آراء

جودت العاني: الحقيقة والشك..!!

قد يتسائل البعض عن معنى الحقيقة، ماهيتها وغائيتها، وكما نرى تفسيرها الموضوعي، أن لها وجهان اساسيان وربما أكثر من وجه يتلبسها .
المقارنات أحيانا قد تضفي طابعاً مجتزءا لا يفي بالغرض وقد يعطي انطباعاً مجرداً لا ينفع معه التلازم في المعنى والمرمى .. وهذا، لا يعني إلقاء الدروس أبداً، إنما تفسير المقصود من الكلمات والجمل، فليس مهماً تسويق المفاهيم من زاوية الحقيقة النسبية وتسويغ شموليتها وإسقاط بعض أسسها وهي الصورة الجمالية والايقاع والمدلول .. لأن الغاية كما نراها إيجابية في خوض غمارها والعمل في وضع الأطر المفيدة لإخراجها.
الحقيقة تنظر الى الاشياء من كل زواياها لا من زاوية واحدة ابدا .. ليس من زاوية سلبية ولا من زاوية ايجابية فحسب، انما من الزاويتين معا وتسمى الحقيقة الموضوعية عند التقييم الموضوعي في زمن ليس بإستطاعة احد امتلاك الحقيقة الموضوعية، لأن أوجه الحقيقة نسبية قد تكون إيجابية وقد تكون سلبية وقد تجمع بين الأثنين في اطار منهج الشك الذي اعتمده ديكارت.
وتنسحب هذه الحقيقة على جماليات الشعر وإيقاعاته وغائياته .. الجدلية في مضمار جمال الشعر جدلية لا تنفع إلا بالتخصيص والتحديد حيث إطار البحث العلمي الموثق، وإلا باتت الاحاديث عن جماليات الشعر القديم وغائياته في الحب العذري قد فقدت معانيها وبهتت وتلاشت وطواها النسيان في العصر الحديث .. فالشعر النثري ليس جديداً، له رواده القدامى والمعاصرين، فهو لم يكن بديلاً للشعر العمودي او نقيضا له، إنما أن يتخلى عن أسر القافية الرتيبة الواحدة ويكتفي بالموسيقى الإيقاعية وجمال الصورة وبالغائية المتنوعة، لأن الشعراء محكومون بالحقيقة النسبية في الزمان والمكان.
فالصورة الجمالية والايقاعية لم تستنفد مفعولها ودورها فهي متلازمة مع الشعر والادب والثقافة. فإذا كان الشعر بلا صورة شعرية ولا ايقاع فما الذي يتبقى في الشعر سوى الغرض او الهدف فهل يمكن تصور الشعر بدون صور جمالية ولا إيقاع ولا مفعول ولا دور؟
الصورة الجميلة ضرورية ومطلوبة والايقاع ضروري والدور ضرورة شعرية .. وكل ذلك ليس على حساب الغاية وأولوياتها من اجل انقاذ الوعي الجمعي من التفسخ والتحلل، وهذا صحيح في مرماه ولكن لا أن نجعل من الاغراض او الغائية ظاهرة مجردة من الصورة الجميلة والايقاع الجميل .. فاذا فقد الشعر جماله وايقاعه فما الذي سيتبقى له، وهل يبقى شعراً؟
الحديث عن أولويات اهداف الشعر في مرحلة الرخاء ومرحلة العناء ومرحلة التحرير تختلف جذرياً عن بعضها .. ففي مرحلة الاحتلال التي يعاني منها العراق مثلاً فإن اولوية الشعر هو هدف التحرير، ولكن هذا لا يلغي جمالية الصورة الشعرية في هذا الهدف أو غيره، لأن الحياة ليست كلها حرب - في زمن حرب التحرير التي خاضها مثلاً في كولومبيا وفينزويلا وافريقيا (تشي جيفارا)، كان وجماعته يركنون بنادقهم جانباُ ويتحلقون للغناء والرقص والترفيه عن النفس - الحياة ليست كلها رفاهية، ففيها (ضنك) وعذابات وجوع وسجون وموت، وفيها فسحة من نسيم هواء طلق يجدد المحارب قدرته على التحمل .
فالحقيقة مرة في أعين البعض وحلوة في اعين البعض الاخر .. وهي كلية في اعين القلة وجزئية في اعين الكثرة .. ووهمية لدى البعض وشاخصة لدى البعض الاخر .. ولا وجود لها لدى البعض، لأنها مجرد فكرة ذهنية، ولدى البعض الآخر لها وجود مادي على ارض الواقع .. والجميع يغرق بين الكلي والجزئي، فالكل ، كما يراه هو الحقيقة .. حتى الاحتلال يراه البعض تحريراً وهذه الرؤية صفيقة وتافهة ومغايرة للواقع وللحقيقة. لأن الحقيقة لها مقاساتها الخاصة .
فالإحتلال حقيقة مطلقة تستوجب التحرير، والتحرير حقيقة مطلقة تستوجب حشد الطاقة المادية والاعتبارية، وحشد الطاقات حقيقة مطلقة تستوجب الاعتماد على الأساسيات وتأجيل صراع الثانويات .. ألم تكن هذه كلها حقائق علوم الصراع التي تستوجب الكشف عن مسببات الصمت ومسببات الصراخ الاجوف والسكوت على الهم والغم والضيم ألم تكن هذه جميعها حقائق مؤلمة؟
***
د. جودت صالح
4/11/2024

 

في المثقف اليوم