آراء
علاء اللامي: الشنقيطي نموذج نقدي مختلف لباحث غير طائفي في المسألة الطائفية! (1-2)
السنة والشيعة خلال الحروب الصليبية
سأحاول في هذا النص أن أشرك القراء في الفائدة المعرفية والمتعة الثقافية عبر استعراض محتويات فيديو ندوة للباحث الموريتاني د. محمد بن المختار الشنقيطي لما في كلامه وبحوثه التاريخية من جرأة كبيرة وجِدة نقدية تحليلية لا تهاب القمع التقليدي وحياد منهجي ملحوظ وذاكرة خصبة ومتوهجة تثير الإعجاب.
يتكلم الباحث في هذه الندوة عن موضوع تأثير الحروب الصليبية (1096 – 1291م) على العلاقات بين السنة والشيعة آنذاك ويهشِّم الكثير من الرواسخ الصنمية المكررة والزائفة حول الموضوع. وقد سرني على الصعيد الشخصي أن كلامه، وهو الباحث المتخصص المرموق، أعطى مصداقية - بشكل غير مباشر أو مقصود - لما كتبته من دراسات دفاعاً عن صلاح الدين الأيوبي وحول العلاقات الطائفية بين الشيعة والسنة في عهد تلك الحروب. علما بأني نشرت ما كتبت قبل سبع سنوات ولم أكن قد اطلعت على آراء الشنقيطي بعد، رغم أنه كان قد نشر آراءه قبل أكثر من 12 عاما كما يشير تاريخ نشر فيديو الندوة، أي أنه سبقني في ما ذهبت إليه.
من الطبيعي أن يختلف المشاهد هنا وهناك معي أو مع الباحث الشنقيطي في التفاصيل، ولكن المهم، وربما الأهم، هو الفائدة الأكيدة من كل ما قيل من كلام موثق لم نألفه من المؤرخين التقليديين المحافظين، ويبدو ان بعضهم كان حاضرا في الندوة. وقد استفزته على الأرجح نقدية الشنقيطي؛ فالمؤرخ العراقي المحافظ سيار الجميل الذي تولى إدارة الندوة بدا وكأنه فوجئ بهذه الجرأة والكفاءة البحثية فراح يلقي المواعظ والتحذيرات البالغة حدود التوبيخ على الباحث الشنقيطي بعد انتهاء هذا الأخير من محاضرته. بل وجرده من صفة المؤرخ وقال "اعتبره في هذه المحاضرة مغامراً وليس مؤرخا". وكأن الجميل يعتذر لأصحاب الدار "المركز العربي بإشراف عزمي بشارة" عن هذه الورطة التي وقع فيها بدعوة الشنقيطي للندوة لأن هذا الأخير هشَّم أصناما كثيرة في الكتابة التأريخية التقليدية العربية كما سيلاحظ المشاهد وقد ظل الجميل متهيبا ومحافظا حتى حين كان يشيد بآراء الشنقيطي ولنا في ذلك دلالات مهمة ومنتجة للأفكار. وحسنا فعل الشنقيطي برده الحازم وغير المباشر على آراء الجميل.
سأترككم مع هذه الندوة على أمل العودة إليها في دراسة شاملة مستقبلا، ولكنني قبل ذلك أود تسجيل بعض اللمحات الطريفة أو الغربية التي وردت في كلامه كنوع من الإبراز لها والإضاءة عليها مع بعض الاستدراكات عند الضرورة:
غلبة التشيع في بلاد الشام
* يرى الشنقيطي أن بلاد الشام كانت سُنية منذ البداية، لأنها كانت مهد الدولة الأموية. ولكنها أصبحت ذات غالبية سكانية شيعية إسماعيلية وإمامية بعد ذلك. ولم يتراجع التشيع على مستوى القاعدة الشعبية فيها إلا خلال الحروب الصليبية وفي العهد السلجوقي التركي الذي اضطهد الجميع. وخلال تلك القرون قامت في بلاد الشام أربع دول شيعية هي المرداسية والعقيلية والحمدانية ودولة بني عمار في طرابلس. والملفت إنك حين تقرأ في الموسوعات والكتب المعروفة وخاصة على الانترنيت فلن تجد أية إشارة الى شيعية هذه الدول غالبا، ربما باستثناء الدولة الحمدانية، أو إلى شيعية الغالبية السكانية في بلاد الشام قبل الحروب الصليبية.
* كانت الدولة المرداسية في حلب دولة شيعية. وانتهت بأن أعلن الشيعة بزعامة محمود المرداسي تغيير ولاءهم المذهبي والتسنن والاستسلام للسلجوقي التركي ألب أرسلان لتفادي الإبادة الجماعية بسيوف قواته. وافق رجال الدين الشيعة الحلبيون على اقتراح أميرهم المرداسي ولكن جمهورهم من العامة رفض ذلك، ولكن الاستسلام كما يبدو تم في نهاية المطاف.
السنة والشيعة في خندق واحد
* يقول الشنقيطي، على العكس مما يوجهه السلفيون السُّنة من اتهامات للشيعة بأنهم كانوا طابورا خامسا وعملاء لمصلحة الصليبيين، أو مما يوجهه السلفيون الشيعة للسنة بأنهم كانوا متخاذلين ومتواطئين في مواجهة الصليبيين، على العكس من ذلك نجد السنة والشيعة الإمامية قاتلوا ضد الصليبيين في خندق واحد. ويأتي الباحث بعدة أمثلة موثقة بالأسماء والتواريخ تؤكد ما ذهب إليه. في حلب قاد القاضي الشيعي أبو الفخر بن الخشاب المقاومة ضد الصليبيين، وذهب إلى مدينة ماردين التي يحكمها الترك السنة، وجاء بجيش دعم ومن طريف ما يرويه مؤرخ حلب ابن العديم قوله إن الجنود الأتراك فوجئوا بأن من يقودهم ويحرضهم على القتال قاض معمم فقالوا مستغربين: هل جئنا من بلادنا لنقاتل تحت قيادة رجل معمم؟ وممن كتبوا عن هذه الحادثة أمين معلوف في كتابه باللغة الفرنسية (تُرجم إلى العربية) عن الحروب الصليبية وخصص فصلا لهذا القاضي بعنوان "مقاوم بعمامة" وكأنه يستغرب أن يكون المقاوم بعمامة! ويضيف الباحث الشنقيطي في موضع آخر أن هذا القاضي المقاوم ابن الخشاب اغتاله الشيعة النزاريون لأنهم يعادون الشيعة الإمامية كما يعادون السنة.
* أقدم مصدر تأريخي للكلام عن الأتراك الأوائل والفايكنز هي رسالة أحمد بن فضلان البغدادي مبعوث الخليفة العباسي المقتدر بالله في القرن العاشر الميلادي. ووردت فيها أوصاف نادرةٌ جداً لشعوب منها: الأتراك الغُزِّية وغيرهم من الشعوب التركية غير المسلمة آنذاك، أو حديثة العهد بالإسلام، والصقالبة أو البلغار الذين الوثنيين، والخزر المتهودين الذين ربما يكون ابن فضلان قد عبر بلادهم في طريق عودته، الفايكنغ الوثنيين. والطريف يقول الشنقيطي أن الأمتين اللتين كانتا وثنيتين آنذاك أصبحتا طرفين في الحرب الصليبية الطاحنة بعد ثلاثة قرون من رحلة البغدادي: فالأتراك الذين كانوا حديثي عهد بالإسلام أصبحوا مسلمين متشددين والفايكنغ الوثنيون صاروا مسيحيين متشددين. وللدقة فالفايكنغ كانوا طرفا ضمن مجموعة أطراف صليبية في الحرب الصليبية.
العراق مركز الزلزال الطائفي
* يدلي الباحث بملاحظة مهمة عن تاريخ العراق الطائفي فيقول: "العراق في تاريخه الإسلامي كله لم يسيطر عليه السنة ولا الشيعة من الناحية العددية والثقافية رغم أن الغلبة من الناحية السياسية تكون لأحد الطرفين أحياناً آنذاك (للدقة: كانت الغلبة أو السيطرة السياسية والعسكرية في العراق للشيعة لمرة واحدة في العهد البويهي. ع.ل). كان التسنن مثلا هو الغالب سكانياً في الموصل أما في الكوفة والحلة فكانت الغلبة للتشيع وكانت بغداد مختلطة.
* ويرى الشنقيطي أن العراق هو قلب الأزمة الطائفية في العالم الإسلامي دائما، ومنه تسيح وتتمدد الأزمة في أنحاء هذا العالم الإسلامي كله. وكانت 90 بالمئة من الصراعات بين السنة والشيعة في بغداد، خلال مئتي عام، كانت بين حيين هما الكرخ ذي الغالبية الشيعية وحي باب البصرة ذي الغالبية السنية الحنبلية. وكان أحمد بن حنبل صاحب المذهب المتشدد المعروف باسمه بغداديا أصيلا. أعتقد أن الباحث يقصد بالحيين "حي القلائين" في جانب الرصافة وهو معقل السنة، وحي أو جانب الكرخ الشيعي. وكنت قد كتبت ذات مرة عن بعض مظاهر هذا الصراع الطريفة أو الغريبة في منشور بتاريخ 24 آذار مارس من العام الجاري.
وفي موضع آخر من الندوة، يقول الباحث محمد الشنقيطي "في مصر فشلت الدولة الفاطمية في تحقيق اختراق طائفي للجمهور المصري الذي بقي سنياً. وحتى النخبة الشيعية الإسماعيلية في القاهرة لم تكن من أصول مصرية بل كانت مغاربية من قبيلة كتامة البربرية. (أتحفظ على هذا الاستنتاج للمحاضر وكنت قد أتيت بأمثلة موثقة من مؤرخي تلك الفترة في دراستي عن صلاح الدين في مصر الفاطمية تؤكد أن الحكام الفاطميين حققوا اختراقاً في جمهور محكوميهم المصريين ولكنه قد يكون اختراقا محدودا ولكنه يبقى مهما حيث أكد بعض المؤرخين السنة ومنهم ابن الأثير أن صلاح الدين تردد طويلا في إنهاء الخلافة الفاطمية المحتضّرة خوفا من تمرد عامة المصريين عليه. حتى أن صلاح الدين لم يجد رجل دين سني مصري واحد يجرؤ على إلقاء خطبة الجمعة باسم الخليفة العباسي خوفا من الجمهور المصري فاستعان برجل سني جاء من الموصل مصادفة وألقى الخطبة. ع.ل)، أما في الشام فكانت الغالبية شيعية إمامية وكان الحكام سُنة أما الدويلات الشيعية الثلاث سالفة الذكر فقد قضى عليها السلاجقة الترك الذين هم على المذهب الحنفي. ولم يبقَ من الدويلات الشيعية في الشام إلا دولة بني عمار (وهم من قبيلة كتامة البربرية موالون للفاطميين) في طرابلس والتي دخلت في مواجهة حربية مع الصليبيين وكانت الحرب بينهم سجالا الذين استولوا عليها في نهاية المطاف. ويذكر الباحث أسماء بعض المؤرخين الذين أكدوا هذه المعلومات عن الوضع الطائفي في الشام ومنهم الرحالة الفلسطيني شمس الدين المقدسي في كتابه "أحسن التقاسيم" وناصر خسروا الذي زار الشام قبل نصف قرن من الحروب الصليبية (ومؤرخ آخر اسمه غير واضح ولم أتوصل لمعرفته وربما كان يقصد المحدث والمؤرخ ابن الزبير الثقفي الغرناطي.ع.ل). يتبع.
***
علاء اللامي