قضايا
أكرم عثمان: الضائقة النفسية التي نصنعها عند أخطائنا
الضائقة النفسية التي نصنعها عند أخطائنا لها تأثيراتها الاجتماعية الخطيرة علينا
قصة كعب بن مالك نموذجاً
تفكر في موقف الذين تخلفوا عن غزوة تبوك وما حدث لهم من المقاطعة خمسين يوماً، حيث نزل بهم قرآنا يتلى ليوم الدين، قال الله تعالى {وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لاملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم * يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}.. (التوبة:118،119).
يقول كعب بن مالك أحد الذين تخلفوا عن الغزوة، " فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد راجعاً من تبوك حضرني الفزع، فجعلت أتذكر الكذب، وأقول: بماذا أخرج من سخط رسول الله؟ واستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة، زال عني الباطل، وعلمت أني لا أنجو منه إلا بالصدق، فأجمعت أن أصدقه. فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعا وثمانين رجلاً، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي، ما خلفك ؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلاً، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم أعتذر، ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي، فسألت هل قال أحد بمثل ما قلت؟ فذكروا لي رجلين صالحين: مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية وكان فيهما لي أسوة.
ثم إن رسول الله نهى عن محادثتنا نحن الثلاثة، فاجتبنا الناس، وتغيروا لنا، فتنكرت لي نفسي والأرض، أما صاحبيّ فاستكانا وقعدا في بيتيهما، أما أنا فأصلى مع المسلمين وأطوف الأسواق ولا يكلمني أحد حتى أقاربي. بينما أنا في هذا الحال إذا جاءت رسالة من ملك غسان يقول لي: الحق بنا نواسيك بعد أن هجرك صاحبك، قلت: هذا من البلاء أيضاً، فحرقت الرسالة، فلما مضت أربعون ليلة إذ رسول من النبي صلى الله عليه وسلم يأمرني باعتزال امرأتي فقلت: الحقي بأهلك، وكان الأمر باعتزال النساء لصاحبيّ أيضاً. فلما مضت خمسون ليلة أذن الله بالفرج وجاءت التوبة، قال كعب: فما أنعم الله علي بنعمة بعد الإسلام، أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، و الله ما أعلم أحداً ابتلاه الله بصدق الحديث بمثل ما ابتلاني.1]
ثم قال: فلبثنا [بعد ذلك] عشر ليال، فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى عن كلامنا قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله تعالى منا: قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض بما رحبت سمعت صارخا أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله ". قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، حتى يعرف ذلك منه. فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله. قال: " أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك ". قال: فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. قال: فوالله ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه الله من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني الله تعالى، والله ما تعمدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: وأنزل الله تعالى: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم. وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين)[2]
هذه دروس نتعلمها أن الذنوب والأخطاء التي نحن نحدثها ينتابنا خوف وجزع عند مواجهة الحقيقة والقائد الذي يسيطر على الموقف، وقد نستخدم مبررات كالكذب ونخلق الأعذار الواهية غير الصادقة حتى ننجو من عيوبنا الذي فعلناه ومع ذلك أصحاب المبادئ مهما زلت أنفسهم ووقعوا في في تقصيرهم يكون صدقهم سمة بارزة في شخصوهم، فلا يستطيعون التحايل والتملص بطريقة غير مهذبة من فعلتهم وما حدث منهم، فصدقهم ميزة أخلاقية ينظرون على أنها مناجاة وفرصة لعبور المنعطفات التي يسلكونها، وإن دفعوا فاتورة وعقاب ما قصروا به وفعلوه. فالاعتراف ميزة في صفاتهم وخصالهم مهما بلغ السيل الزبا، بالرغم من تقريعه ومعاتبته من أهله بأنه لم يقدم عذراً لغيابه عن المشاركة في الغزوة حتى يستغفر له الرسول عليه السلام وينتهي الموقف لصالحه، " فكان صادقاً بعيداً عن الكذب بالرغم من أن نفسه حدثته بذلك حينما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة " والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك. فخرجت من عنده فلحقني بعض أهلي يلوموني على أني لم اعتذر ويستغفر لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى هممت أن أرجع عن صدقي"[3]، وبالرغم من ملامة الأقرباء على عدم تقديم الأعذار إلا أنه بقي صادقاً في قوله، وهذا بحد ذاته تحد وصمود على القيم والمبادئ الأخلاقية السمحاء التي نادى بها الأسلام، إلا أنه بقي على مبادئه وشفافيته ووضوحه لا يعرف التلاعب والتحايل في سلوكه وما بدر منه.
وبالرغم من أصحاب كعب (مرارة بن الربيع و هلال بن أبي أمية) بقوا في منازلهم إلا أنه ظل يصلي في المسجد ويجوب الأسواق دون أن يكلمه أحد، وهذا بحد ذاته قوة ومنعة وحرص على أداء الشعائر والعبادات والتواصل مع من حوله من الناس المحيطين به. ناهيك عن استجابة كعب بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم في فقم حتى يقضي الله فيك وأمره أن يعتزل زوجته، فهذه قمة الانضباط والالتزام بتعليمات القائد العظيم عليه الصلاة والسلام بالرغم من الموقف الذي أحدثه والنفسية والظروف التي لازمته في محنته.
وأن الأحداث التي نسلكها ونحدثها في واقع حياتنا لها تبعات نفسية واجتماعية ومجتمعية، تفرض نفسها علينا وتؤثر فينا وتحاصرنا وتقيد حركتنا ومسار حياتنا، فنقع تحت الضغوط والتوترات والمخاصمات والمقاطعات التي تجعلنا في هم وغم، فالضيق الذي نشعر به من التقصير الذي صنعناه والتبعات والإجراءات التي الذي يحدثها المجتمع من حولنا، فإذا كان هناك تخلف عن الغزوة وتكاسل دون مبرر أو عذر، " ورغم ما حدث من مقاطعة وحصار لمدة خمسين يوماً، فكان الـتأثير النفسي شديد والاجتماعي أشد من شعور المتخلفين عن الغزوة لمدة لست هينة، حتى قال كعب " قد ضاقت علي نفسي، وضاقت علي الأرض"، وهذا مؤشر مهم على أن الضيق الذي يحدث من علل وأمراض نفسية وجسدية يكون تأثير المجتمع المحيط أبلغ وأشد إيلاماً من وقع السيوف على المرء، يجعله في حيرة من أمره وفي وضع لا يحسد عليه. " حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه)..( ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ( فما الأرض ? إن هي إلا بأهلها. إن هي إلا بالقيم السائدة فيها. إن هي إلا بالوشائج والعلاقات بين أصحابها. فالتعبير صادق في مدلوله الواقعي فوق صدقه في جماله الفني، الذي يرسم هذه الأرض تضيق بالثلاثة المخلفين، وتتقاصر أطرافها، وتنكمش رقعتها، فهم منها في حرج وضيق). (ضاقت عليهم أنفسهم) كأنما هي وعاء لهم تضيق بهم ولا تسعهم، وتضغطهم فيتكرب أنفاسهم. (وظنوا أن لا ملجأ من اللّه إلا إليه، وليس هناك ملجأ من اللّه لأحد، وهو آخذ بأقطار الأرض والسماوات. ولكن ذكر هذه الحقيقة هنا في هذا الجو المكروب يخلع على المشهد ظلاً من الكربة واليأس والضيق، لا مخرج منه إلا بالالتجاء إلى اللّه مفرج الكروب.. ثم يجيء الفرج.. ( ثم تاب عليهم ليتوبوا إن اللّه هو التواب الرحيم ).[4]
وضِيقُ الأرْضِ: اسْتِعارَةٌ، أيْ حَتّى كانَتِ الأرْضُ كالضَّيِّقَةِ عَلَيْهِمْ، أيْ عِنْدَهم. وذَلِكَ التَّشْبِيهُ كِنايَةٌ عَنْ غَمِّهِمْ وتَنَكُّرِ المُسْلِمِينَ لَهم. فالمَعْنى أنَّهم تَخَيَّلُوا الأرْضَ في أعْيُنِهِمْ كالضَّيِّقَةِ، و(رَحُبَتْ) اتَّسَعَتْ، أيْ تَخَيَّلُوا الأرْضَ ضَيِّقَةً وهي الأرْضُ المَوْصُوفَةُ بِسِعَتِها المَعْرُوفَةِ.
وضِيقُ أنْفُسِهِمُ: اسْتِعارَةٌ لِلْغَمِّ والحَزَنِ لِأنَّ الغَمَّ يَكُونُ في النَّفْسِ بِمَنزِلَةِ الضِّيقِ. ولِذَلِكَ يُقالُ لِلْمَحْزُونِ: ضاقَ صَدْرُهُ، ولِلْمَسْرُورِ: شُرِحَ صَدْرُهُ.[5]
ومن التحديات والمعضلات التي تعرض لها كعب أن ملك غسان أراد أن يستغل الهموم والوضع النفسي والاجتماعي الذي حدث له، بإغرائه أن يلحق بهم وقال له تعال بنا نواسيك ومع ذلك لم يترك لنفسه فرصة للتفكير بالأمر رغم ضعفه وهمه والحالة التي مر بها، فقد مزق الرسالة ولم يستجب لها مهما كان الظرف أو الحال الذي مربه. ومع هذا الضنك والضيق والهم جاء الفرج بعد مرور فترة من الزمن وحرص بعضاً من الصحابة رضوان الله عليهم على البشارة والتهنئة له" عندما قال" سمعت صارخاً أوفى على جبل سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر. قال: فخررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج، فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، وذهب قبل صاحبي مبشرون، وركض إلي رجل فرسا، وسعى ساع من أسلم وأوفى على الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، فنزعت ثوبي، فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أؤم رسول الله صلى الله عليه وسلم، يلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوني بالتوبة، يقولون: ليهنك توبة الله عليك. حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهرول، حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إلي رجل من المهاجرين غيره قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو يبرق وجهه من السرور: " أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ". قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله ؟ قال: " لا بل من عند الله "."[6]. فأصحابه لم يستغلوا الموقف وينبذونه ويوصفونه بأوصاف لا تليق به، أو يخرجونه من دائرتهم، بل حرصوا على دعمه وتهنئه وبشارته بأن الله تاب عليه، وحرصوا على إبلاغه بذلك وهم فرحون به يباركون له ويعانقونه حباً وكرامة له. ولم ينسى موقف طلحة بن عبيد الله عندما صافحه وهنأه.
حرص كعب على تقديم هدية لمن بشره بأن الله تاب عليه بالرغم من أنه لم يملك غيرهم، بالفرحة والسعادة تكمن في التقرب إلى الله والحزن والضيق في العقوبة ألتي فرضت عليه نظراً لحبه لله عزوجل ومبته لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، والاهتمام بالصدقة بكل ماله تقرباً لله عز وجل كتكفير للذنوب والمعاصي والآثام والعودة من جديد بنفسية متجردة من صفاتها السلبية والأخطاء التي حدثت معه إلى جادة الصواب والاستقامة"فقد اشار كعب رضي الله عنه " فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول اللّه، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى اللّه وإلى رسوله [ص]، قال: " أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك " فقلت: إني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت يا رسول اللّه إنما أنجاني اللّه بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقاً ما بقيت. فواللّه ما أعلم أحداً من المسلمين أبلاه اللّه من الصدق في الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول اللّه أحسن مما أبلاني اللّه تعالى، واللّه ما تعمدت كلمة منذ قلت ذلك لرسول اللّه إلى يومي هذا كذباً، وإني لأرجو أن يحفظني اللّه فيما بقي. وأنزل اللّه: لقد تاب اللّه على النبي والمهاجرين والأنصار - إلى قوله - وكونوا مع الصادقين. [7]
***
د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية البشرية
2024
....................
[1] https://www.islamweb.net/ar/article/17674
[2] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura9-aya118.html
[3] https://www.islamweb.net/ar/article/17674
[4] https://quran-tafsir.net/qotb/sura9-aya118.html
[5] https://tafsir.app/ibn-aashoor/9/118
[6] https://quran.ksu.edu.sa/tafseer/katheer/sura9-aya118.html