقظ مصر كل فترة على جريمة مماثلة يكون ضحيتها في الغالب من الأطفال، ولاشك أن هذه الجرائم لا ترتبط بمصر القديمة، لأن المصري القديم بشهادة أستاذي " زاهي حواس" : لقد أخفى المصري القديم أماكن الدفن التي تحتوي على الأثاث والمتاع الجنائزي، يعيدا عن العيون بغرض تأمينها ضد السرقة، علاوة على أن المصري القديم لم يسخر جنا أو رصدا لحراستها، والدليل على ذلك المقابر التي نقوم باكتشافها وفتحها من خلال الحفائر العملية والتنقيب الأثري بدون قرابين أو إراقة دماء.. وللحديث بقية..

***

د. محمود محمد علي - كاتب مصري

 

في المثقف اليوم