قضايا
أحمد الشيخاوي: في مفهوم الاجتهاد
يمكن الإحاطة دلاليا بهذا المفهوم العصي، وعلى نحو نسبي نوعا ما، في ضوء الآية الكريمة (105) من سورة التوبة، يقول تعالى:
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
مع ما يُستفاد منه ورود ثلاثة مستويات تواصلية معنية بالفعل البشري في حدود ترجيح كفّة الخيري وتبنّي منظومته، قدرا جالبا للاعتدال أو التوازن الإنساني والمجتمعي.
أولا بالنسبة للذات، كونها مطالبة بفتح مرايا الكينونة ومواجهتها المواجهة الحقيقية الفاضحة للأقنعة والزيف النرجسي.
على اعتبار العمل الصالح، وحتّى نبقى في السياق الذي ترمي إليه المرجعية الدينية، استكناها، سواء من الآية الكريمة المذكورة أو باعتماد الأحاديث النبوية الشريفة.
كما هو وارد عن الرسول الأكرم (ص) قوله: (إذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثم أَصابَ فله أَجْرَان، وإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثم أَخْطَأَ فله أَجْر).
مع أن الحديث منقوص وأنه يشترط أن يكون الاجتهاد المشروط بالأجر هو اجتهاد الحاكم بمعنى القاضي*.
وإذا ما حصرنا طرحنا وحدّدناه في هذا المفهوم، أي الاجتهاد والذي يحمل دلالات في الكتاب والسنة، تمّ تمريرها إما بشكل مباشر، مثلما يعكس ذلك هذا الحديث، أو ضمنيا كما توحي بذلك الآية السابقة.
قلت إذا ما اختزلنا الحمولة الدلالية لهذا المفهوم في الاجتهاد الايجابي الذي ينصّ عليه المقدس، بشكل عام، نلمح كيف أن ولادته وترعرعه إنما يكون ابتداء في مركزية ذاتية الكائن، ومن ثم تبرز ثماره على الذات وتتناسل، بما يثير إعجاب وقبول الآخر/ المؤمنين، وبما هو مدعاة للتنافسية ضمن خارطة الخيرية والتعمير، فضلا عن سائر ما يبرهن على الرقابة الإلهية ويغذي الشهادة النبوية ههنا/ فسيرى الله عملكم ورسوله.
ثانيا مستوى الغيرية، بحيث يبرز ذلكم الطرف الذي يتفاعل إيجابيا كذلك، ويصدر عنه رد فعل حميد ، بدوره دال على الاعتدال والتوازن والنأي عن الضغائن والأحقاد.
هكذا تتحقق تجليات الخيرية في ارتباط بالمرجعية التي قد تتيح تشبعا بروح التنافسية كحدّ أدنى لقهر بهيمية الكائن وقمع نزوعه الشيطاني إذ يشوه المرايا الأنوية، ويقود إلى مستنقع ما هو مناقض بالتمام للاجتهاد الإيجابي وصون المقدّس لخيارات ورهانات تخليقه، أي كمفهوم وممارسة كذلك، والتقعيد لمعانيه السلوكية والثقافية والوجودية.
الغيرية إزاء مرايا الذات العارية والصادقة والمتمرّدة على الأقنعة، في فعل بملمح ملائكي نوراني، راع لمعطيات الخيرية.
ثالثا الرقابة الإلهية والشهادة النبوية، وهما أقوى خاصيتان في مثل هذه المقاربة، بالتأكيد، وكيف أنهما شكّلتا لازمة، تنعت الخطاب العقلي، بعدّه جوهر الاجتهاد الإيجابي ووقوده، تبعا لديباجة دينية تروم الكمال الوجودي وتنشد الروح الحضارية في أقصى الأبعاد.
بالتالي، هي مستويات تتضافر وتتشاكل لتصنع أفقا طوباويا راويا للخيرية الإنسانية المقبولة في الأرض والمباركة في السماء، وفق خطوط نفسية وسلوكية تحتفي بالعقل، ضمن انتماء إنساني أوسع، يتخطى العقدي والعرقي واللساني، ليدمغ بحجج وبراهين المشترك، رافلا بهوية كونية ترعاها عين ربانية ساهرة لا تنام.
علما أن الاجتهاد يبقى اجتهادا، بدليل ما وصل إليه وأدركه العقل الأجنبي، السّباق إلى ابتكارات واختراعات شتّى، حدّا جعل ثمراته وقطوفه في متناول الإنسانية جمعاء، بحيث لم يبق حكر المنطق الاستهلاكي، على مصادره وينابيعه، إنما تعدّى ذلك إلى عالمية وعولمة.
ولقد تعمّدت هذا التقسيم، فقط، لإيضاح حقيقة كثيرا ما نغفل عنها، وهي أهمية المسؤولية الوجودية التي يناضل في رحابها المسلم مذيلا هذا السفر الحياتي الخاطف والعابر بمفازة أخروية خالدة وباقية، وشاهدة أيضا على مسرح تفعيل وتثوير العقل الإسلامي، تبعا لمنسوب طاقي ينبذ الغلو والتكلّف، ليغدق على الذات في مركزيتها ووسائطيتها وفي فلك ما يمتدّ عنها ويكمّلها، بنكهة وخصوصية وقداسة الاجتهاد الإيجابي.
لا كما عند غير المسلم، وإن اجتهد فإن ما قدّمه لا ينزاح عن نطاق المنقطع والبائد، مادام هذا المجتهد يُحرم، دونما حصاد جوائز جهوده بعد الموت.
هذا ما يضفي، شرعية، ربما، على هذا التقسيم، أمّا فيما يتعلّق بباقي دوال رسائل الخيرية الوالج الاجتهاد عقيدة وسلوكا في بلورة أنويتها، فهو غير مجد ولا أهمية له، اللهم ، ما تبدّى من زاوية محاربة تاريخ فصل مفهوم الاجتهاد الألصق والأشدّ لحمة بالخطاب العقلي، مثلما هو معلوم ومتّفق عليه، والحيلولة دون محاولات التعتيم على الاجتهاد في لبوسه العدمي المتناقض جملة وتفصيلا، مع وصايا وتعاليم المقدس إجمالا.
***
أحمد الشيخاوي - شاعر وناقد من المغرب
............................
* التوثيق: من صحيح البخاري- الباب الحادي والعشرون- 7352