آراء
رشيد الخيّون: شَبثُ الرِّياحيّ.. تقلب السّياسة والقناعة
يعدّ النَّاس مَن يخرج على ما يعتقدون خائناً، حتَّى إذا عرض نفسه للهلاك، أكثر مِن مرة في سبيل انتمائه السَّابق، فتجد أحد المتقدمين في حزبه، بمفاهيم اليوم، قد بذل الغالي والرَّخيص، وتشرد أهله، واِفتقر إلى حد الإملاق والجوع، ما أن ظهر منه ما يخالف ولاءه الأول، يصبح في طرفة عين خائناً عميلاً جاحداً، لا يُذكر له شيء مِن ذلك الولاء المخلص، والتّضحية الصَّادقة، والأمثلة لا تعدّ ولا تحصى، مِن الأحزاب والأنظمة، في الأمس واليوم، بل وأهل الأديان والمذاهب مارسوها كافة، عند الميل إلى موقف آخر.
جُمعت في شبث بن ربعي التِّميمي الرِّياحيّ (تـ: 70 هـ)، تقلبات المواقف السّياسية والعقديَّة، وهو شخصية معروفة يكاد لا يخلو كتابٌ مِن أمهات التّاريخ مِن ذكرٍ له. ولد قبل الإسلام، ثم وأدركه، وأحسن إسلامه، عاش إلى منتصف الدّولة الأموية، فقد أمتد به العمر إلى التسعين عاماً، فقد عدَّه أبو حاتم السِّجستانيّ (تـ: 250 هـ) في كتابه «الوصايا»، ضمن القسم الملحق بكتابه «المعمرون».
كما ذُكر أنه «مِن أشراف بني تميم، وكان جاهليَّاً إسلاميَّاً فارساً، لا يدفع عن حسب وشرف، بطلاً شجاعاً» (ابن أعثم، كتاب الفتوح)، لذا كان قائداً في كلِّ جيشٍ يُقاتل في صفوقه.
دخل الإسلام ثم ارتدَّ مع مرتدي اليَمامة، وصار مؤذناً للمتنبئة سَجِاح التَّميميَّة، ثم جدد إِسلامه في خلافة عمر بن الخطاب (اغتيل: 23 هـ)، فشارك قائداً لقومه في حرب القادسية بالعراق (17هـ)، أُتهم بالتحريض ضد عثمان بن عفان (قُتل: 35 هـ)، وظل محايداً في معركة الجمل بالبصرة (36 هـ)، اِنحاز بمعركة صفين (37 هـ) لعليّ بن أبي طالب (اغتيل: 40 هـ)، وكان أحد القادة. ثم أرسله عليّ في الوفد المفاوض للصلح، لكنه اِنشقَّ مع رافضي «التّحكيم»، فعُدَّ أول الخوارج، وذُكر عنه: «إنه أول مَن حرر الحوريّة(اسم الخوارج الأول)» (آل نعمان، الجامع لكتب الضَّعفاء والمتروكين)، بعدها عاد تائباً إلى صف عليّ، فقاتل الخوارج معه، وبالجملة «كان شبث علويَّاً» (البلاذري، جمل مِن أنساب الأشراف).
استمر ضد الأمويين، وهو أحد الذين كتبوا إلى الحُسين بن عليّ (قُتل: 61 هـ)، بالقدوم إلى العراق لتسلم الخلافة، لكنه اِنقَلب ضده منحازاً إلى الأمويين، فناده الحُسين: «يا شبث بن ربعي، يا حجار بن أبجر، يا قيس بن الأشعث، يا يزيد بن الحارث، ألم تكتبوا إليّ أن قد أينعت الثِّمار وأَخضرّ الجناب وطمت الجمام» (البَلاذري). غير أنه اِعترض على مَن سعى بحرق مخيم الحُسين: «وقال شبث بن ربعي: يا سبحان الله، ما رأيت موقفاً أسوأ من موقفك، ولا قولاً أقبح من قولك، فاستحيا شمر (ابن ذي الجوشن) منه» (البلاذري). بعدها حارب المختار بن عبيد الله الثَّقفيّ (قُتل: 67 هـ)، محارباً بصف الزُّبيريين. أخيراً اعتزل بسبب الكُبر.
لم نأتِ بقصة شبث الرّياح، لكتابة ترجمة له، فاسمه مشهور في أمهات التّاريخ، مثلما تقدمت الإشارة، بقدر ما وجدناه نموذجاً، قل مثله، أن يتقلب هذه التقلبات السّياسية، وإن شئتم سموها الحزّبيّة، فماذا كان يبتغي، وهو سيد قومه، وفي كلّ محلٍ يحل به، أو جهةٍ يميل إليها، لا يتقدم عليه أحد؟ أقول: ماذا لو ثبت الرِّياحيّ في موقف من المواقفٍ، كيف يؤرخ له؟ مَن يقرأ التّاريخ، بعين محايدة، لا يتعصب لِما مضى وغبر، فكان شبث مسلماً شارك في الفتوحات قائداً، وصار علوياً قائداً، ثم خارجياً، وعاد علويّاً، وفي كل هذه المواقف استمر مخلصاً، مكلفاً بمهمات القيادة. لم يكن الرّياحي منفرداً في سلوكه، فالمئات في يوم عُدّوا مقدسين، وفي يوم آخر نعتوا مدنسين.
هذا، وللأمير الشّاعر عبد الله بن المعُتز (قُتل: 296 هـ) ما يفيد: «فمَن قال خيراً قيل: إنَّك صادقٌ/ ومِن قال شراً قيل: إنَّك كذوبُ» (الدِّيوان)، كلّ رأى تقلب الرّياحيّ بعينه.
***
رشيد الخيّون - كاتب عراقي