قضايا
حاتم حميد محسن: تاريخ الانسانوية لدى فلاسفة اليونان القدماء
رغم ان مصطلح "انسانوية" humanism (1) لم يُطبق على الفلسفة والنظام العقائدي حتى عصر النهضة الاوربية، لكن اولئك الانسانويين الأوائل كانوا يستلهمون من الافكار والمواقف التي اكتشفوها في المخطوطات المنسية لليونان القديمة. هذه الانسانوية اليونانية يمكن تحديدها بعدد من الخصائص المشتركة: انها كانت مادية في كونها تسعى لتوضيحات للأحداث في العالم الطبيعي، انها قيّمت التحقيق الحر في كونها ارادت ان تفتح امكانات جديدة للتأمل، وقيّمت الانسانية في كونها وضعت الكائن البشري في صدارة الاهتمامات الاخلاقية والاجتماعية.
أول انسانوي
يمكن اعتبار الفيلسوف والمعلم اليوناني بروتوغاروس اول "انسانوي" عاش حوالي القرن الخامس قبل الميلاد. عرض بروتوغاروس خاصيتين هامتين بقيتا أساسيتين للانسانية الى اليوم.
اولا، هو يبدو جعل الانسانوية نقطة البدء للقيم والاعتبارات عندما طرح عبارته الشهيرة "الانسان مقياس كل شيء". بكلمة اخرى،عندما نؤسس معاييرنا لا يجب ان ننظر الى الالهة وانما الى انفسنا.
ثانيا، بروتوغوراس كان مشككا جدا في الاديان التقليدية والآلهة لدرجة اُتهم بالمعصية ونُفي من اثينا. طبقا لديوجين لنرتيوس ان بروتوغوراس ادّعى : بانه "فيما يتعلق بالالهة، انا ليست لدي وسيلة لمعرفة ان كانت موجودة ام غير موجودة. ذلك بسبب العقبات التي تمنع المعرفة والمتمثلة في كل من غموض السؤال وقصر حياة الانسان". هذه المشاعر الراديكالية كانت قبل 2500 سنة، وربما لاتزال حتى اليوم.
بروتوغوراس هو أقدم فيلسوف امتلكنا سجل عنه، هو بالتأكيد ليس الأول منْ كانت لديه هذه الافكار ومحاولة تعليمها للاخرين. وهو ايضا لم يكن الأخير: رغم مصيره المؤسف بايدي السلطات الاثنية، كان هناك فلاسفة اخرون في نفس العصر اتبعوا نفس الخط الفكري الانسانوي.
هم حاولوا تحليل عمل العالم من منظور مادي بدلا من افعال اعتباطية للالهة. هذه المنهجية المادية ذاتها كانت طُبقت ايضا على ظروف الانسان عندما سعوا لفهم افضل للجماليات والسياسة والاخلاق وغيرها. لم يعد هناك اطمئنان لفكرة ان المعايير والقيم في هذه المجالات من الحياة تنحدر الينا ببساطة من الاجيال السابقة او من الالهة، وانما هم سعوا لفهمها وتقييمها وتقرير الى أي درجة يمكن تبريرها.
انسانويون يونانيون آخرون
سقراط الشخصية الأبرز في حوارات افلاطون انتقد بالتفصيل المواقف والحجج التقليدية، كاشفا ضعفها وعارضا خيارا آخرا مستقلا. ارسطو حاول تدوين المعايير ليست تلك الخاصة بالمنطق والتفكير وانما ايضا في العلوم والفن. ديموقريطس جادل لأجل تفسير مادي خالص للطبيعة، مدعيا ان كل شيء في الكون مركب من جسيمات ضئيلة وهذه هي الواقع الحقيقي وليس العالم الروحاني الكامن وراء حياتنا الحالية.
إبيقور تبنّى هذا المنظور المادي حول الطبيعة واستعمله ليطور فيما بعد نظامه الخاص في الاخلاق، مجادلا ان التمتع بهذا العالم المادي الحالي هو أعلى خير اخلاقي يكافح نحوه الفرد. طبقا لإبيقور، لا وجود هناك لآلهة يمكن ان ندعوها او تتدخل في حياتنا، ما لدينا في الوقت الحاضر هو كل ما يجب ان يهمنا. بالطبع، الانسانوية اليونانية لا تنحصر فقط في تأملات بعض الفلاسفة. انها جرى التعبير عنها ايضا في السياسة والفن. فمثلا، الخطاب الجنائزي الشهير لبيركلس عام 431 قبل الميلاد كاحتفال باولئك الذين ماتوا اثناء حرب البيلوبونيس لم يرد فيه أي ذكر للالهة او للارواح بعد الموت. هو أكّد على ان اولئك الذين قُتلوا انما لأجل اثينا وسيعيشون في ذاكرة مواطنيها.
المسرحي اليوناني يوربيدس Euripides انتقد ليس فقط التقاليد الاثنية، وانما ايضا الدين اليوناني وطبيعة الآلهة التي لعبت الدور الكبير في حياة العديد من الناس. سوفكليس، كاتب مسرحي آخر أكّد على أهمية الانسانية وروعة الخلق الانساني. هؤلاء ليسوا الاّ عدد قليل من فلاسفة اليونان والفنانين والسياسيين الذين لم تجسد افكارهم وافعالهم فقط ابتعادا عن الخرافات وخوارق الطبيعة وانما ايضا أثاروا تحديا لأنظمة السلطة الدينية في المستقبل.
***
حاتم حميد محسن
......................
الهوامش
(1) يختلف مصطلح انسانوية عن مفردة انسانية humanity، حيث ان الانسانوية فلسفة عقلانية وعقيدة تركز على مصالح وقيم الانسان. انها ترفض ما فوق الطبيعة وتؤكد على كرامة الفرد وامكانية الادراك الذاتي من خلال العقل.اما الانسانية فهي تشير الى العرق الانساني وتضم كل شخص يعيش على هذه الارض.