آراء
فرات المحسن: نبذ العنف وترميم السلم المجتمعي
الشعب الذي عانى الترويع والتغييب والجريمة المنظمة والقسوة والحرمان هو من أكثر الشعوب التي تحتاج لزمن ليس بالقصير كي تنعم براحة النسيان بعد أن روعها عمق المأساة وبشاعة الجرائم التي اقترفت بحقها وحق الوطن والإنسانية.
لا يختزل توصيف بشاعة وقسوة وقائع جرائم القتل والغدر بالخصوم ومخالفي الرأي على الفعل الذي طال قتلى الأحكام السلطوية أو الخصومات السياسية من الذين غيبوا واختفت آثار أجسادهم منذ العهد الملكي وما أعقبه في العهد الجمهوري الأول وأثناء فترتي حكم حزب البعث، وإنما هناك فئات ومجاميع لمخالفي رأي وضحايا نزاعات مجتمعية، وآخرون دون اتجاه فكري أو انتماء سياسي محدد، بينهم أعداد كبيرة من أطفال ونساء وشيوخ صفوا جسديا،وتم إخفاء جثثهم دون إعلام ذويهم أو وضع ما يرشد لقبورهم ولا حتى معرفة أسباب تصفيتهم. ومثلما اختفت الأجساد ومواقع الدفن، أخفيت الكثير من دلائل ووثائق وأوراق تحقيقيه وشهادات خاصة بعشرات التصفيات الجسدية دون مقاضاة ونيل القتلة العقاب أو ما يفصح عن هوياتهم ودوافعهم الجرمية، وحقيقة من يقف وراء تلك الجرائم.
مثلت حقبتا حكم حزب البعث في قدومه الأول عام 1963 ثم القدوم الثاني 1968 انتصارًا مفزعًا لروح الشر وإثارة الكوامن الوحشية عند البشر غير الأسوياء، حيث تعددت طبيعة الجرائم وطرق تنفيذها وبأنواع وأساليب ومستويات وحشية مرعبة. وأفصحت تلك الفترتان عن سياسات طفحت جراءها الطبيعة الأكثر دمارًا وعدوانية، ومثلت تعبيرا منطقيا عن لوثات الفكر الحزبي العقائدي المدجن، بدءًا من هجوم كاسح وتقتيل وترويع لباقي الأحزاب السياسية حتى القريبة فكريا أو الحليفة له، وزامن ذلك حروب داخلية وعسكرة للمجتمع أعقبها حربان مدمرتان راح ضحيتهما آلاف. وبسبب تلك النزاعات والحروب وضع الكثير من شرائح وأفراد الشعب العراقي تحت طائلة التهديد اليومي بالإبادة الحقيقية لو استمر البعث في حكم العراق.
فجرائم البعث ما كانت لتقتصر على قتل مخالفي الرأي والمعارضين والمشككين والضجرين والمتذمرين من سياسته، وإنما طال الترويع والقتل حلقات التجار والصناعيين والفلاحين ممن يجدون أنفسهم متورطين بشكل أو آخر بالارتباط بأحد رجالات السلطة أو منافسين له في المشاريع ذات الربحية. وطال التغييب والقتل المباشر أعضاء داخل الحلقات الحزبية البعثية من غير الممتثلين للتعليمات أو أصحاب رأي مخالف، أو ممن يطمحون بالتميز خارج أعراف الخدمة الحزبية لصدام ورجالاته. وكذلك الجنود والقادة من المعترضين والناقمين أثناء الخدمة العسكرية خاصة من المرغمين على المشاركة في حروب عدوانية هوجاء. ولم ينجُ من الإعدامات والتصفيات شخصيات رياضية وصناعية وزراعية وعلماء وأساتذة بحث وتدريس وطلاب جامعات ومدارس على خلفية الاختلافات الفكرية أو الخصومة الشخصية أو طرق التعامل مع النص المعرفي أو إثر خلاف وظيفي مع أحد المسؤولين أو أبنائهم. وحصد الموت الملايين من العراقيين من مختلف الأعمار بسبب السياسات الاقتصادية الرعناء التي جاءت على خلفية الحروب الكارثية التي أقدم عليها النظام داخليا وخارجيا، وأدت إلى حصار اقتصادي مروع مات جراءه المئات وتعطلت حياة الملايين .
استحضار تلك الجرائم تذكير مهم لحالة بشعة ومدمرة تشوه وتلوث ليس فقط تاريخ مؤسسات المجتمع المدني العراقي، ومنها الأحزاب والمنظمات الاجتماعية والسياسية، بل كونها تشكل لوثة وشرخًا وسوءة في تاريخ العراق شعبا وحضارة ووطنا، ولم يعد نكرانها والنأي عن مراجعة أحداثها وعدم الكشف عن وقائعها وشخوصها غير مشاركة في تأبيد تلك الجرائم والخراب الذي لوث ومازال يلوث تاريخ العراق ويطعن بقيمه الأخلاقية والشك بثقافته المدينية.
وفي الراهن من الوقت فهناك شخصيات وفئات مجتمعية وأحزاب، مازالت تبرر تلك الجرائم وتشرعن عمليات القتل والتعذيب للخصوم، باعتبارها أسلوبًا عمليًا للحفاظ على خصوصية القيم المجتمعية والدينية والدفاع عن الوجود أمام الآخرين، واحتساب تلك الممارسة قضية عادلة ومنصفة تجاه المخالفين والخصوم.
في الوقت الذي تمثل هذه الممارسات تعبير عن الخطل والشح الثقافي والفساد والوحشية الأخلاقية، فهي تعد مقدمة لتعميم الرعب الذي ترافقه رغبة عارمة لتطويع الناس للقبول بالأمر الواقع والرضوخ في الأخير لحالات الانتهاكات البشعة باعتبارها مُسلمات واردة في سياق الصراع السياسي والمجتمعي، وهذا ما سعى له البعض من ورثة وحاملي تقاليد الثارات والتخندقات الحزبية.
وبذات الطبيعة من القسوة والإرهاب وبشاعة الوقائع الجرمية، يمكن توصيف التصفيات الجسدية لمخالفي الرأي الذي مارسته بعض مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وعشائر وفئات مجتمعية عدة، خلال مراحل الصراعات التي امتدت وتنوعت طبيعتها وأسبابها على مر تاريخ العراق المعاصر ولحد الوقت الراهن. فقد ارتكبت من قبل بعض العراقيين جرائم قتل وتصفيات ضد أبناء جلدتهم، كان من الموجب أن تدون وتوثق وتدرس، ليشعر ويدرك الجميع مدى الاستهتار والخسة وقسوة أيادي وقلوب النخب والأفراد، من الذين أقدموا على اقترافها، ووحشية النفوس التي أمرت وشاركت في تنفيذها، ومنها جرائم داعش وعلى رأسها جريمتي معسكر سبايكر وسجن بادوش.
ومثلها ما حدث خلال انتفاضة أيلول الجماهيرية عام 2019 وما تلاها، التي خرجت فيها الجماهير مطالبة بحقوقها المدنية، فمورست ضدها شتى أنواع القسوة والغدر من قبل قوى محسوبة على أجهزة السلطة وفعاليات حزبية علنية ومضمرة. وراح من جراء عمليات الخطف والترويع والاغتيال أعداد كبيرة من الضحايا. وأقسى ما في تلك الواقعة تبجح البعض من القوى السياسية بالوقوف وبشكل سافر وعلني مع تلك الإجراءات القسرية الوحشية وانحيازها بالضد من التظاهرات المطلبية، لا بل توجيهها الاتهامات للجماهير المنتفضة بالعمالة للأجنبي واحتساب انتفاضتهم عمليات تخريب متعمدة لإيقاف مسيرة السلطة في بناء مشروعها الديمقراطي!!
ومثلما الجرائم السابقة فقد كتم وشوش بشكل ممنهج على قضايا القتل العمد وأهمل الجانب القانوني والحقوق المشروعة للضحايا على الرغم من توفر الأدلة والشهود، لتضيع بعدها حقوق الضحايا ويعتم على بشاعة الجريمة وأساليب القهر والقسوة المفرطة التي جوبهت بها الانتفاضة.
وتماثلت في تاريخ العراق السياسي الاجتماعي وقائع هذه الجريمة الكبرى بمثيلاتها من جرائم ضاعت فيها الكثير من حقوق الضحايا ولم تدرج في لوائح القضاء العراقي كحق لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه وإسقاطه لتقادم الزمن. ليتجرأ البعض ويطالب بل يفرض على ذوي الضحايا خيار النسيان والتكتم، من مثل جرائم شباط الأسود عام 1963 وجرائم عامي 78 و79 وعمليات التهجير الوحشية للعراقيين من الكرد الفيليه والحرب ضد إيران وغزو الكويت والجريمة البشعة في حلبجة وتدمير القرى الكردية وقتل الأبرياء في عمليات الأنفال، وما أعقب انتفاضة آذار عام 1991 من قتل وتشريد وترويع للأبرياء، وأخيرًا وليس أخرا المكتشف من الوحشية والخسة التي طالت الآلاف من الذين دفنوا وهم أحياء. تلك الأجساد الممزقة والمسحوقة التي ضمتها العشرات من المقابر الجماعية المزروعة على طول العراق وعرضه بسبب سياسات منظمة لمسمى حزب من اجل القضاء على مخالفي الرأي.
إن معاناة الشعب العراقي على أيدي البرابرة مهما كانت سماتهم ومسمياتهم وانتماءاتهم وأفكارهم ونواياهم، يجب أن تبقى قضية ماثلة أمام الرأي العام، وأن تحرص مؤسسات المجتمع المدني السياسية والاجتماعية والمهنية على تغذية الذاكرة الشعبية العراقية بمشاعر الاستنكار الرفض لمثل تلك الأفعال. ودراسة الأسباب الحقيقية وراء هذا العنف المفرط الذي يثار عند ابسط الخصومات.
وتعقد الحلقات الدراسية والمؤتمرات وبشكل دائم ومكثف لدراسة وتوثيق تلك الإساءات المرعبة والطرق الوحشية والابتذال السياسي الذي مارسه البعض بحق أنفسهم وأهليهم ووطنهم.
***
فرات المحسن