آراء

أنور ساطع أصفري: ماهيّة الحاكم الفرد

أساطير عديدة انتشرت بين الناس؛عكست حيزاً واضحاً من تدني الوعي السياسي وكشفت بشكل جلي عن نسيان الانسان العادي لأبسط مبادىء الديمقراطية.

أحد مشاهد فيلم – نيكولاس والكسندرا- المشهور يرينا كيف يتوجه العمال البسطاء الى مقر قيصر روسيا؛ وذلك من خلال مسيرة سلمية اقترحها قسيس يكره العنف والظلم؛ يشكون خلالها سوء أحوالهم الى القيصر.

ويسير الموكب السلمي بكل هدوء وعلى رأسه أو في مقدمته القس الذي كان يصيح طوال الوقت (لقد جئناكم مسالمين).

وفي الطرف الآخر يقف الجنود وهم يوجهون بنادقهم نحو البسطاء من عامة الناس؛ وفجأة يبدأ جنود القيصر بإطلاق النار على المسيرة السلمية؛ وبذلك وقعت (مذبحة قصر الشتاء الشهيرة) في عام 1904.

وفي نهاية المشهد يقف القس مشدوها يرقب القتلى والدماء الغزيرة التي تنتشر في كل مكان؛ انتصب صائحا – نيكولاس أيها الشرير ! أيها القيصر الملعون!.

ومن ثم يأتي المشهد الذي ينتقل بنا الى القصر حيث نجد القيصر واقفا يسأل رئيس وزرائه بكل غضب (لماذا لم تقولوا لي؟) من الذي أمر بإطلاق النار؟

لماذا افتعلتم هذه المذبحة؟ من المسؤول عن قتل هؤلاء الناس؟.

فيجيب رئيس وزرائه بحكمة:

هل كنتم ياجلالة القيصر ستلبون مطالب هؤلاء البسطاء لو وصلوا إليك؟.

فأتاه الرد كما كان متوقعا بالنفي.

فقال له رئيس وزرائه (وبعد ذلك تسأل من المسؤول؟).

في هذه اللقطات تتوضح أمامنا مشكلة أساسية في الحكم الفردي الدكتاتوري من عدة زوايا:

- الشعب ينظر الى الحاكم على أنه طاغية.

- أما الحاكم فيرى نفسه بريئا لأنه لم يكن يعرف؛ ويلقي اللوم على أتباعه.

- إن صوت الحكمة يقول إن الحاكم بمبادئه وأساليبه في الحكم هو المسؤول الحقيقي بغض النظر عن التفاصيل وعمن يكون مذنباً عند ارتكاب هذا الخطأ الجزئي أو ذاك.

في بلادنا حيث الحكم الفردي وأحياناً العائلي و(الملكو جمهوري) هو القاعدة العامة التي لا توجد لها إلّا استثناءات قليلة، تنتشر (اسطورة الحاكم الذي لا يعرف) وفي أغلب الأحيان يروّجها النظام ذاته أو الواقفون إلى جانبه؛ كما أن الحاكم ذاته قد يلجأ إليها في نهاية المطاف وخاصة في أوج الأزمات؛ حين لا يعود في الامكان كتمان فضائح مالية أو جرائم انسانية أوتصرفات قمعية ارهابية أو اعتقالات بالجملة؛ عندئذ تعلو الاصوات :

ان الحاكم رجل رحيم تجيش نفسه بالمحبة والانسانية وحب العدل؛ لكن العيب كل العيب في المحيطين به من كل صوب وجانب؛ انهم مجموعة من الأشرار الذين لا يكتفون بارتكاب جرائمهم؛ بل يخفونها عن الحاكم أيضا؛ ويصوّرون الأحوال دائما أمامه بصورة وردية مضيئة.

وما داموا هم وحدهم الذين يمثلون أمامه أو يصلون اليه؛ لذا يظل الحاكم جاهلاً أو غير ملماً بممارساتهم التي تشوّه صورته أمام الناس وتنتشر اسطورة (الحاكم الذي لا يعرف) عندما يضطر أنصار الحاكم الى الاعتراف بوجود تناقض صارخ في تصرفاته؛ ويعجزون عن تفسير ما يحدث؛ فهو من جهة يبدو حاكماً وطنياً صامداً؛ لكنه من جهة اخرى يسجن بلا حساب ويعتقل بدون أدلة ويقمع كل معارض ولا يسمح لصوت بأن يرتفع إلا صوته وأحيانا صوت أعوانه وباذنه.

فكيف يمكن تفسير هذا التناقض؟.

نصير الحاكم يلجأ الى اسطورة الحاكم الذي لا يعرف؛ويؤكد أن الايجابيات من صنع الحاكم امّا السلبيات فمن صنع المحيطين به وهو لا يعلم عنها شيئاً.

وفي أحوال اخرى تحوّر هذه الاسطورة فلا يعود الحاكم هو الذي (لا يعرف) بل يصبح هو الذي (لا يقدر)، وهنا تبدو رغبة الحاكم متجهة دوما نحو الخير غير أن الذين يحيطون به يفرضون عليه اجراءاته الظالمة ولا مفر له من ذلك من أجل مراعاة (توازن القوى) في الحكم؛ حتى تسير دفة الحكم والسلطة بأكبر قدر ممكن من الهدوء والانسياب؛ وهكذا يضطر الحاكم الفرد إلى توزيع بعض سلطاته على الأعوان الذين يملكون بدورهم قدراً من القوة ويترك لكل منهم الحرية في مجاله الخاص به. فإذا أساء أحدهم التصرف فإن الحاكم لا يمكن أن يكون مسؤولاً عما حدث؛ بل هو مضطر إلى المضي في لعبة التوازن بلا توقف لأن سلامة الحكم وتماسكه ولعبة الكراسي تحتم ذلك وهي أهم من مصير ومستقبل الأمة.

في مقابل هذه الاسطورة تظهر في بلادنا اسطورة اخرى تسير في الاتجاه المعاكس؛ فالحاكم هنا لم يترك له شيئا يتنازل عنه؛ فالحاكم هنا هو الذي يمسك زمام كل شيء؛ والتابع حتى ولو كان الرجل الثاني فإنه لا يملك إلا أن ينظر إلى ما يحدث في صمت؛ لأن رأيه غير مطلوب؛ وإذا طلب فهو غير مسموع.

هنا تنسب السلبيات كلها للحاكم الذي تكون لديه قدرة كاملة ومعرفة شاملة؛أما الأعوان فانهم عاجزون كل العجز حتى ولو كانوا من الفضلاء؛ فان محاربة الفساد تفوق طاقتهم؛ لأن كل القرارات تصدر من سلطة واحدة.

المدهش في الأمر هو أن الاسطورتين على الرغم من تناقضها؛ كثيراً ما تطلقان على حاكم واحد. وأنصاره يروجون الأسطورة الاولى وربما اعتنقوها عن إيمان؛ ويلتمسون له العذر عن أخطائه المنسوبة دائما الى المحيطين به؛ وخصومه ينشرون الاسطورة الثانية؛ ويلتمسون العذر لأنفسهم، فهل يعقل أن يكون الحاكم نفسه عارفاً بكل شيء وغير عارف بالكثير ؟، وهل يعقل أن يكون في الوقت نفسه خيراً وشريراً؛ رحيماً وطاغية.

المشكلة الحقيقية في الأسطورتين لا تكمن في تناقضها فحسب؛ بل انهما تمثلان وهماً كبيراً وقعت به شعوبنا وما زالت معرضة للوقوع فيه؛ والأدهى من ذلك أن الاسطورتين أصبحتا وكأنهما من طبائع الأشياء ومن ضرورات السياسة. وتُرددان وكأنهما محاولة لتفسير ظواهر تبدو غير قابلة للتفسير على أي نحو آخر؛ وأعني:

كيف يمكن أن يكون الحاكم وطنياً وطاغية في الوقت ذاته؟ وكيف يكون التابع فاضلاً وشاهداً على القمع والظلم والفساد؟.

إن أبسط تفكير يقنعنا بأن الحاكم الوطني الذي تحيط به مجموعة من الأشرار إنما هو خرافة؛ فالحاكم الذي يكون في هذا النمط من الحكم الفردي هو الذي يختار معاونيه وهو الذي يملك قدرة تغييرهم؛ ولولا أنه يرتاح لعملهم وأسلوبهم في التعاون معه لما بقوا في مناصبهم لحظة واحدة.

والصورة التي يتخيلها البعض في أنظمة الحكم التسلطية عن حاكمٍ خيّر يحيط به معاونون أشرار هي ببساطة صورة تتنافر أجزاؤها ويستحيل أن تتجمع عناصرها.

والنظرة الواقعية إلى الأمور تثبت أن الحاكم المتسلط يعرف كل شيء عن معاونيه المحيطين به وعن جرائمهم لكنه يغض الطرف عنهم ماداموا يسايرونه ويخدمون أهدافه؛ أمّا اذا خالفوا أوامره فان الملفات المحفوظة تخرج من الأدراج وتبدأ الفضائح.

ويوظف الحاكم ذلك من أجل تحقيق مصالحه الخاصة في نهاية الأمر واحكام سيطرته ونفوذه ومكاسبه.

ولكن لنفرض جدلاً أنه لم يكن يعرف؛ فهل يعفيه هذا من المسؤولية؟.

يجيب التفكير السياسي الساذج بالإيجاب؛ ولكن الحقيقة هي أن الحاكم مسؤول عن عدم معرفته؛ ومن ثم فهو مسؤول عن كل ما يترتب على ذلك من أضرار.

إن معرفة الحاكم بأوضاع البلاد لا تتم إلا من خلال تقارير معاونيه والمحيطين به؛ والأجهزة السرية والأمنية والبوليسية؛ فيبقى الحاكم حبيس جدران إرهابه؛ وهي جدران صماء نوافذها الوحيدة هي التقارير السرية المخابراتية.

وبوسع الحاكم لو شاء أن يفتح الأبواب والنوافذ على مصراعيها عن طريق السماح بحرية الرأي والإعلام والنقد والمعارضة الوفية لوطنيتها؛ وعندئذ يستطيع أن يعرف كل ما يدور حوله بالطرق والقنوات الطبيعية. من صحافة حرة واجتماعات وندوات ولقاءات بمحض إرادته؛ فكيف ندافع عنه بعد ذلك بحجة أنه لم يكن يعرف؟.

هل سمعتم يوما عن حاكم لدولة ديمقراطية اعتذر عن أخطاء حدثت في حكمه على أساس أنه لم يكن يعرف؟، وهل سمعتم عن شعب في دولة ديمقراطية اقتنع يوما بمثل هذا العذر؟.

فإذا تبين يوما ما أن تقصير الحاكم في معرفة ما يحدث قد ترتبت عليه نتائج خطيرة وجب عليه أن يتنحى فورا؛ ويترك الحكم لمن هو أجدر منه ووطنيا بالفعل.

لقد لجأ المحيطون بهتلر في محاكمات نورمبرج التي أجريت بعد الحرب إلى اسطورة (الحاكم الذي لا يتنازل)، ودافعوا عن أنفسهم بحجة أن هتلر كان يتخذ كل قراراته بنفسه، ولم يكن يترك لهم سوى التنفيذ؛ ولكن المحكمة أدانتهم جميعا وحكمت عليهم بالإعدام.

والملك فرانكو عندما كان على فراش الموت وبجانبه كبير أطبائه كان الشعب الاسباني يتظاهر بغضب ضد فرانكو ويطالبه بالرحيل؛ ولقد سمع فرانكو ذلك الضجيج؛ فطلب من رئيس أطبائه أن يخبره ما الأمر؛ فقال له: جلالة الملك إن الشعب الاسباني قادم ليودعك!، فقال له فرانكو : عجبا إلى أين سيسافر الشعب؟.

وشاه ايران لم يكن يصدق ما كان يجري من مظاهرات عارمة في بلاده خلال الأسابيع الأخيرة من حكمه؛ وفي نهاية المطاف أرسل خادمه العجوز ليستطلع له الأمر! وما يجري في شوارع طهران بعد أن تزعزعت ثقته بتقارير(السافاك)، وهكذا وقع الحاكم الفرد في شرك أخطائه؛ ويأتي سؤاله المأساوي:

هل كل هؤلاء يتظاهرون ضدي؟.

نفس سؤال القيصر (نيكولاس) الذي بدأنا به موضوعنا: (لماذا لم تقولوا لي)؟.

وهنا تنكشف طبيعة الصيغة الأخرى لهذه الاسطورة؛ التي يكون فيها الحاكم عارفا ولكنه (لا يقدر). ذلك لأن الحاكم الفرد هو الذي ارتضى نظاما من شأنه أن يكون الحكم فيه صراعاً للقوى؛ يتحقق في نهايته توازن يكون مفروضاً على الحاكم.

النظام الذي وضعه الحاكم هنا هو الذي جعل من الحكم غابة يتصارع فيها الوحوش ولا يعيشون معاً في هدوء إلا إذا أكل كل منهم وشبع هو وعائلته وعشيرته.

أمّا الاسطورة الاخرى؛ اسطورة التابع المغلوب على أمره؛ حيث الحاكم يمسك بيده زمام الأمور كلها فهي بدورها ظاهرة لا تقوم إلا في ظل نظام تسلطي يجعل من التابعين أذناباً طائعين. أو شهوداً صامتين. وأبسط فهم لطبيعة المشاركة في عملية الحكم يقنعنا بأن التابع يظل مسؤولا حتى لو كان متفرجاً؛ وعليه أن يتخلى عن مكانه فوراً إذا لم يقتنع بممارسات رئيسه.

إن الاسطورتين رغم التناقض الظاهري تفترضان أن الحاكم يمارس حكمه بسلطة فردية مطلقة؛ امّا عن طريق اختياره للأعوان وأساليب توصيل المعلومات؛ وامّا عن طريق امساك كل الخيوط في يديه مباشرة.

وأقل وعي سياسي وأبسط فهم لطبيعة المشاركة في الحكم يحتم علينا أن نكف عن التماس العذر للحاكم الفرد بحجة أنه لم يكن يعرف الأخطاء وأن المحيطين به هم الذين ارتكبوها؛ أو تبرير سلبية التابع بحجة أن الحاكم كان يرفض أن يتنازل عن شيء.

إن ذيوع هذه الأساطير بين جموع شعبية هائلة انما يعكس قصور الوعي السياسي؛ وهو يكشف بوضوح عن نسيان الإنسان العادي في أحيان كثيرة لأبسط مبادىء الديمقراطية ومعنى مسؤولية الحكم؛ وهو نسيان لا يمكن أن يعد هذا الانسان ذاته مسؤولاً عنه؛ وانما هو نتيجة تربية سياسية تراكمت أخطاؤها على مدى عشرات السنين و فرضتها الأنظمة القمعية القائمة.

(لماذا لم تقولوا لي)؟، هو نفس سؤال كل حاكم متسلط يضع هو ذاته النظام الذي يحجب عنه معرفة الحقيقة والواقع، ويمارس من خلاله كل ضروب القمع؛ ويردد هو ذاته في النهاية - دائما في النهاية - اسطورة الحاكم الذي لا يعرف.

انه الواقع المرير الذي تحياه شعوبنا المتعطّشة للحريةِ وللديمقراطية.

***

بقلم: أنور ساطع أصفري

في المثقف اليوم