آراء

عبد الأمير الركابي: ما يعرف بـ"اليسار" بين الانقراض والتحول (4)

ليس الانقلاب من اليدوية الى الاليه هو انقلاب في وسيلة الانتاج جوهرا، بقدر ماهو انقلاب في النوع المجتمعي، ولحظة تحول من الارضوية الجسدية، الى اللاارضوية / العقلية، يبدا حيث تنبجس الاله في الموضع غير القادر على ادراك وتبين ابعاده، فيحصره في الانتقالية على مستوى وسيلة الانتاج لتصبح تلك عتبه بداية، ومحطة انتقال مجتمعي توهمي، تؤدي حدة دينامياتها التحولية غير المنظورة الى جعل المجتمعية الارضوية الطبقية منها بالذات، تذهب الى مقاربة التحولية بما تتيحه كينونتها الاصطراعية، متخيلة ماممكن من تحول "طبقي" ناف كحصيلة للطبقية، من دون الانتقال على مستوى النمطية الاخرى، والنوع المجتمعي المغاير، لتبقى مثلما هي عليه، وكما كانت، ارضوية وان تكن بلاطبقات، ولا ملكية خاصة، ولا دولة، الامر المتوفرة اشكال منه راهنا واصلا في البنى المجتمعية، ومثالها مجتمعات اللادولة، امريكا الهندي الاحمر،الامريكيه اللاتينيه، الاسترالية، غيراجزاء من افريقيا وبعض من آسيا.

ويلعب السبق الالي دورا حاسما في منح النمطية المجتمعية التي تنبثق في رحابها الالة، قدرات وامكانات على مستوى تسارع الديناميات والطاقة، تيسر لها الغلبة النموذجية والتفكرية على مستوى المعمورة، بغض النظر عما يرافق الفترة المشار اليها من اهوال واضطراب، وعنف واجحاف هائل، يقف في مركزه الميل للغلبة والمركزية والانتاجية الاستغلالية الجشعه المتعدية على غيرها، والاستعمارية التسلطية باسم "التقدم"، ماتظل تلعب دورا اساسا في استمراره القصورية وعيا، وبالذات وتعيينا، بما يتعلق بموضوعه وسيلة الانتاج ودورها في صياغة النوع المجتمعي، والاختلافات المرحلية والتاريخيه المحالة لقوانين الوجود، من المجتمعية الارضوية الجسدية الحاجاتية اليدوية الاولى، الى الغاية الوجودية والهدف التحولي الاعظم اللاارضوي مجتمعيا، حيث التحول العقلي مابعد الجسدي المقرر ابتداء.

وتلعب دورا حاسما في تكريس التوهمية الاليه وقتها ناحيتان، في مقدمتها ارضوية الموضع المنبثقة فيه الاله، والاهم هو استمرار القصورية العقلية التاريخيه بازاء الظاهرة المجتمعية في ارضها كما عالميا، والعجز ادراكا دون الوقوع على الازدواج المجتمعي والاصطراعية المواكبه له مع اجمالي الاليات المتصلة به، مع استهدافاته، الامر الحال على الموقع الاساس المؤهل كينونة لبلوغ مثل هذه الادراكية افتراضا، بحكم الكينونة والمسار التاريخي وتفاعله، فارض الرافدين حيث اللاارضوية والازدواج الاصطراعي، هو محرك التاريخ، لاتكون الانتقالة الفاصلة العظمى نحو وعي الذات قد تحققت وقتها، ومع ان بدء انبعاث هذا الموضع الخاضع لقانون الدورات والانقطاعات منذ القرن السادس عشر، وهو تاريخ انتقال العالم الى المجتمعية العقلية، غير ان النطقية الاساس والضرورة الفاصلة، ظلت من حينه وحتى مابعد الانتقال الاوربي الى الطور المصنعي الابتدائي من تاريخ التحولية وتوهميته غائبه، ماقد منح الغرب ووجهته التغلبيه على مستوى المعمورة، فرصة التفرد التوهمي كتصور ونموذج شمل حتى موضع التحولية نفسه، والقى عليه بوطاة المنظور والتصور الالي.

هذا علما بان الموضع المذكور كان قد بدا عملية تشكله الراهنه الثالثة صدوعا لالياته التاريخيه، قبل انبثاق الاله في اوربا في القرن السابع عشر، ومرت عليه تشكليا فترتان، اولى قبلية مثلها "اتحاد قبائل المنتفك"، وثانيه انتظارية نجفية انبعاثية، من دون نطقية لاارضوية ازدواجية كانت بانتظار التفاعليه الكبرى، مع الدخول تحت طائلة الانتقالية الاليه وغلبتها الكوكبيه، وتكريسها منظورها ل"العراق الحديث" المتخيل والخاضع لاليات الافتراضية الاليه وتوهميتها ككيانيه مفتعله، من خارج الموضع الازدواجي التاريخي، الصاعد تشكلا بلا نطقية مايزال.

ضمن هذا السياق نشات الاصطراعية البنيوية التحولية المجتمعية اللاارضوية الازدواجية اليوم، مع الانتقالية المؤقته الاليه، احد طرفيها مايزال بلا نطقية، والاخر بنطقية متضخمه توهميه، ظل التصور الغالب بشأنها يكرسها بما هي عليه، غير منتبه فضلا عن الاعتراف، الى احتمالية الاصطراعية البنيوية من دون نطقية، وهو ماتلجأ اليه وظلت تلجا اليه على مر تاريخها الطويل، ومنه مامر عليها من دورات سومرية بابلية ابراهيمه، وعباسية قرمطية انتظارية، مؤدية الى النطقية الاولى والابراهيمه الكوراجينيه، والثانيه القرمطية الاعتزالية والاخوان صفائية الخوارجيه، الاسماعيلية التشيعية الانتظارية، غير القابلة للتحقق، في حين تمثلت اليوم في الانتقال من نطاق القبيلة والانتظارية النجفيه في قفزة مقاربة للانتقالية الكبرى المستهدفة في استخدام التحولية الارضوية الدنيا بصيغتها الاعلى الطبقية"الماركسية"، فاذا بالموضع الاكثر "تخلفا" جنوبا يتحول الى بؤرة انقلاب تحولي مافوق ارضي.

هنا ومن دون دراية من احد او جهه، وجدت الصيغة الشيوعية الماركسية الثالثة، الاولى " الماركسية الاوربية"، والثانيه "التطبيقية الماركسية اللينينه"، والثالثة غير المكشوف عنها النقاب "الشيوعية السومرية اللاارضوية" التي تذهب بالتحولية الدنيا الارضوية الى التحولية المجتمعية العليا، وهو مالم يكن ليدرك في حينه، مع ان بعض الاشارات دلت عليه، مثل ماذهب اليه " فهد" يوسف سلمان يوسف، حين فرق بين "شيوعيه الافندية" البغدادية، وشيوعية الناصرية، معتمدا على تجربة لنين وروسيا، حيث وجدت البلشفية وقتها مقابل المنشفية (6) وهو ابعد ماكان ممكنا ان ينطق به مع نوع وحدود ادراكية، مؤسس الشيوعيه التي تتعداه وقتها نوعا.

انتهت الماركسية بصيغتيها الاوربية المنطلق، والروسية التطبيقية الاليه الاستبدادية، الامر المتوقع والبديهي مع تقدم السيرورة التحولية، وانتقالها من الفترة الاولى الاليه الاوربية ومنظوراتها التوهمية الاستباقية، الى مابعدها، وماهي موجوده بالاصل كي تذهب اليه، مع مايرافق المسار المشار له من انقلاب في الوضع الاجمالي على المستويات المختلفة، وصولا الى التازم الاكبر الانتقالي الضرورة الفعلي، الكامن بين تضاعيف العملية الانتقالية المجتمعية، مع عملية التحول في وسيلة الانتاج، من المصنعية الاولى ومارافقها من نموذجية مجتمعية وتصورية، الى التكنولوجيا الانتاجية الراهنه، والى التكنولوجيا العليا العقلية ومايترتب عليها من تفارق بين وسيله الانتاج وطبيعة وموضوع الانتاج، مع مقتضيات الانقلابيه الفاصلة العقلية والكبرى الحاسمه المنتظرة منذ بدايه التبلور المجتمعي، مايمكن تصور امكان واحتمالية، ان لم يكن ضرورة ارتفاع العقل التحولي الادنى والابتدائي باعلى صيغه كما تجلت في شيوعية ماركس، كي يتحرر من وطاة ومتبقيات المنظورالارضوي، مغادرا عن طريق الالتحاق بالمنظور اللاارضوي، حالته التردوية الراهنه المؤشرة عمليا للانقراض، او التحول الى" طائفة" معزولة خارج الزمن والواقع.

ـ يتبع ـ حلقة أخيرة

***

عبد الأمير الركابي

في المثقف اليوم