آراء

ابراهيم العبادي: شرق اوسط مختلف

كثيرا ماتمنى ساسة ومخططون وصناع استراتيجيات رؤية الشرق الاوسط -هذه البقعة الاهم والاخطر امنيا وستراتيجيا -متوافقا مع مايريدون ومايطمحون اليه، الشرق الاوسط نقطة تقاطع الحضارات والاديان والثقافات والمدنيات والستراتيجيات الدولية.

.يوم انشأ الغرب اسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، ودعمها وساندها وطنا قوميا لليهود ودولة وظيفية تشكل امتدادا للغرب وستراتيجياته في المنطقة، لم يخامر النابهون والعارفون الشك، بان اسرائيل هذه ستكون السوط الذي يجلد به الغرب ابناء المنطقة، كلما احتاج الى ذلك لاي سبب كان، لكن الذي لم يكن متوقعا هو، تحول اسرائيل من دولة وظيفية تابعة، الى دولة صانعة للستراتيجيات، تتخادم مع الدول التي تقود النظام العالمي، وتشارك في ترسيم صور النظام الدولي بما يلائم امنها وطموحاتها، استطيع الزعم باننا في هذه الفترة الانتقالية بين نظام دولي تنفرد بزعامته الولايات المتحدة، وملامح نظام دولي غير واضح يقال بانه في طريقه الى التشكل باقطاب متعددة، تقوم الدولة العبرية بدور اكبر من حجمها بكثير، متخطية القوانين والاعراف والقرارات وحتى الاخلاقيات الدولية، من دون ان يكون لداعميها القدرة على التأثير الحاسم في قراراتها .

في جميع الحروب التي شنتها الدولة العبرية كانت الادارات الامريكية تفرض رؤيتها لوقف الحرب وان كانت هذه الرؤية لاتتباعد عن المصلحة الصهيونية، لكن بما يحفظ لامريكا هيبتها وتأثيرها في النظام العالمي،

في الحرب الراهنة (حرب غزة ولبنان) تبدو الادارة الامريكية اضعف من ان تؤثر في قرارات حكومة اليمين الصهيوني المتطرف، الان اظهرت تفاعلات الساحة الداخلية الصهيونية الميالة الى مزيد من التطرف والعنف والغطرسة، انها متساوقة مع الاتجاهات اليمينية المتطرفة في اوربا وعموم الغرب، ترفع ذات الشعارات وتسلك نفس السلوك، كأننا في مرحلة ماقبل الحرب العالمية الثانية، حيث تسود اتجاهات قومية يمينية متطرفة، وتتعالى قيم التشدد وتدمير وسحق الاعداء بالقوة !!! .

بداية الالفية الثالثة طرح شيمون بيريس الرئيس الاسرائيلي مشروع الشرق الاوسط الكبير، متزامنا مع المشروع الامريكي الذي عبرت عنه كوندوليزا رايس مستشارة الامن القومي ولاحقا وزيرة الخارجية في ادارة الرئيس بوش الابن، قوام المشروعين او بالاحرى الرؤيتين، يتأسس على توسيع ونشر الديمقراطية واحترام حقوق الاقليات والحريات الدينية، واقامة سلام دائم في المنطقة، وادماج اسرائيل في محيطها الشرق اوسطي بتطبيع العلاقات معها وتمكينها من قيادة المنطقة بفعل (عبقرية العنصر اليهودي وراس المال العالمي) مقترنا بقبول وتعاون دول المنطقة، مع طي صفحة الصراع العربي الصهيوني باعطاء الفلسطينيين دولة تضم الضفة الغربية وقطاع غزة، منزوعة السلاح وخاضعة عمليا للهيمنة الاسرائيلية امنيا واقتصاديا .

تأخر بلوغ هذا المشروع لاهدافه بسبب ممانعات ومقاومة ومخاوف قادتها القوى الاسلامية وبقايا اليسار القومي العربي، هذه الممانعة غذتها ايران بدرجات متفاوتة، لان مشروعها السياسي كان يقوم على فكرة مقاومة الهيمنة الغربية والتغول الاسرائيلي، وساهمت الانتفاضات الفلسطينية وتعالي قيمة وهيبة المقاومة الاسلامية اللبنانية (حزب الله) في تماسك هذا المشروع وصموده، خاصة بعد تحرير جنوب لبنان عام 2000، ثم انسحاب اسرائيل من غزة عام 2005، وصعود كفة حماس والجهاد الاسلامي فلسطينيا، واحزاب الاسلام السياسي عربيا وفي تركيا .

بعد عقدين داميين من الصراعات الداخلية على السلطة بين مشاريع قوى الاسلام السياسي وبين مناوئيها، وبعد سلسلة عقوبات وحصارات على ايران - قائدة محور المقاومة- انهكتها اقتصاديا واجتماعيا، تمخض الوضع العام في المنطقة عن لوحة سوريالية محزنة من الخسارات والتراجعات وضياع الفرص وصعود الشكليات على حساب الجوهر، (ساهم التطرف والارهاب القاعدي والداعشي السلفي في تسريع الانهيارات )، في قبال تنامي قدرات عسكرية وتكنولوجية هائلة لدى اسرائيل وتسليم عربي شبه كامل بالذهاب الى التطبيع الشامل معها، كون مشروع الاسلاميين الزاحف الى السلطة، جمع في تهديده اسرائيل وانظمة المنطقة على حد سواء، ووجدت الانظمة وبعض النخب السياسية والمالية والثقافية، ان مصلحتها في التطبيع، فعدوها لم يعد اسرائيل، انما القوى الدينية السياسية التي رفعت شعار مناكفة الغرب حضاريا مبتدئة بانظمة الدول القطرية، وهي لاتملك القوة المكافئة ولا الادوات المساعدة، ولا البنية المادية، عدا خزين الحماسة الدينية والخطاب الثوري والايدلوجية التعبوية، وحتى هذه الاخيرة لم تكن قادرة فعلا على بناء حاضنة اجتماعية كافية لدعم المشروع (الاسلامي)، لان الاسلاميين اهملوا قضايا ومشكلات اجتماعهم السياسي المحلي، وصنعوا لهم اعداء كثر، واستفزوا قوى عديدة اجتماعية وسياسية ناوئتهم، مستفيدة من الخصومة بين الاسلاميين والغرب، وعداوة الغرب لكل مشروع لاينسجم مع قيمه الحضارية والسياسية .

هجوم حماس في اكتوبر 2023 كشف الى اي حد بلغت عزلة الاسلاميين وفقدانهم للدعم والتعاطف الجماهيري، وكشف الصعوبات التي افقدت زعيمة محور المقاومة (ايران) القدرة على المخاطرة ودعم حلفائها وخوض حرب شاملة او جزئية قد تكلفها خسارة بقاء النظام، حيث تقوم ستراتيجية الامن القومي على قاعدة راسخة مفادها: حفظ النظام السياسي الاسلامي من اوجب الواجبات، ومقدم على كل القضايا المبدئية الاخرى .

اسرائيل والغرب من ورائها، ودول اقليمية عديدة تخشى من محور ايران وجماعات وفصائل (الاسلام السياسي) جديا، وقد وجدت ان الفرصة سانحة لضرب هذا المحور. في هذه الفرصة التي قد لاتتكرر، مادامت ايران منشغلة بالتحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها (الاقتصاد، الامن، ثقافة الجيل Z، العقوبات، التحولات الاجتماعية والسياسية التي اثرت على الثقافة الثورية )، صحيح ان حركات المقاومة الاسلامية امتلكت ترسانة اسلحة لم يسبق لفاعل سياسي غير دولتي امتلاكها من قبل، لكن هذه الاسلحة الصاروخية صارت هي الدافع لكل القوى الاقليمية والدولية الى جانب اسرائيل للتخلص من هذا التهديد، الذي بات يقلق دول الشرق الاوسط بأسرها والقوى الدولية الداعمة لها .

ستتوقف حرب غزة -لبنان في غضون اسابيع او اشهر، بعد جراحات مؤلمة وتضحيات جسيمة، لكن الثمن الاكبر لترتيبات مابعد الحرب سيكون على حساب حركات المقاومة، وسيكون العامل الاكثر ضغطا وخطورة ليس اسرائيل وعنجهيتها، والغرب الحامي لها، والدول الاقليمية المقبلة على التطبيع معها، بل جيل النكبات والخسارات المحلي الذي لن يقبل بعد الان ان تخاض باسمه ونيابة عنه حروب ابادة يدفع من لحمه ودمه وحاضره ومستقبله اكلافها دونما منجز سياسي كبير، سينصرف القسم الاكبر من هذا الجيل عن المثل والقضايا الاسلامية الكبرى، الثقافة السائدة التي تهيمن على الفضاء المعرفي والاعلامي والسياسي لم تعد الافكار والتوظيف الديني، بل صارت لقضايا المعاش والامن والرفاه والسلام الاولوية، ورغم التعاطف الكبير مع قضايا فلسطين وحريتها والقدس ورمزيتها، غير ان الوعي السائد لم يعد وعيا ايديولوجيا لدى عامة الجمهور، انما هو وعي متجزيء، فالاغلبية التي تعبر عن نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد مؤمنة ومتحمسة لمعارك المصير كما كان الجمهور القومي يردد، الاولويات اختلفت، والمصالح المحلية الوطنية صارت اهم بكثير من المصلحة الاسلامية العليا كما كان يقال، سيظل جمهور حركات الاسلام السياسي وحده في ميدان الصراع، وهذا الجمهور لن يمنع لوحده ولادة الشرق الاوسط الذي عملت عليه العقول الماكرة الذكية التي نجحت في التخطيط والتنفيذ مستفيدة من تعويل اهل القضية على الايديولوجيا وخطابها واهمالهم القضايا الواقعية لهذا الجيل، فانصرف عنهم في ساعة الجد .

فلسطين ومعاركها استهلكت العديد من المشاريع والافكار والايديولوجيات والسيناريوهات، بيد ان التكنولوجيا والمعرفة والتحالفات الذكية تستطيع ان تلحق الاذى باقوى المباديء رسوخا، فلا حياة لمبدأ لاتحميه القلوب والسواعد والعقول الذكية .

***

ابراهيم العبادي

 

في المثقف اليوم