آراء
عبد السلام فاروق: الدين والسياسة في الشرق الأوسط!

الشرق الأوسط اليوم مسرح معقد تجرى عليه فصول من المأساة الإنسانية التي تتداخل فيها الأطماع بالعقائد، والذاكرة التاريخية بالحروب الحديثة، والهوية الثقافية بالانهيار الأخلاقي.
إنه عالم يبدو كما لو كان يحمل في أحشائه تناقضًا وجوديًا بين ما يريد أن يكون وما أجبر عليه. فهل ما نراه اليوم إلا نتيجة حتمية لصراع قديم بين التقاليد والحداثة، بين الانتماء إلى الماضي والانفتاح على المستقبل؟ أم أن هذه النار التي تحرق الأرض والعقل معًا هي ثمرة فشل حضاري في إعادة صياغة الإنسان قبل الحجر؟
لطالما كان الشرق الأوسط مهد الحضارات والديانات، ولكنه أيضًا كان ساحة للصراعات الدموية التي لا تنتهي. فها هو اليوم يعود ليقدم للعالم صورة مكبرة عن أزمة الإنسان حين يفقد بوصلة القيم. فالحروب التي تشتعل في إيران وفلسطين وإسرائيل واليمن والسودان وليبيا ليست مجرد نزاعات سياسية أو اقتصادية، بل هي أعراض لمرض أعمق: مرض الهوية المفقودة.
الشرق الأوسط يعيش أزمة انتماء وجودية. فهو من ناحية يتشبث بتراث ديني وتاريخي عريق، ومن ناحية أخرى يصارع رياح العولمة والحداثة التي تجتاح العالم. وهذا الصراع يولد إما انغلاقًا متطرفًا يقدس الماضي ويحارب الحاضر، أو انسلاخًا كاملاً عن الجذور يجعل الإنسان ضائعًا بين ثقافات لا يعرف كيف يختار منها أو يرفض.
الدين والسياسة
لا يمكن فهم الصراعات في الشرق الأوسط دون الغوص في العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة. فالدين، الذي كان ينبغي أن يكون منارة للسلام والروحانية، تحول في كثير من الأحيان إلى سلاح يستخدم لتبرير العنف وإقصاء الآخر. والمأساة أن هذه الظاهرة ليست جديدة، بل هي نتيجة لقرون من توظيف المقدس لخدمة المصالح الدنيوية.
فها هي الجماعات المتطرفة ترفع شعارات الدين لتحارب باسمه، بينما تفرغه من كل معنى أخلاقي. وها هي الأنظمة السياسية – في إسرائيل وإيران- تستخدم الخطاب الديني لتبرير القمع أو التوسع. وفي خضم هذا التشويه للدين، ضاع الإنسان العادي، الذي لم يعد يعرف كيف يفرق بين الإيمان الحقيقي والأيديولوجيا السياسية المقنعة بثوب الدين.
في هذا السياق بالطبع لا نستطيع أن ننكر أن للغرب دورًا كبيرًا في تعقيد الأوضاع في الشرق الأوسط، سواء عبر الاستعمار القديم أو الهيمنة الحديثة. ولكن اللوم على الغرب وحده هو هروب من المسئولية. فدول الشرق الأوسط تدفع ثمن عجزها عن إنتاج نموذج حضاري خاص بها، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين الانتماء والانفتاح.
فلقد أصبح الشرق الأوسط ساحة لصراع القوى الكبرى، ليس لأنها قوية فحسب، بل لأن الضعف الداخلي جعل المنطقة عرضة للتدخل. فبدلاً من أن يكون الشرق الأوسط فاعلاً في التاريخ، أصبح رديفًا للتبعية والصراعات المستوردة.
إن الحل لا يكمن في المزيد من السلاح أو في انتصار طرف على آخر، بل في إعادة بناء العقل الجمعي على أسس جديدة. نحن بحاجة إلى ثورة ثقافية تعيد تعريف الهوية بعيدًا عن الانغلاق أو الذوبان، إلى تعليم يحرر العقل من الخرافة والاستبداد، إلى إعلام يبني ولا يهدم، إلى سياسة تضع الإنسان فوق كل اعتبار.
بالطبع فإن الشرق الأوسط لن ينهض إلا إذا انتصر العقل على التعصب، والتسامح على الكراهية، والعدل على الظلم. وإلا فإن مصيره سيكون مزيدًا من الدمار والانحدار. فهل نتعظ قبل فوات الأوان؟
فخ التاريخ وعبثية الحاضر
إذا كان التاريخ يعيد نفسه، فإن الشرق الأوسط يعيد مأساته بطريقة أكثر عبثية من ذي قبل. فالحروب التي تشتعل اليوم ليست مجرد صراع على الأرض أو السلطة، بل هي تعبير عن أزمة وجودية تمس جوهر الإنسان في هذه المنطقة. فلماذا يعجز الشرق الأوسط، بعد كل هذه القرون من الحضارة، عن الخروج من دائرة العنف والتبعية؟ وهل يمكن لفلسفة التنوير أن تجد لها موطئ قدم في أرض تقتل فيها الكلمة قبل الإنسان؟
ضحايا الأصولية
في الغرب، كانت الفلسفة والتنوير هما الجسر الذي عبرت عليه أوروبا من ظلام القرون الوسطى إلى عصر الحداثة. أما في الشرق الأوسط، فما زال العقل يحارب باسم الدين أو القومية أو الأيديولوجيا. فالفكر النقدي يوصم بالخيانة، والتنوير يتهم بالتبعية للغرب، والعقلانية تقابل بالتشكيك في النوايا.
لقد تحولت الفلسفة في الشرق الأوسط إلى ترف أكاديمي يدرس في الجامعات بينما يحارب في الشارع. فالإنسان العربي، على سبيل المثال، ما زال يعيش في صراع بين ماض يقدس وحاضر يرفض. والنتيجة؟ ثقافة تناقض نفسها: تطالب بالحرية ولكنها ترفض التسامح، تنادي بالوحدة ولكنها تقسم نفسها على أساس الطائفة والقبيلة، تبحث عن الهوية ولكنها ترفض أن تسأل: من نحن؟ وما الذي نريد؟
الدولة الحديثة وسؤال الشرعية
منذ سقوط الدولة العثمانية، حاول الشرق الأوسط أن يقلد نموذج الدولة القومية الحديثة، لكن التجربة كانت في معظمها فاشلة. فالدولة التي يفترض أن تكون تجسيدًا للإرادة العامة أصبحت في كثير من الأحيان أداة للقمع أو المحاصصة الطائفية.
لماذا؟ لأن فكرة المواطنة لم تبن على أساس العقد الاجتماعي، بل على الولاء للطائفة أو العائلة أو الزعيم. وهكذا، تحول السياسي إلى شخصنة للسلطة، وتحول الوطن إلى ساحة للصراع بين الهويات الفرعية. فكيف يمكن لدولة أن تقوم إذا كان المواطن يشعر بأنه غريب في وطنه؟ وكيف يمكن للديمقراطية أن تنجح إذا كان معنى "الشعب" مقتصرًا على فئة دون أخرى؟
لا يمكن إنكار أن الغرب لعب دورًا في تعقيد أوضاع الشرق الأوسط، سواء عبر الاستعمار القديم أو السياسات الحديثة. لكن المشكلة ليست في الغرب نفسه، بل في عقلية التبعية التي جعلت بعض النخب تنظر إلى نفسها بعيون الآخر.
فبعض المثقفين العرب، بدلاً من أن ينقدوا الغرب نقدًا موضوعيًا، انقسموا إلى فريقين: فريق يقدس الغرب ويعتبره النموذج الوحيد للتحضر، وفريق يرفضه كليًا ويحمله كل أسباب التخلف. وكلا الموقفين يغفل سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن للشرق الأوسط أن يجد طريقه الخاص نحو الحداثة دون ذوبان أو انغلاق؟
نحو ثقافة جديدة تقبل التناقض وتتجاوزه
الشرق الأوسط ليس محكومًا عليه بالفشل، لكن خلاصه لن يكون إلا عبر ثورة ثقافية حقيقية. ثورة تعيد تعريف الهوية بعيدًا عن العصبيات الضيقة، وتحرر العقل من الأوهام الأيديولوجية، وتجعل من السياسة أداة لخدمة الإنسان لا العكس.
نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة ترفض الثنائيات الجاهزة (القديم/الحديث، الديني/العلماني، الشرقي/الغربي)، وتعيد طرح السؤال الجوهري: كيف نعيش معًا رغم اختلافاتنا؟ وكيف نصبح جزءًا من العالم دون أن نفقد أنفسنا؟
هذا لأن الحضارات لا تنهض بالشعارات، بل بالإرادة الحرة والعقل النقدي.
فهل نستطيع أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، أم أن قدر هذه المنطقة أن تظل تدور في حلقة المأساة ذاتها؟ السؤال مفتوح، والإجابة ليست كتابًا يقرأ، بل تاريخًا يصنع.
***
د. عبد السلام فاروق