قضايا

حاتم حميد محسن: من الجسيمات الى الطيور.. هل يمكن توحيد مختلف انواع العلوم؟

عالمنا الحالي مأهول بعدد واسع من مختلف الاشياء – تتراوح من الجينات والحيوانات الى الذرات والجزيئات والمجالات. وبينما يمكن وصف جميع هذه الاشياء بواسطة العلوم الطبيعية، لكن بعض منها يمكن فهمه فقط بلغة البايولوجي بينما اخرى يمكن استطلاعها فقط باستعمال الكيمياء او الفيزياء. وعندما نأتي لسلوك الانسان، نجد موضوعات مثل السوسيولوجي او السايكولوجي هي الأكثر فائدة. هذا الثراء دفع الفلاسفة للتفكير في الكيفية التي تترابط (او لا تترابط) بها العلوم، وكذلك حول الكيفية التي تتصل بها الأشياء مع بعضها في العالم . المشروع الجديد الذي يعكف عليه الخبراء اليوم يسمى التوحيد الميتافيزيقي للعلوم ويُموّل من جانب مجلس البحوث الاوربي، حيث يحاول الاجابة على هذه الاسئلة.

الفلسفة عموما، تميّز بين سؤالين رئيسيين اثنين في هذا المجال. اولا، هناك السؤال الابستيمولوجي عن الكيفية التي ترتبط بها علوم معينة او نظريات معينة مع بعضها. فمثلا، كيف يرتبط البايولوجي بالفيزياء او علم النفس بالبايولوجي؟ هذا يركز على طريقة معرفتنا بالعالم. انه يستلزم النظر الى مفاهيم، توضيحات ومنهجيات مختلف العلوم والنظريات، وفحص كيف تترابط مع بعضها. لكن هناك ايضا سؤال ميتافيزيقي عن الكيفية التي تترابط بها الاشياء في العالم. هل هي فوق المادة التي تفترضها الفيزياء الاساسية؟ أي، هل ان الجزيئات، الكراسي، الجينات، الدولفينات فقط تراكم معقد لجسيمات ما دون الذرة ولتفاعلاتها الفيزيائية الأساسية؟ اذا كان الامر كذلك، بماذا تختلف المادة الحية عن المادة غير الحية؟

هذا سؤال صعب جدا نظرا لما يحمله من وزن وجودي. اذا كان الانسان، من بين اشياء اخرى، هو فقط مجموع أجزاء مادية، عندئذ نحن قد نتسائل كيف نجعل هناك معنى للوعي والعواطف والرغبة الحرة.

رؤيتان متطرفتان

يمكننا تحديد المواقف الفلسفية القائمة حاليا ضمن قطبين متطرفين. من جانب، هناك موقف اختزالي يدّعي ان كل شيء مصنوع ومقرر بلبنات البناء المادي – لا وجود هناك لكراسي، دولفينات، او جينات، هناك فقط جسيمات و مجالات. هذا يعني ان العلوم مثل الكيمياء والبايولوجي هي فقط أدوات مفيدة لفهم واستعمال العالم الذي حولنا.

من حيث المبدأ، الفيزياء "الصحيحة" سوف توضح كل شيء يحدث ويوجد في هذا العالم. لهذا هي يمكن ان تكون، او تبني الأساس لنظرية موحدة. وفق هذه الرؤية، حتى الشيء المعقد مثل الوعي، الذي لم يوضحه العلم بعد، هو بالنهاية ينحدر الى سلوك فيزيائي للجسيمات التي تشكل الخلايا العصبية للدماغ.

ومن جهة اخرى، هناك موقف تعددي يرى ان كل شيء في العالم له وجود مستقل لا يمكن تجاهله. وبينما هناك فهم تُحكم فيه الوجودات الكيميائية، البايولوجية، الاقتصادية بقوانين مادية، لكن هذه الوجودات ليست مجرد تراكم للمادة الفيزيائية بل، هي توجد بمعنى ما فوق المادي. هذا يعني ان العلوم الخاصة ليست فقط وسائل تخدم اهدافا معينة وانما هي اوصاف دقيقة وحقيقية تعرّف سمات حقيقية للعالم. لذلك، فان العديد من التعدديين هم لذلك يشككون حول ما اذا كان الوعي يمكن توضيحه بواسطة الفيزياء – معتقدين انه في الحقيقة اكثر من مجموع أجزاءه المادية.

هناك دليل لدعم كل من الاختزالية والتعددية، لكن هناك ايضا معارضات ضدهما. بينما العديد من الفلاسفة حاليا يعملون على معالجة هذه المعارضات، آخرون يركزون على ايجاد طرق جديدة للاجابة على تلك الأسئلة. هنا تأتي "وحدة العلوم". ان الفكرة التي تنشأ من الجانب الاختزالي ترى ان العلوم موحدة. لكن بعض اشكال الوحدة ترفض الاختزالية والهرميات الصارمة التي تدعو لها بين العلوم، لكنها مع ذلك تتبع اطروحة واسعة بان العلوم بطريقة ما هي مترابطة او تعتمد على بعضها البعض.

فريق البحث، المؤلف من فلاسفة ذوي خبرة في مختلف حقول الفلسفة والعلم، يحاول ايجاد طرق جديدة للتفكير حول وحدة العلوم. الفريق يريد تحديد المعيار الملائم الذي يكفي للادّعاء المقنع بان شكلا من الوحدة حاصل بين العلوم الطبيعية. هم ايضا، ينظرون في دراسة حالات لكي يحققوا في العلوم "المجاورة" وكيف تعتمد على بعضها.

المحصلة من المشروع ستكون لها نتائج هامة تتعدى الفضول الاكاديمي، ستساعد بالنهاية في تقدّم العلوم. اذا كانت هناك حقا طريقة لوصف كيفية ارتباط الحياة بالجزيئات الاولية، فهي سوف تغير اللعبة بالكامل. حتى الان، قام المشروع بعدد من حالات دراسية على الحدود الفاصلة بين البايولوجي والكيمياء، وبين الكيمياء والفيزياء. الان يجري تطبيق نتائج تلك الحالات على اطار ميتافيزيقي لوحدة العلوم. فمثلا، أحد الطلبة بيّن ان العديد من خصائص البروتونات البايولوجية يمكن توضيحها وفق بنيتها المجهرية الكيميائية، بدلا من بيئتها. هذا لا يثبت ان الاختزالية صحيحة، وانما هي فقط تدعم الرؤية.

دراسة اخرى حققت في قضايا مشابهة من منظور الكيمياء وميكانيكا الكوانتم. كلا النظريتين تفترضان ان المركب المنعزل له تركيب معين وهو ثابت، لكن الدراسة جادلت بانك لا تستطيع اثبات ان هذه هي الحالة بالضبط – هذا عادة يوصف بـ المثالية. انها بيّنت ان كل من الكيمياء وميكانيكا الكوانتم تعتمدان على صنع مثل هذه المثاليات وجادلا بان تحديدها يمكن ان يحسّن فهمنا الميتافيزيقي للمركّبات . بالنهاية، فهم الترابطات للعلوم الطبيعية هو مصدر ثمين لفهم ليس فقط العالم الذي حولنا، وانما لفهم أنفسنا. البعض يأمل ان التحقيق في هذه الارتباطات يمكن ان يسلط الضوء بطرق جديدة على الكيفية التي تترابط بها الاشياء في العالم مع بعضها.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم