قضايا
ديفيد بولانسكي: معارك البدايات
تساعدنا رؤى نيكولو مكيافيلي العميقة حول البدايات العنيفة للمجتمعات السياسية على فهم عالم الحاضر
مقال: ديفيد بولانسكي*
ترجمة: الحبيب الواعي**
***
كتب فريدريك نتشه ذات مرة: «إن البشرية تحب أن تتجاهل تساؤلات الأصول والبدايات». مع كامل اعتذاري لينتشه، فإني أقول بأن «أسئلة الأصول والبدايات» هي في الواقع الأشد إثارة للجدل والنقاش الساخن فقد أعادت الحرب الجارية بين إسرائيل وغزة فتح النقاش القديم حول ظروف تأسيس إسرائيل وأصول أزمة اللاجئين الفلسطينيين. وفي الآن نفسه، أصر فلاديمير بوتين في الخطاب الذي ألقاه عشية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 على أن روسيا "منذ الأزل" كانت دائمًا تضم أوكرانيا، وهو الوضع الذي توقف سريان مفعوله مع تأسيس الاتحاد السوفيتي. أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أثار مشروع نيويورك تايمز لعام 1619 قدراً لا يستهان به من الجدل بإصراره على أن الأصول الحقيقية للولايات المتحدة الأمريكية لا تكمن في دستورها الرسمي بل في إدخال العبودية إلى أمريكا الشمالية.
بعبارة أخرى، تمثل العديد من النزاعات السياسية البارزة اليوم وسيلة تعيدنا إلى بدايات الاشياء، وتنتج وتُشن جزئيًا من خلال حجج قوية حول الأصول بالرغم من أنه نادرًا ما يساعد ذلك على حل تلك النزاعات. ولأن هذا النقاش أصبح يكتسح جميع جوانب الحياة فقد لا ندرك مدى غرابة انشغالنا بالأصول السياسية. فالبدايات، في نهاية المطاف، بعيدة كل البعد عن القضايا المطروحة بحيث لا يمكن أن تكون مصدرا للتأثير في الخلافات الجارية أو مصدرًا للخلاف نفسه. لماذا يجب أن يكون الماضي البعيد أكثر أهمية من الماضي القريب أو الحاضر؟ لكي نفهم بشكل أفضل لماذا لا تزال مشكلة الأصول تؤرقنا، وربما لكي نفكر فيها أساسا بشكل أوضح قد يفيدنا اللجوء إلى مصدر مألوف ولكن غير متوقع ألا وهو مكيافيلي.
اشتهر نيكولو مكيافيلي بنصائحه السياسية المتشددة -فهو الذي كتب «من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك» –غير أنه كان أيضًا منشغلًا بدور العنف في تأسيس (وإعادة تأسيس) المجتمعات السياسية. قلة قليلة من المفكرين الذين تناولوا موضوع الأصول السياسية بشكل شامل ومقلق مثل مكيافيلي مما دفع الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسر إلى أن يطلق على مكيافيلي لقب "منظّر البدايات". بالنسبة لمكيافيلي فإن أهمية الأصول تعود إلى سببين: أولاً، لأنها تكشف عن حقائق أساسية حول حتمية تغير الحياة السياسية التي تحجبها السياسة العادية؛ وثانياً، ظروفها العنيفة القابلة مبدئيا للتكرار في كل زمان ومكان.
علاوة على ذلك، يفيدنا موقف مكيافيلي لأنه يقف خارج تقاليدنا الليبرالية. على مر العصور، كان لكل مجتمع قصصه الأصلية، لكن مسألة البدايات تطرح تحديات خاصة بالنسبة لأولئك الذين يعيشون منا في أنواع الدول الحديثة التي بدأت تتشكل لأول مرة في القرن السابع عشر، ويعزى ذلك إلى شرعيتها التي تعتمد على طابعها التشاوري والتمثيلي. فجميع الدول القائمة تقريبًا -حتى غير الديمقراطية منها –تدعي إلى حد ما بأنها تمثل شعبا معينا. فالحكومة التمثيلية هي إحدى الطرق التي نؤكد بها أن السلطة السياسية ليست مجرد هيمنة، وأن قواعدها وعملياتها تهدف إلى الحفاظ على حقوق الشعب الذي يؤسسها، وبالتالي فإننا نحدد أصول المجتمع السياسي بلحظة التأسيس تلك. فعلى سبيل المثال، يؤكد الفيلسوف الليبرالي الكبير جون لوك في كتابه "رسالة ثانية في الحكم" (1689) على أن «بداية المجتمع السياسي تعتمد على موافقة الأفراد على الاندماج وتكوين مجتمع واحد؛ والذين يمكنهم بعد اندماجهم إقامة أي شكل من أشكال الحكومة التي يرونها مناسبة.»
ولكن، ماذا عن حق أي شعب معين في إقامة نظام سياسي في المقام الأول؟ وإذا طالب البعض بتأسيس نظام سياسي جديد، فمن الذي سيحدد الأفراد الذين يندرجون ضمن "الشعب" وأولئك الذين يتواجدون خارجه؟ ومن الذي يقرر بشأن الأراضي التي يحق لهم انشاء الحكومة عليها؟ وكيف يحدث ذلك في المقام الأول؟
هذه أسئلة تعجز الليبرالية الحديثة إلى حد كبير عن مواجهتها، ويعترف جون رولز في كتابه "نظرية العدالة" (1971)، الذي ربما يعتبر أشد الأعمال تأثيرًا في النظرية السياسية في السنوات الخمسين الماضية، بأن وجهات نظره عن العدالة تفترض ببساطة وجود مجتمع قومي مستقر ومكتفٍ بذاته. في العصور الماضية، بت توماس هوبز ولاحقًا إيمانويل كانط في هذه المسألة بشكل صريح، لكن كلاهما حذرا اطلاقا من الاستفسار عن أصول مجتمعاتنا لأنه، كما كتب هوبز في عام 1651، "قلما يوجد في العالم كومنولث يمكن تبرير بداياته بناءً على ضمير حي".
ولا يعني هذا ببساطة أن التقليد السياسي الليبرالي (وهو التقليد السائد في معظم دول العالم المتقدمة) لا يعي ببساطة الأصول السياسية؛ بل يتعامل معها بطريقة تميزها الروية والتجريد بعيدا عن الحقائق التاريخية الفوضوية التي كانت وراء تشكيل الدول والأمم. لقد تم طرح هذا التساؤل في المقال الافتتاحي لجريدة "الفدرالي" الذي كتبه ألكسندر هاملتون دفاعًا عن الدستور الأمريكي الحديث قبل قرنين ونصف:
«هل تستطيع المجتمعات البشرية حقًا إقامة حكومة جيدة على أساس التفكير والاختيار، أم أنه مقدر لها إلى الأبد أن تعتمد على الصدفة والقوة في صياغة دساتيرها السياسية.»
وبعبارة أخرى، سعى مؤسسو الولايات المتحدة الأمريكية بوعي إلى إنشاء مجتمع جديد تمام الجدة يقوم على مبادئ عادلة بدلاً من الأحداث العرضية التي أدت إلى نشوء الحكومات السابقة، وبالتالي تقديم نموذج للدساتير الليبرالية المستقبلية. الصدفة والقوة هما ببساطة وفي جميع الأحوال دعامتان أساسيتان للتاريخ وهما أيضًا لب فكر مكيافيلي وزبدته.
يفتتح مكيافيلي اثنان من أعماله السياسية الرئيسية— " بحث حول ليفي" والذي يتناول فيه بجزم الجمهورية الرومانية القديمة وكتابه "تاريخ فلورنسا" واللذين صدرا بعد وفاته عام 1531-1532 – بنقاش حول أصول السكان أنفسهم. لا تزال مثل هذه الأسئلة المتعلقة بأصول السكان ملحة حتى في الحاضر كما يتضح من نزعة مفهوم "الأصلانية" -أي محاولة تحديد شعب أصيل له حق في الأرض يسبق كل الشعوب الأخرى -والذي تم تطبيقه على أماكن متباينة مثل كندا وفلسطين وفنلندا وتايوان. ويرى المرء دافعًا مشابهًا وراء بعض المطالب القومية اليمينية، مثلا عند جان ماري لوبان الذي يصر على أن الأمة الفرنسية الحقيقية تعود إلى تتويج كلوفيس الأول في القرن الخامس الميلادي. نريد نقطة بداية نشأة واضحة يمكن أن نؤسس عليها المطالبة المشروعة بالأرض إلا أن مكيافيلي يحرمنا من مثل هذه النقطة الثابتة.
يقول مكيافيلي في مستهل "بحوثه" أن جميع المدن شيدها إما السكان الأصليون أو الأجانب، ثم يقدم أمثلة-روما وأثينا والبندقية -تشمل فقط شعوبا تشتت أو أجبرتها قوة غازية على الفرار من مكانها الأصلي إلى مكان جديد. وفي كثير من الحالات، كان الغزاة الذين دفعوا السكان الأصليين الى الفرار هم أنفسهم فارين من ظروف الحرب، فمن الصعب جدًا منع الهجرة، سواء كانت قسرية أو طوعية. من الصعب جدًا منع الهجرة، فعلى سبيل المثال قد لا يضمن تحسين الظروف المعيشية للعامة الاستقرار الديموغرافي، فاليأس هو كذلك أحد الأسباب التي تؤدي إلى الهجرة. في حالة الفرنجة والجرمان مثلا، لم يكن اليأس بل الازدهار الذي أدى إلى الاكتظاظ السكاني مما أجبر الناس على البحث عن أراضٍ جديدة ليسكنوها. وفقًا لميكيافيللي، كانت هذه بداية السكان الذين دمروا الإمبراطورية الرومانية وأعادوا إنتاج دورة العصر التي أنتجت روما في البداية بغزو إيطاليا وتأسيس ممالك في أوائل العصور الوسطى.
وهكذا يوضح ميكيافيلي أن جميع السكان الأصليين كانوا في يوم من الأيام أجانب (إما أن تكون إمكانية وجود شعب "أصلي" مستبعدة أو أنهم من القدماء بحيث لا يمكن الحديث عنهم)، وعلاوة على ذلك يمكن افتراض أن وضعهم ليس سوى نتيجة نهائية لغزو سابق (وربما منسي).
في خضم مناقشتة لتأسيس روما، يوضح مكيافيلي كيف أن الأصول "الشرعية" مصطنعة. فهو يدعي في البداية أن لروما مؤسسًا أصليًا يعرف برومولوس ومؤسسًا أجنبيًا في سلفه يسمى أينياس والذي استقر في لاتيوم بعد هروبه من دمار طروادة، غير أن هذا الأمر يضعف فورا أي احقية سلالية لرومولوس في الأرض لكونها مستمدة من غزو الطروادي أينياس لللاتينيين (هذا الحدث مؤرخ له في كتاب فيرجيل أينيد).
بالإضافة إلى ذلك، فإن رومولوس اضطر إلى تكرار أفعال سلفه لأن تأسيس مجتمع جديد كما يرى مكيافيلي يكون دائمًا فعلا عنيفا يستلزم جريمة جسيمة. ويشكل رومولوس المثال النموذجي على ذلك بقتل أخيه ريموس وحليفه تيتوس تاتيوس. وهكذا يصدر مكيافيلي عن هذه الأفعال الفظيعة ملاحظته الشهيرة التي تقول: «في الحين الذي يدينه الفعل، فإن النتيجة تصفح عنه». وهذا يعني أن الفعل الاستثنائي المتمثل في تأسيس مدينة جديدة (وفي نهاية المطاف إمبراطورية) يبرئ، بل ويقتضي، الجرائم التي ارتكبت خلال هذه العملية. ورومولوس هو فقط أحد المؤسسين من بين عدد من المؤسسين الشبه أسطوريين الذين يمجدهم مكيافيلي في كتاب الأمير باعتبارهم أمثلة "جديرة" إلى جانب ثيسيوس وكورش وموسى. جميعهم أمّنوا تأسيس مجتمعاتهم الجديدة عن طريق العنف، وحتى بالنسبة لموسى فإن الفعل الأهم ليس الهروب من مصر أو تلقي الوصايا في سيناء، بل القضاء على 3000 من بني إسرائيل (وهو رقم يرفعه مكيافيلي إلى «عدد لا نهائي من البشر») بسبب خطيئة عبادة العجل الذهبي.
إن الحقائق الأسطورية التي تقدمها المجتمعات عن أصولها يمكن أن تظل حقائق حتى وإن بقيت البدايات الأولى محاطة بالأساطير. يقول مكيافيلي أن بإمكانه تقديم "أمثلة لا حصر لها" -وهو مصطلح يفضله للغاية -عن دور العنف في تشكيل وإصلاح المجتمعات السياسية. وهكذا يضيف أن مثال هييرو، ملك سيراكيوز، قد يكون أيضًا نموذجًا مفيدًا، غير أن هذه الخطوة تنحرف كليا بالمناقشة عن مسارها لسببين: أولًا، لم يؤسس هييرو أي شيء -فمدينة سيراكيوز كانت موجودة بالفعل عندما تولى السلطة؛ وثانيًا، على الرغم من أن مكيافيلي لن يخبرنا بذلك في هذا السياق، فإن هييرو معروف لدى الجميع بكونه طاغية، أي شخصا يستولي على السلطة الملكية بدل أن يرثها. كان وصف مكيافيلي لكيفية استحواذ هييرو على السلطة وصفا طريفا ومختصرا حين يقول: "قضى هييرو على الجيش القديم ونظم جيشاً جديداً، وتخلى عن صداقاته القديمة وكوّن أخرى جديدة. وعندما ربط صداقات وأصبح له جيش يملكه، استطاع أن يشيد أي بناء على هذا الأساس. لذلك فقد بذل جهدًا كبيرًا للاستيلاء على السلطة لكنه لم يبذل ما يماثله للحفاظ عليها". وفي الصفحات الموالية، يكشف مكيافيلي أن هييرو وصل إلى السلطة من خلال مؤامرة -حيث استخدم المرتزقة للاستيلاء على سيراكيوز ثم قطع أجسادهم بوحشية في الحين الذي كان يطالب فيه بالسلطة السياسية لنفسه. بعبارة أخرى، إذا أردنا أن نفهم كيف تبدو أصول الأمور حقًا، فعلينا الرجوع إلى مثل هذه التواريخ المقلقة.
في بداية كتابه "الأمير"، يقول مكيافيلي عن أولي الأمر: "في عراقة واستمرارية السيادة، تزول ذكريات وأسباب التجديد..." أي أن معظم الحكام -ما يسميه مكيافيلي "الأمراء الذين يرثون الحكم" -هم المستفيدون من بعض الأعمال الرهيبة السابقة التي قام بها أحد الأسلاف الغزاة والذين تولوا العرش في البداية. بالنسبة لنا، قد لا تكن أيديهم ملطخة بالدماء، ولكن عندما نعود إلى الماضي بما فيه الكفاية فسنجد رومولوس -أو هييرو.
في وقت لاحق في نفس الكتاب، يشير مكيافيلي إلى أنه من السهل نسبيًا على الحاكم أن يسيطر على أقاليم لها عادات متشابهة سبق له أن سيطر عليها لفترة طويلة، غير أنه يقدم لنا على سبيل المثال حكم فرنسا في بورغوندي وبريتاني وغاسكوني ونورماندي؛ ومن بين هذه الأقاليم لم يتم احتلال الإقليمين الأولين منها إلا في حياة مكيافيلي نفسه، والثالث في عام 1453، أي قبل أقل من عقدين من ميلاد مكيافيلي. ولا تعزى السهولة التي سيطر بها التاج الفرنسي على هذه الممتلكات -فضلاً عن حقيقة أن هذه المناطق يُنظر إليها الآن ببساطة على أنها فرنسية -إلى الروابط الدائمة التي تربطها بها بل إلى النجاح الذي كلل تهدئتها في البداية.
كلما وقف المرء عند حالة من حالات الحكم المستقر والمنظم، فيمكن إرجاعها إلى شكل من أشكال الغزو، سواء كان قديمًا أو حديثًا. إن قصة المجتمعات السياسية تشبه إلى حد كبير تعريف وودي آلن للكوميديا: مأساة مع فائض من الزمن. وكما تشير أمثلة مكيافيلي الفرنسية، فإن مقدار الوقت المطلوب قد لا يكون مهمًا حتى وإن كان فعل الغزو ناجحًا.
يؤكد مكيافيلي على أن العنف الذي يصاحب تأسيس المجتمعات لا يمكن تجاوزه كليا، ويشيد بكليومينيس إسبرطة لأنه ذبح القضاة الذين ثاروا ضده حين أراد أن يجدد قوانين وضعها مؤسس المدينة ليكورغوس –وهو فعل يشرعن مقارنتة برومولوس نفسه. كما أنه يعترف أيضًا لحكام فلورنسا في القرن الخامس عشر ببصيرتهم عندما ادعوا أنه كان من الضروري قذف "ذلك الرعب والخوف في قلوب البشر" العنيفين المؤسسين "كل خمس سنوات'".
يواجه العديد من قراء مكيافيلي صعوبة في التوفيق بين روايته عن الأصول وبين تجربتنا العملية في الحياة السياسية. قد يظنون أنه من الجيد أن يعرفوا أنه قد تضطر إلى قتل أخيك لتأسيس مدينة عظيمة، ولكن ماذا لو كنت تريد فقط إيجاد فرصة لاقتراحك بشأن إنارة الشوارع في المدن؟ أو كيف تساعدنا تعاليم مكيافيلي حول الأصول السياسية في فهم العالم الراهن؟ فمن ناحية، يقدم لنا نظرة ثاقبة لأشكال العنف المتكررة التي لا تزال (وستظل) تندلع على طول الحدود الغير المستقرة وفي الأماكن التي لا تزال الدول فيها في طور التكوين.
تشمل قائمة الأهوال والفواجع التي صاحبت إنشاء الدول القومية في القرن العشرين وحدها (من بين أمور أخرى): الطرد الجماعي للأرمن عام 1915؛ وعمليات الطرد المتبادل للهندوس والمسلمين من باكستان والهند (على التوالي) أثناء التقسيم عام 1947؛ والطرد المتبادل للعرب واليهود من إسرائيل وجيرانها (على التوالي) من 1947-1949؛ وفرار المستوطنين الأوروبيين من الجزائر عام 1962؛ وتهجير الأرمن والأذريين من ناغورني كاراباخ في الثمانينيات والتسعينيات؛ والتطهير العرقي المتبادل خلال حروب البلقان في التسعينيات وغيرها. ومع ذلك، ما زلنا نعتبرها استثناءات داخل قاعدة النظام السياسي. إن سلسلة الأحداث التي نربطها بتكوين دولنا الحديثة (والتي تشكل مصدر الكثير من الجدل المستمر) ليست في الحقيقة سوى آخر سلسلة من الحلقات في سلسلة أطول بكثير ولا نهاية لها.
لا تزال الصدفة والقوة تقبعان تحت المظاهر الخارجية لسياستنا اليومية، وتهدد بالظهور من جديد. هذا أمر يصعب علينا قبوله، فحتى في الأزمنة الأشد استقرارا، لا تزال ضمائرنا تؤرقنا تماما مثل بولينبروك شكسبير بعد أن أسقط حكم ريتشارد الثاني. فضلا عن ذلك، نحن لا نكتفي فقط بالنظر إلى أسسنا باعتبارها عادلة بل نتوق إلى اعتبارها آمنة. عندما نتصورها على خلاف ذلك فنحن نعترف بأن ظروفنا لا تزال في حالة تغير مستمر، وإذا كانت كل الأشياء في حالة حركة، فما مصيرنا؟
يبدو أن شيئًا من هذا القلق يكمن وراء الطريقة التي نتحدث به عن الأصول السياسية اليوم، وبالتفكير مع مكيافيلي يمكننا أن ندرك كيف أن التقليد الليبرالي للفكر السياسي الذي يعود إلى مئات السنين حتى الآن لم يزودنا بقدرات تمكننا من التفكير بشكل أخلاقي في أصولنا التاريخية، وعندما نواجه هذه المسألة تكون النتيجة إما الهروب نحو القومية الدفاعية أو الإدانة الأخلاقية. وفي الحين الذين يمكن أن تبسط فيه قراءة عمل مكيافيلي واعتباره تهكما واستهزاء، فإن قدرًا لائقًا من التهكم لا يعدو أن يكون شيئا من الواقعية، ويمكن لموقف الواقعية من الحياة السياسية أن يحصّننا من التقية واليأس، مما يسمح لنا بالاعتراف بصدق بالجرائم التي ساهمت في تشكيل مجتمعاتنا السياسية دون أن يتطلب منا الأمر احتقار أوطاننا.
وعلى نحو مماثل، سيكون من السهل أن نقرأ مكيافيلي على أنه يفضح السرديات التنويرية التي تحيط بتأسيس المجتمعات الجديدة، بدءًا من أساطير اليونان القديمة إلى احتفالات عيد الاستقلال الحديثة. يبدو أن لسان حال مكيافيلي يقول: "هذا ما حدث بالفعل،" إلا أنه من المهم أن ندرك أن مواقفه عن أصول السياسية لا تهدف إلى التجريم بل إلى الإرشاد.
إن عمل مكيافيلي يحمل أيضًا تحذيرًا يقول بأن الظروف المتقلبة والمخالفة للقانون التي تحيط بأصولنا تعكس احتمالات ثابتة في الحياة السياسية. إنها لحظات حاسمة تكشف فيها قوانيننا القائمة عن عدم كفايتها لأنها صيغت في ظل ظروف مختلفة عن تلك التي قد نواجهها في الوقت الحاضر، مما يتطلب فعلا اصلاحيا جريئا يضطلع به وفق المنطق ذاته الذي وضعت فيه هذه القوانين في الأصل.
قد لا نكون ملزمين بالسير مباشرة على خطى شخصيات استبدادية مثل كليومينيس في إسبرطة أو آل ميديتشي في فلورنسا خلال العصور الوسطى، وجميعهم استخدموا العنف الرهيب أثناء الإصلاح؛ غير أننا قد نتعلم من هذه الأمثلة دروسا حول الرهانات الدراماتيكية التي يرتكز عليها حفظ نظامنا السياسي كما قال الفيلسوف كلود لوفورت في عمله العظيم عن مكيافيلي والصادرعام 2012: «هذه هي حقيقة العودة إلى الأصل؛ هي ليست عودة إلى الماضي، بل ردًا في الحاضر يشبه الرد الذي تم تقديمه في الماضي «.
تكمن قيمة المكاسب التي نجنيها من قراءة مكيافيلي في مايلي: إن مواجهة التداعيات المقلقة لأصولنا قد تعيننا على الاستعداد بشكل أفضل للتقلبات المستمرة في الحياة السياسية. في نهاية المطاف، قد يكون نظامنا القائم هو الشيء الوحيد الذي يقف في طريق الأصول أو البدايات الجديدة لشخص آخر.
***
..................
العنوان الأصلي للمقال:
The battles over beginnings،
ونُشر في موقع Aeon، في 8 مارس 2024.
رابط المقال:
https://aeon.co/essays/machiavelli-on-the-problem-of-our-impure-beginnings
* ديفيد بولانسكي: زميل باحث في معهد السلام والدبلوماسية. ظهرت كتاباته في مجلات: كويليت Quillette، والمعيار الجديد New Criterion، ومراجعة السياسة The Review of Politics، وغيرها. ويعيش في تورونتو، كندا
** الحبيب الواعي: أستاذ الأدب الإنجليزي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير، المغرب. نشر مقالات عدة في مجلات وجرائد دولية. صدر له ديوانين شعريين بالإنجليزية بالإضافة إلى ترجمات أهمها المطر القديم لبوب كوفمان، رسائل ثورية لديان دي بريما، وحبس لأجل غير مسمى لمايكل روتنبرغ, و ما الجهاز ومقالات أخرى لجورجيو أغامبن.