آراء
حميد علي القحطاني: في مدار الفوضى.. القوة والمعرفة بين انهيار القيم وصعود الأقطاب

في زمن تتسارع فيه الخطى، وتترنّح فيه الثوابت، لم يعد بالإمكان أن نقرأ العالم بذات العيون التي قرأت الماضي. لقد دخلنا قرنًا لا يكتفي بتبديل الوجوه، بل يعيد صياغة قواعد اللعبة، ويهزّ ركائز النظام العالمي من جذورها. ولم تعد الأحداث تمضي على هامش التاريخ، بل باتت تكتبه من جديد... بأقلام من نار، وبحبرٍ من دماء الشعوب المغلوب على أمرها. في خضم هذا التحوّل العاصف، يقف الضمير الإنساني حائرًا، يبحث عن صوته وسط ضجيج القوة، ويطرح السؤال الذي لا يموت: ما الذي يصنع مستقبل الأمم؟ أهي القوة؟ أم العدالة؟ أم المعرفة؟ أم خليط تتصارع فيه المصالح والمبادئ؟
منذ مطالع الألفية الثالثة، والعالم يتقلب على صفيح ساخن من التحولات، يشهد النظام الدولي اضطرابات متتالية وولادة مشهد عالمي جديد تتنازع فيه القوى، وتتعدد فيه الأقطاب. لم تعد الهيمنة حكراً على قطب أوحد، بل تكسّرت الأحادية وتوزعت مراكز القوة على خارطة جديدة تتشكل بأنفاس الصراع وتحت وقع المتغيرات الجذرية. في أفق هذا التحوّل الزاخر بالتقلّبات، تلوح في الأفق ملامحُ نظامٍ عالميٍّ جديد، تتقدّمه قوى بارزة تشقّ طريقها بثباتٍ نحو الصدارة؛ فها هي الصين تنهض كعملاقٍ لا يلين، وروسيا تعود بثقل التاريخ وجموح الطموح، بينما تسير الهند، وإن بخطى أهدأ، وتكتلاتٍ تتحدى المألوف مثل منظمة بريكس، إلى جانب نفوذ مؤثر لقوى إقليمية صاعدة كإيران والبرازيل …
في هذا السياق يقول المفكر السياسي بريجينسكي:” إن القوة الجيوسياسية الحيوية تتغير، وتوزيع القوة الاقتصادية والسياسية في العالم يتغير بسرعة كبيرة“ وهو ما بات واضحًا بعد عام 2023، الذي لم يكن مجرد سنة على التقويم، بل علامة فارقة تهاوت فيها أعمدة القانون الدولي، وتصدعت قواعد المنظومة الإنسانية. لقد تعرضت القيم التي طالما تغنى بها الخطاب الغربي ـ من حقوق الإنسان إلى الأعراف الدولية ـ لهزات عميقة، تمثّلت في مشاهد مروّعة في غزة، حيث ارتفعت راية القوة المجردة، وسقطت الرايات الأخلاقية تحت أقدام الحسابات العسكرية والسياسية.
هنا تتردد أصداء كلمات نعوم تشومسكي التي تصف الحقيقة بلا رتوش:” القانون الدولي يُستخدم كسلاح فقط عندما يخدم مصالح القوى الكبرى، أما حين يتعارض معها، يتم تجاهله بلا خجل."، وكأنما صدى جون لوك الذي قال: "أينما ينتهي القانون، يبدأ الاستبداد. “
لقد بات العالم ساحة يمتزج فيها الخير بالشر، وتضيع فيها الحدود الأخلاقية بين الظالم والمظلوم بين الطاغية والمستضعف. وكما عبّر الفيلسوف جان بودريار:” لقد أصبحنا نعيش في عالم لم يعد فيه الخير والشر يختلفان، بل أصبحا يمتزجان“ وهكذا، لم تعد الحروب تُخاض فقط على الأرض، بل في الضمير الإنساني نفسه.
لكن برغم قتامة المشهد، فإن الحقيقة تفرض ذاتها، القوة ضرورة لا مهرب منها للجميع، لبقاء الإنسان والمجتمع والدولة، لا سيّما في عصر تتزايد فيه التهديدات، وتضيق فيه فسحات الأمان. غير أن القوة اليوم لم تعد مقصورة على جيوش جرّارة ولا على خزانة عامرة بالذهب، بل أصبحت تتمثل في عنصر واحد يتجاوزهما: المعرفة.
لقد سبق أن قال المفكر ألفين توفلر:” المعرفة هي القوة. “ وأيده في ذلك بيتر دراكر حين أعلن أن:” القرن الحادي والعشرون سيشهد أن الموارد الإنتاجية الرئيسية ستكون المعرفة والمعلومات“- غير أن هذه الرؤية الحديثة، بكل ما فيها من بصيرة، قد لامسها قبل قرون ضمير النبوة حين نطق الإمام عليّ عليه السلام بالحكمة الخالدة:” العلم قوة والجهل ضعف“ عبارة قصيرة تحمل في طيّاتها خلاصة قرون من الصراع بين النور والظلمة، بين البناء والهدم، بين الأمم التي ارتفعت بسلّم العلم، وتلك التي انهارت تحت أثقال الجهل.
ولهذا، لم يكن غريبًا أن نشهد في الحرب الأخيرة التي اشتعلت في الشرق الأوسط، كيف أصبحت العقول هدفًا للرصاص، والعلماء مشاريع اغتيال في إيران. إن استهداف المفكرين والباحثين، ومطاردة كل من يمتلك قدرة على التفكير أو التأثير، لم يكن مجرد هامش في الصراع، بل هو جوهره الخفي. فالقوة المعاصرة لا تُواجه فقط في ميادين القتال، بل تُجهَض في مهدها حين تُستأصل البذور التي قد تُنبت غدًا وعيًا وكرامة.
وهكذا، لم تعد القوة تُقاس بما تمتلكه الدول من أسلحة، بل بما تحوزه من عقول. فالعقول هي من تبني الاقتصادات، وتبتكر التكنولوجيا، وتعيد رسم حدود النفوذ.
وهنا يبرز المفهوم الأعمق للقوة كما طرحه عالم السياسة جوزيف ناي:” إن السياسة العالمية ليست مجرد لعبة أحادية القطب، إنها توزيع معقد للقوة الصلبة والناعمة“ فنحن في عالم لم يعد فيه القتال بالسيوف وحدها، بل بالأفكار، ولم يعد الردع يُصنع في مصانع السلاح فحسب، بل في مختبرات الذكاء والتخطيط والاستبصار.
وهكذا، يتطلب بناء القوة الحقيقية إرادة مجتمعية لا تعرف الخوف، وعقلًا استراتيجيًا يقيس بعين الحكمة لا بردود الأفعال، ويستند إلى البصيرة لا إلى العاطفة المنفعلة. فهذه هي القوة القادرة على الحماية، وعلى ردع الظلم والطغيان، وصياغة مستقبل لا تُفرَض فيه الحلول والقيم بالقوة، بل تُكتسب بالقناعة والعدل والمعرفة.
إن العالم الذي نعيش فيه اليوم ليس سوى مرآةٍ مشروخة لحقائق متشابكة، تتداخل فيها أطياف الطموح والخوف، المعرفة والقوة، المبادئ والمصالح. وما بين انهيار القانون وصعود العقول، يبدو أن مستقبل البشرية لن يُرسم بمنطق الهيمنة وحدها، ولا بالعاطفة العابرة، بل بعقل راجح يزن الأمور بميزان الحكمة، وإرادة تصنع من المعرفة سلاحًا، ومن القيم جدارًا، ومن القوة وسيلةً لا غاية.
لقد ولّى زمن البساطة في فهم القوة، فإما أن نُدرك تعقيد هذا العصر، ونتهيّأ له بعقلٍ حُرّ، ورؤية بعيدة، وقيم راسخة… أو نُترك نُقاد كما يُقاد العاجزون، في عالم لا يرحم الضعفاء ولا ينتظر المترددين.
فهل البشرية على قدر التحدي؟
***
حميد علي القحطاني