قضايا
محمود محمد علي: التفسير السوسيولوجي لأزمة اليسار العربي في التاريخ
متى ظهر اليسار العربي في التاريخ الحديث؟، وكيف تشكل؟، وكيف تمظهر؟، وكيف استمر؟، ومن هو اليساري الحقيقي؟ وكيف يكون المرء يساريا؟، وما إسهام اليساريين العرب في قضايا أمتهم؟، وما آرائهم وموقفهم وأخطائهم ومراجعاتهم؟ ـ ولماذا تراجع دور اليسار وحضوره وفاعليته؟، وما أزمته التي لا يكف أصحابه عن تردادها والنقاش حولها وطرح الحلول؟ وما موقف اليسار من الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان ومن الأنظمة المستبدة ومن الحركات الإسلامية ومن ثورات الربيع العربي ومن الانقلابات العسكرية وغير العسكرية؟، وهل لليسار العربي مستقبل؟
وقبل أن أجيب على تلك التساؤلات، دعونا نفسر اليسار العربي في التاريخ تفسيرا سوسيولوجيا فأقول: في الأول من آيار عام 1907 كانت هناك مظاهرات على أحد شواطئ لبنان، تعلن عن توجه جديد يتبناه مجموعة من المثقفين والطلاب الذين درسوا في أوروبا وعادوا إلى لبنان، حاملين معهم أفكارا اشتراكية، وقبل ذلك " أحمد فارس الشدياق"، في جريدته الشهيرة" الجوانب"، نشر مقالا عن الحركات العمالية، ضمنه كلمة" الاشتراكية" في استخدام عربي لها .
وفي دمشق في الثامن من آذار عام 1912 أصدر حلم الفتيان العدد الأول من جريدة الاشتراكية، ودعا فيه إلى المذهب الاشتراكي في المساواة والحقوق والواجبات قبل الحرب العالمية الأولى، وبعد ثورة 1908 في تركيا، شاء نوع من الديمقراطية النسبية في الدولة العثمانية، فظهرت الصحف وتأسست الأحزاب، كما ظهر الجناح اليساري في الحركة الوطنية .
أما إذا انتقلنا لليسار المصري فنجده قد بدأ على الطلاب المصريين العائدين من أوروبا والذين بدأوا في نشر الأفكار الاشتراكية عند عودتهم في بداية العقد الأول من القرن العشرين، وقد تأسس الجزب الشيوعي الأول في مصر، في الثامن والعشرين من أغسطس عام 1921، وكان أول حزب شيوعي في القارة الإفريقية والساحة العربي.
تبنى الحزب الماركسية اللينينية، وعٌرف بالحزب الاشتراكي المصري، وعقد مؤتمره الأول في العشرين من يوليو في عام 1922، وتقدم بطلب للانضمام إلى الأممية الثالثة الكومنتيرن،ثم نجح الحزب في عقد مؤتمره الثاني يومي السادس والسابع من يناير عام 1923، وقرر تسمية الحزب بالحزب الشيوعي المصري، وأقر البرنامج العام للحزب، وانتخب لجنة مركزية .
وقد تبعه الحزب الشيوعي اللبناني عام 1924 ،والذي أسسه المصري – اللبناني " فؤاد الشمالي"، واللبناني " يوسف يزدك"، والأرمني " أرتن ماديميان"، وكان أمينه العام " خالد بكداش"ـ وكان الحزب الشيوعي اللبناني، هو الحزب الثاني في بلاد الشام، بعد الحزب الفلسطيني الذي تأسس في مارس عام 1919 .
نشأ اليسار العربي متزامنا مع قيام الاتحاد السوفيتي وقيام ما سمى بالمعسكر الاشتراكي، وفي منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، كان اليسار العربي، قد دخل في مرحلة اليسارية الثانية، وهي مرحلة سوفيتية في عمومها، وفرنسية في الاستثناءات الحزبية وارتبطت بالحزب الشيوعي الفرنسي .
وفي هذه المرحلة ستشهد اليسارية الثانية غلبت الاستراتيجيات الدولية الكبرى على السياسات الاجتماعية الوطنية.
وفي الخامس عشر من آيار عام 1948 قيام ما يسمى بدولة إسرائيل، والتي بها اعترف الاتحاد السوفيتي بعد دقائق من إعلانها، فتبعه الشيوعيون العرب، حتى وصف الحزبان الشيوعيان في سوريا والعراق، تدخل العربي لإنقاذ فلسطين بالتدخل الرجعي، ودعا بعض قادة الحزب الشيوعي في مصر إلى تأييد إسرائيل لأنها تمثل مرحلة أرقى من التطور الاجتماعي، وهي مرحلة الرأسمالية، في حين أن الدول العربية تمثل مرحلة العلاقات الإقطاعية .
ظهرت الأحزاب الناصرية التي رفعت لافتات الاشتراكية، وكان أبرزها حركة القوميين العرب، وحزب البعث العربي الاشتراكي قبل أن ينقسم إلى فرعين : سوري، وعراقي، بعد وصول الحزب إلى السلطة في البلدين على إثر انقلابين عسكريين؛ ففي سوريا قام بعض الضابط من القسم اليساري لحزب البعث السوري بانقلاب عسكري في الثامن من آذار عام 1963، وفي نهاية الستينات من القرن الماضي تأثر جيل جديد في العالم العربي بما يجري في العالم اليساري من ثورات فيتنام وكوبا، والثورة الطلابية في فرنسا، وظهور الجماعات الماوية والترتوسكية، ردا على التحجر الإيديولوجي بالاتحاد السوفيتي .
في لبنان برز يسار جديد من خارج الحزب الشيوعي، فتم تأسيس لبنان إشتراكي على يد مجموعة من الطلبة اللبنانيين في منتصف الستينيات، في حين انفصل التيار اللينييي عن الحزب الشيوعي اللبناني ليتحول لاحقا إلى اتحاد الشيوعيين اللبنانيين.
وفي تونس برزت كل من مجموعة الدراسات والعمل الاشتراكي، ومجلة "آفاق"، وفي مصر بعد انحسار اليسار فترة الخمسينيات والستينيات، وامتلاء معتقلات النظام باليساريين والشيوعيين، عاد اليسار للظهور مطلع السبعينات مدفوعا بتفجر القضية الوطنية بعد هزيمة 1967 والحراك الطلابي في الجماعات .
ومع عودة التعددية الحزبية في منتصف السبعينات، كانت العودة الرسمية لليسار، واستمر الصعود حتى أواخر الثمانينيات قبل أن ينحسر اليسار مرة أخرى بسبب تضييق الرئيس حسني مبارك على المجال العام .
وفي ديسمبر عام 1991 انهار الاتحاد السوفيتي واتجه عدد من القيادات الاتجاهات اليسارية إلى تجاوز المجال السياسي إلى المجتمع المدني والحقوقي، واستمر مسار انحسار اليسار إلى مطالع الألفية الجديدة، والتي شهدت اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، والحرب على أفغانستان والعراق عامي 2001، 2003 .
وفي أواخر 2010 جاء ثورات الربيع العربي، ووجد اليسار العربي فيها فرضة حقيقية للعودة، حيث شارك حزب العمال الشيوعي التونسي من اللحظات الأولى، كما شاركت مجموعات وافراد يساريون، سواء من خلال الاتحاد التونسي للشغل أو من خارجه.
وفي مصر كان الحزب الشيوعي المصري من الداعين إلى إضراب الخامس والعشرين من يناير، وكذلك الاشتراكيون الثوريون، وغيرهم من المجموعات القومية المحدودة، إلا أن اليسار التونسي المصري شهدا رسوبا في اختبار الانتخابات بعد رحيل نظام بن علي وحسني مبارك، وصعدت القوة الإسلامية الجاهزة، ما زاد من أزمة اليسار العربي، وعمقها، ودفع بعض الأصوات اليسارية إلى تحليلات متطرفة تتماهى مع خطابات الأنظمة السابقة، وتدعي أن ثورات الربيع العربي تخطيط أمريكي لاستبدال نظاما بآخر، وضرب المقاومة والممانعة وتقسيم الدول العربي.
وبعد هذه الجوالة التي غصناها عبر التاريخيانية التي أعشقها وهي تاريخيانية أستاذي عبد الله العروي، أود أن الإجابة على الأسئلة التي بدأتها، ولابد أن أنهيها من خلال سؤال محوري واحد وهو هل ولي اليسار إلى غير رجعة؟ ..، والإجابة تكون بلا وألف لا ..، فهل يمكن أن ننسى تلك التحولات اليسارية الكبرى في أمريكا الجنوبية والوسطي، والكاريبي (600 مليون) كما يقول نايف حواتمة، صعود الثورة الكوبية بقيادة يسارية جذرية، وكسر الحصار من حولها في العالم، ما عدا الجار الشمالي، هذه التحولات الكبرى أدت إلى اعتراف إدارة الرئيس الأمريكي السابق بارك أوباما بفشل سياسات الحصار الأمريكي على مساحة 47 عاما، وكسر تعليق عضوية كوبا في منظمة الدول الأمريكية واستعادة حقها بين أسرة دول الأميركتين (3 حزيران / يونيو 2009)، وعلى الطريق كسر حصار الجار الجبار الشمالي .
كذلك لا ننسى التطورات العلمية التكنولوجية والاقتصادية العملاقة في الصين، فيتنام، والعملية العسكرية في كوريا الشمالية بإدارة قيادات يسارية، في الهند يتحالف يسار الوسط كما يقول نايف حواتمة (حزب المؤتمر) مع اليسار الماركسي وبالعودة للشعب، والانتخابات الديمقراطية وبرامج جامعة بين ثورات ما بعد التصنيع " العلم والمعرفة، العلمانية، والمساواة في المواطنة، التقدم والعدالة الاجتماعية .
كذلك لا ننسى التطورات نحو اليسار في جنوب إفريقيا (أكبر اقتصاد في إفريقيا، 47 مليون)، في أنجولا، ورياح العديد في عديد أقطار أفريقيا السمراء، إنها عمليات النهوض العاصف الكبير في مسار شعوب العالم الثالث والجنوب نحو عالم الحداثة والعدالة الاجتماعية مع مطالع القرن الحادي والعشرين .
على الضفة الأخرى أزمة النظام المالي الرأسمالي العالمي الطاحنة اجتاحت اقتصاد بلدان المركز الرأسمالي العالي التطور، وامتدت على مساحة العالم أكثر وأكثر بعد الحرب الروسية – الأوكرانية، واستفحلت أكثر وأكثر بعد حادث السابع من أكتوبر الماضي والتي تسمى بحادثة طوفان الاقصى .
خلاصة القول إن الأزمة في الرأسمالية كما قال نايف حواتمة دفعت بلدان أنظمة المركز الرأسمالي بلدان " المليار الذهبي" إلى العمل على وقف " الانهيار الشامل لاقتصاد السوق الحر " بالتدخل الواسع للدولة في الاقتصاد "بالتأميم " لغة أوروبا و" الاستحواذ" و" الشراء" باللغة الأمريكية وهو ذاته " التأميم وتملك الدولة" .. " الرقابة والمساءلة والمحاسبة" من جانب الدولة على المفاصل الاقتصادية من بنوك وشركات، حتى إلى "أشكال من الحماية "، وكل هذه العمليات مستمدة من التجارب الاشتراكية السابقة والراهنة.. وللحديث بقية..
***
د. محمود محمد علي – كاتب مصري
...................
المراجع
1- نايف حواتمة: اليسار العربي رؤيا النهوض الكبير "نقد وتوقعات".
2- اليسار العربي.. كيف نفهمه؟ | الجزء الأول | قراءة ثانية.. يوتيوب.
3- اليسار العربي.. كيف نفهمه؟ | الجزء الثاني | قراءة ثانية.. يوتيوب.