قضايا

غانم المحبوبي: عن دور المثقف في بناء الاوطان

من اطروحات الفيلسوف الفرنسي الشهير جان بول سارتر (Jean-Paul Sartre) في كتابه(Plaidoyer pour les intellectuels)  والمترجم الى العربية (الدفاع عن المثقفين) في تعريف المثقف، يؤكد سارتر على وجوب توفر ثلاث ميزات، قبل ان يستحق الشخص على تلك الصفة المميزة. فبعد ان يكون متعلما، مطلعا عما يدور حوله من مجريات الحياة المتنوعة، عليه ان يكون بعدها باحثا، مستنبطا ومشخصا ما هو صحيحا وصالحا من الظواهر المجتمعية والسلوكيات الشخصية مقابل ما هو خطأ وفاسدا منها. لم يكتف سارتر بهذا، بل ذهب لما هو أرقى واهم ميزة فأوجب على المثقف ان يكون قادرا في عملية التغيير البناء وذلك بوضع الحلول الناجعة للقضاء على ما هو خطئ وفاسد وابداله بما هو صحيحا وصالحا. وبناء على ذلك، يكون المثقف متعلما، وباحثا ثم قادرا على التغيير، وما يهمني هنا هو الوقوف والتمعن في الميزة الثالثة وهي الأهم.

ان لم أكن قاسيا على اهلي من العراقيين، افترض ان هناك الكثير منهم ممن يتحلون بالميزتين الأولى والثانية، فالتعليم عندنا مجاني وبسيط واستنباط الصح من الخطأ او الصالح من الطالح هو بسيط وواضح اليوم وضوح الشمس في بلاد إله الشمس. وبعد ما حصل في العراق من التغيير الكبير في ٢٠٠٣، والانتقال من الاضطهاد والتعسف العنيف الى ممارسة حرية الفكر والتعبير المفرطة، استيقظت جحافل المتعلمين، ومنهم أصحاب الشهادات العليا، من سباتها الصامت الطويل لا للملمة أشلاء المجتمع العراقي والمشاركة في التغيير البناء نحو الأمان والتحضر بل ليسَوقوا بضاعة بائسة من الكلام المنمق، باعتبارهم النخبة "المثقفة" والحريصة على مصالح العراق.

لهؤلاء أقول، ان فن الكتابة والالقاء والحوارات من قبل المتعلمين وأصحاب الألقاب وبشكله ومحتواه السلبي والجارح ان لم يكن المهين لمعتقدات ومشاعر الملايين من المواطنين هو عمل هدام (Destructive) ولن يرفع الضيم عن المستضعفين من اهلنا ولا يبني الأوطان، بل ما هو مطلوب لذلك هو المحتوى الإيجابي البناء  (Constructive)والمدعوم بالإبداع الفكري والمهني المدعوم بالتجربة العملية. كذلك، ان محاولات تشخيص وفضح الأخطاء والأفكار والمعتقدات البالية والفساد الإداري والمالي في مجتمعنا العراقي، وبرغم أهميتها الكبيرة، قد لا تتعدى ان تكون من مهام ما يقوم به الصحفي او الإعلامي ولا تحتاج بالضرورة لمن يدعون لأنفسهم من نخب الثقافة والفكر، ما لم يقدموا وبكل صدق ونزاهة حلولهم العلمية وسبل التغيير المطلوبة والمستندة الى مؤهلاتهم المهنية المجربة.

وبعد هذه المقدمة البسيطة، دعنا نتصفح بعض الأمثلة القليلة جدا من الكم الهائل مما يُكتب ويُبث في الأوساط الإعلامية المتنوعة: هناك من يدعون لأنفسهم مؤهلات علمية عالية كشاهدات الدكتوراه باختصاصات معينة لكنهم يهتمون ويتحدثون في مجالات لا علاقة لها بتلك المؤهلات. فقد يكون شخص ما متخصصا في الادب الإنكليزي لكنه يُسَوق نفسه كخبير وباحث في موضوع اقتصادي او انمائي. وبما ان العراق الحالي مزدحم بالإخفاقات وعدم الكفاءة التامة في تحقيق الإنجازات المفيدة للشعب، حتى أصبح ارضا خصبة لهؤلاء المتعلمين بدون أي ثمار تُجنى منهم سوى "صب الزيت على النار" او "زيادة في الطين بلة".

وهناك من هو أخطر بل اسوء من ذلك بكثير ممن ارتضوا بالإساءة بل بتهميش وتسقيط الكثير من الرموز المهمة للعراقيين، بغض النظر ان كنا من المؤيدين او المختلفين فكريا او عقائديا مع تلك الرموز. فكما حدث في السابق الطعن بعراقية شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وفصله من وظيفته في احدى مدارس بغداد من قبل عراب القومية ساطع الحصري حين كان يومها مدير التربية أيام العهد الملكي، لم يكتفِ صدام حسين، وبعد أكثر من نصف قرن بفصله من وظيفته وتشريده خارج وطنه ولكن أسقط عنه جنسيته العراقية. والآن، وكما حدث لشاعرنا الجواهري يحدث ما يشبه ذلك لأيقونة عراقية رائعة لشاعرنا المحبوب مظفر النواب، ليُطعنَ ايضا بعروبته وعِراقِته من قبل احد المتعلمين من حملة الدكتوراه. يقول الدكتور في مقالته المنشورة ٢٣ نيسان ٢٠٢٤ في احد المجلات المدعومة من قبل المملكة السعودية، نقلا عن أحد أصدقاء الشاعر النواب "... ان الهندي العراقي (وما فيها من نبرة إهانة واستخفاف) مظفر النواب هو من اب وام لا يجيدان العربية ..."، ثم يواصل نقلا عن الملحق في سفارة الهند بدمشق ما معناه "... ونتيجة لعدم استطاعة النواب في تجديد جواز سفره العراقي اثناء تشرده في المهجر وذلك لمعارضة النواب السياسية وما سبب ذلك له من مشاكل مع النظام العراقي السابق، فقد اضطر في استعمال جوازه الهندي بعد تجديده ...". واكتفي من ذلك المقال السيء وما قاله الدكتور منتقصا من شاعرنا الراحل "... كان مظفر النواب وغيره من شعراء الثورات (صفة سيئة حسب سياق المقال!)، ... وعندما عاد الى بغداد (بعد ٢٠٠٣)، استقبله أحد أصحاب العِمامة (صفة سيئة أيضا حسب سياق المقال!) في داره التي يقيم فيها الولائم للمحتلين الامريكان ...". لا اريد التعليق والرد على مثل هذا الكلام البذيء الهدام، لكني تمنيت لو افهم ما الغرض النبيل الذي يطمح اليه ذلك الكاتب من مقاله ذاك (عدا كسب المال او الجاه او الاعتبارات الأخرى المرجوة)، سوى تشويه ما يحمله العراقيون في ذاكرتهم عن فقيدهم النواب من حب ورائحة الأرض الطيبة والهيل وصوت الريل وطعم الثورة؟

ثم تتصاعد وتيرة الطعن بالأشخاص الذين قد يمثلون رموزا عقائدية وفكرية عند الملايين من العراقيين من غير أي مبالات حضارية ولا هدف مفيد يصب في مصلحة الانسان والوطن خصوصا عندما تأتي مثل هذه المحاولات البذيئة بعد عقود من وفاة تلك الشخوص الرمزية، كما حصل للمفكر والمرجع الديني والمناضل الشهيد محمد باقر الصدر في سلسلة من المقالات التي لا تبت بشيء بواقع العراق الحالي ولا تصب في مصلحة العراقيين، بل على العكس تنهش بما تبقى من مجد للعراق وتحطيم لمعنويات شعبه.

وعلى منبر اعلامي آخر، تنتقل مثل هكذا محاولات سخيفة هدامة الى مجال أوسع لتطعن وتنتقص وتمزق اللحمة المجتمعية الجميلة لشعب العراق ولا تكتفي بتناول الاشخاص بشكل فردي بل بعوائلهم وعشائرهم العراقية بأكملها، وان كانت تلك المجاميع المجتمعية تحتل مواقع مرموقة في مشاعر ومفاهيم العراقيين. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يظهر أحد مدعي الثقافة والشهادات العليا على منصته الخاصة في اليوتيوب من لندن في ٢٨ تموز ٢٠٢٤، ليدعي بان "... هناك الكثير من عشائر العراق ذات أصل هندي ومنهم من يدعون زورا بانتمائهم العلوي ...". ثم يستطرق القول "... وكمثال على ذلك هي قبيلة (وليست عشيرة!) الاشيقر، التي ينتمي اليها ابراهيم الجعفري (الدكتور رئيس وزراء العراق السابق) ذو الأصل الباكستاني وكذلك عائلة (السادة) الحكيم ذات الأصول الهندية ...". فيقول وبصورة التعميم البغيض؛ "... ان هذه العوائل ما جاءوا الى العراق من الهند الا شبه متسولين كالخدم يجمعون الأحذية في كيشوانيات المراقد الدينية ثم أصبحوا بعدها رجال دين حوزويين، لا لاستحقاقهم العلمي بل لكسب المال السهل ...". كأني بذلك المفتري ان يعيد لذاكرتي ما تردد في عهد صدام عن أصل سكان الاهوار (المعدان)، باعتبارهم ما جلبهم الإنكليز مع جواميسهم من الهند، بدلا من ان يكونوا من بقايا السومريين. تمنيت لو تحلى ذلك الشخص بشيء من سمات التحضر وانتقد (ان أراد ذلك) بشكل علمي بناءٍ نزاهة او كفاءة الدكتور إبراهيم الجعفري اثناء رئاسته لمجلس وزراء العراق، بدلا من ان يتهجم ويهين عشيرته او بيت الشقيري بأجمعهم، لا دفاعا مني عنهم بل لان ما قام به لا صلة له بمصلحة المجتمع العراقي، بل على العكس ما هو الا ضربة مِعول لئيم في قوام شعبنا المتعب.  

وأخيرا، اود ان اختم مقالي هذا بشهادة حقيقية عشتها اثناء فترة وجودي في فرنسا لتحضير شهادة الدكتوراه، علها تُلقن مثل هذه الأصوات النشاز مفهوما حضاريا لمعنى المواطنة والانتماء من جهة وتقييم الفكر والمفكرين المبدعين من جهة أخرى (والمثال يُضرب ولا يُقاس عليه). في محاولة نادرة ومثيرة يومها للجدل، قام الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتيران (Francois Mitteran) في اليوم الأول لتسلمه كأول زعيم للحزب الاشتراكي الفرنسي رئاسة الجمهورية (الخامسة) الفرنسية في ٢١ مايس ١٩٨١، قام بزيارة البانثيون الفرنسي(Pantheon)  او مقبرة العظماء الفرنسية ليضع بعض الورود الجهنمية الحمراء (وهي رمز للحزب الاشتراكي الفرنسي) فوق بعض قبور هؤلاء العظماء اقرارا واحتراما وعرفانا لما قدموه هؤلاء الموتى للشعب الفرنسي في مختلف المجالات. المهم في الموضوع ان هذا المَعلَم الموقر جدا في الحي اللاتيني بمقاطعة باريس الخامسة يحوي على رفات العديد من عظماء فرنسا ممن هم فرنسي الأصل كالمفكر التنويري المشهور فولتير (Voltaire) والقيادي في المقاومة الفرنسية جان مولان  (Jean Moulin)ولكن فيهم أيضا من هم من أصول أخرى كالعالمة الفيزياوية الكيمياوية الشهيرة ماري كيوري (Marie Curie) المتجنسة فرنسيا ذات الاصل البولوني، والمفكر الفيلسوف واحد نخب عهد النهضة التنويرية الأوروبية ومحفز الثورة الفرنسية جان جاك روسو (Jean Jacque Rousseau) المولود في جنيف من ابوين سويسريين والمتجنس فرنسيا، وأخيرا المتجنسة فرنسيا الامريكية الولادة ومن أصول افريقية سوداء الفنانة الكبيرة جوزيفين بيكر .(Josephine Baker)

ان الامة المتحضرة الفرنسية تفتخر بالفرنسيين المبدعين بغض النظر عن اصولهم الأجنبية وتحترم الانسان بشكل عام وان لم يكن مبدعا بغض النظر عن اصل ابويه، فمن أراد ان يتحلى بشيء من التحضر الإنساني ويقوم بدوره كمثقف عراقي متنور، عليه ان يتمعن في القيم والمعايير الانسانية للعالم المتحضر اولا ويبغض السخافات العنصرية المتوارثة من بداوة وعشائريات وتخلف، والاهم من ذلك الرفق بعراقنا والكف عن إيذاء العراقيين. 

***

الدكتور غانم المحبوبي

أكاديمي متقاعد، ملبورن، استراليا

في المثقف اليوم