قضايا
صالح الرزوق: اقتصاد الطوارئ وتأثيراته على الصناعة المحلية
إذا رأى ماركس أن تاريخ تطور المجتمعات البشرية هو رد مباشر على الظرف الاقتصادي، يؤكد الجيل التالي من الماركسيين (وعلى وجه الخصوص الألمان، وفي المقدمة مدرسة فرانكفورت وما تشعب منها) أن البنية الفوقية تؤثر أيضا بشكل جدلي على البنية التحتية. ولذلك أي حرب على الأرض تقود لحرب اقتصادية أيضا. بمعنى أن التضخم والورم الاقتصادي ليس هو السبب فقط ولكن يمكن أن يكون نتيجة.
ولنضرب أمثلة من الواقع السوري.
بعد انفتاح عام 2000 على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية اندلعت حرب للتحكم بمقاليد السلطة. وأدت لبث الذعر بين رجال الأعمال فأسرعوا بتهريب أموالهم إلى عدة دوائر منها تركيا والخليج العربي والصين. بمعنى أنها دوائر قريبة من ميدان المعركة أو صديقة للنظام ومتحالفة معه. وهذا يؤكد السيناريو الحقيقي لتدفق رؤوس الأموال وما ترتب على ذلك من نهضة عمرانية، ثم تنشيط للسوق والسباق على التأثير بالقرار السياسي.
وبعد أعوام عشرة من الرخاء والسباحة في بحيرة الرفاهية والاستجمام، عاد السوريون لاقتصاد الطوارئ الذي اختنقوا به ثلاث مرات. بعد انقلاب عام 1966. ثم بعد اضطرابات عام 1979، وأخيرا مع بوادر الحرب الأهلية وتبعاتها.
ولكن هذا لم يفت بعزيمة عجلة الإنتاج السورية. وأصبحت معلومة تفكيك المعامل وتهريبها إلى تركيا مسألة معروفة. وبدأنا بشراء السلع السورية بالدولار، فقط لأن المضيف تركي بينما الحديد (أدوات الإنتاج ورؤوس الأموال واليد العاملة سورية ووطنية مائة بالمائة). وتوسع ذلك أيضا ليشمل القطاع الثقافي، فقد هاجرت أكثر من نصف دور النشر لتطبع من تركيا أو الشارقة أو ألمانيا.
وكذلك هو شأن البضاعة الصينية. وبالأخص النوع الجيد والمكفول. فهو من إنتاج رؤوس أموال سورية مهاجرة.
ويسمي كريس جايلز (باحث من لندن) ذلك باسم اقتصاد الضغط العالي (ويعتقد أنه أحد اختراعات بايدن ليحد من توسع ظاهرة ترامب). ولكن في الحالة السورية هو نتيجة ذعر وخوف رجال الأعمال من السياسة والاقتصاد الموجه الذي تحتكره الدولة (تحت عدة مسميات). فالتجارة الحرة تتبع عدة خدع للسيطرة على وجدان المستهلك، لأهداف مالية مباشرة وأهداف سياسية مؤجلة. ومثلها التجارة المقيدة (الاقتصاد الليبرالي الجديد) يتبنى مجموعة من الإجراءات ليضمن لنفسه شيئين اثنين: الغطاء الجماهيري - فلا حاكم بلا محكوم. وليحمي هيكلية النظام - أيضا تتعدد الأسماء من نقابة إلى اتحاد إلى مؤسسة أو دولة ويبقى المسمى نفسه.
وأدناه مقال مقتبس من جريدة الاتحاد الإماراتية عن مشاكل التجارة الحرة. وهو ترجمة لخبر موسع نشرته النيويورك تايمز وتؤكد فيه أن لا أحد بمأمن من اندلاع ثورات محلية قد تعزل الأطراف عن المركز - في الذهن مشكلة ولاية تكساس مع الجدار العازل، وانفجار قطاع غزة بعد سنوات من الحكم الذاتي، وقبل ذلك أزمة إقليم بيافرا في نيجيريا (اقرأ عنه مذكرات ومقالات شيماماندا نغوزي أديشي).
***
صالح الرزوق
...........................
نص مقال النيويورك تايمز
لحظة حصاد محصول القطن، داخل أحد الحقول بولاية «كارولينا الشمالية».. مشهد يذكر الأميركيين بما آل إليه قطاع النسيج في بلادهم، المرتبط بمحصول القطن. الاتفاقيات التجارية التي أبرمتها الولايات المتحدة في تسعينيات القرن الماضي أثرت بقوة على قطاع النسيج الأميركي، على سبيل المثال، أدت اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية، إلى إلغاء الرسوم الجمركية على المنتجات القادمة من كندا والمكسيك، وبدأت شركات كبرى متخصصة في قطاع النسيج نقل مصانعها من الولايات المتحدة إلى المكسيك، ما أثر سلباً على الإنتاج المحلي، وتفاقمت حالة قطاع النسيج الأميركي بعد انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية عام 2001، حيث توجه تجار التجزئة إلى الصين وغيرها من الدول الآسيوية بغرض الاستفادة من العمالة الرخيصة. وحسب تقرير نشرته «نيويورك تايمز» فإن معدل التوظيف بصناعة الملابس في الولايات المتحدة الأميركية قد انخفض منذ عام 1994 بنسبة 65%. ويبدو أن شركات النسيج الأميركية التي صمدت هي في الغالب مملوكة لبعض العائلات، أو بالأحرى شركات قطاع خاص، وتقوم باستمرار بتوجيه الأموال إلى أعمالها لدفع ثمن المعدات الجديدة الباهظة الثمن والأتمتة لتظل قادرة على المنافسة. وينتج العديد منها سلعًا للجيش الأميركي، الأمر الذي يتطلب أن تكون بعض الملابس أميركية الصنع. وبلغة الأرقام، تشير الجمعية الأميركية للملابس والأحذية إلى أن 2.9% فقط من الملابس المبيعة داخل الولايات المتحدة في عام 2022، تم تصنيعها محلياً.