آراء

طه جزاع: قرن انتهى بضجة ونشيج

حفل القرن العشرين بالكثير من الأحداث الجسيمة والحروب والصراعات على امتداد المعمورة، إنه عصر التطرُّفات، كما يصفه المؤرخ البريطاني المعاصر ذو التوجه الماركسي إريك هوبزباوم الذي غادر الحياة عام 2010، فيما كان قد أطلق أوصافاً عديدة على القرن التاسع عشر الذي خصص له ثلاثية سماه فيها بعصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطورية، على التوالي، وبحسب الأحداث الكبرى التي شهدها ذلك القرن بمختلف عقوده.

في كتابه “عصر التطرُّفات” يُقَسِم هوبزباوم التاريخ الوجيز للقرن العشرين من العام 1914 ولغاية العام 1991 إلى: عصر الكارثة، والعصر الذهبي، وعصر الإنهيار. ثم يتحدث في تصديره للطبعة العربية عن عصر التطرُّفات في العالمين العربي والإسلامي، مؤكداً بأن القرن العشرين هو العصر الأكثر خروجاً عن المألوف في تاريخ البشرية، وبأن الشرق الأوسط أصبح، وسيظل منطقة عدم استقرار على الصعيد العالمي، لا يمكن السيطرة عليه من جانب أي من القوى المحلية، أو الخارجية. وحتى قبل غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، فإن المنطقة عاشت ستة حروب، فضلاً عن اندلاع الثورات والصراعات والحروب الأهلية. وعندما وضع كتابه هذا فقد استنتج في تحليله لتاريخ العالم الثالث بأن نهاية الحرب الباردة قد تركت منطقة الشرق الأوسط أكثر قابلية للانفجار من أي وقت مضى. وقد تحققت بالفعل هذه الرؤية التي كانت مستقبلية في وقتها، مع غزو العراق بدايات الألفية الثالثة، وحرب اليمن، وثورات ما سمي بالربيع العربي في تونس وليبيا ومصر، والحرب في سوريا، وظهور الحركات الإسلامية المتطرفة، والحرب على القاعدة وداعش من بعدها، ثم أخيراً وليس آخراً حرب الإبادة الجماعية الاجرامية الصهيونية على غزة التي ما زالت مفتوحة على كل الاحتمالات بسبب النزعة العدوانية للكيان الصهيوني وقادته الرافضين لأي تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

لقد أنجز هوبزباوم الذي يُعد من أبرز المؤرخين الأكاديميين حيث كان يلقي محاضراته على طلبة جامعات عالمية كبرى في فيينا وبرلين وكامبردج، فضلاً عن عضويته في الأكاديمية البريطانية والأكاديمية الأميركية للفنون والعلوم، موسوعة متكاملة لتاريخ العالم المعاصر، من عصر الثورة، وعصر رأس المال، وعصر الإمبراطورية، ثم اكملها بعصر التطرُّفات “ القرن العشرين “ الذي بدأ فعلياً كما يرى بنشوب “ الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم ثورة أكتوبر الروسية البلشفية عام 1917، وانتهى بانهيار الاتحاد السوفياتي والأنظمة الشيوعية في أوروبا الوسطى عام 1991، وتخللته الحربان العالميتان، وانهيار الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة، وحروب الاستقلال والتحرر الوطني، ثم الحرب الباردة التي أعقبتها مرحلة الهيمنة الأميركية والصراعات الإقليمية والثورة المعلوماتية”. ولعل أبرز ما يخصنا نحن العرب في رؤية هوبزباوم للتاريخ تلك المقدمة التي تناول فيها تداعيات القرن العشرين وتأثيراتها في العالمين العربي والإسلامي والتي اختتمها بالتأكيد على حقيقة مهمة للغاية يبرهن فيها على” أن مشكلات الشرق الأوسط لا يمكن حلها أو السيطرة عليها حتى من جانب أغنى القوى العسكرية وأكثرها سطوة في أيامنا هذه “ ليتوصل إلى أن مشكلات المنطقة إذا قُدر لها أن تُحَل: فإن ذلك لن يتم على أيدي قوى خارجية، بل عن طريق قوى داخلية في المنطقة، ويقصد بذلك الغزو الأميركي للعراق الذي ينبغي على مؤرخي المستقبل أن يعدوه مؤشراً على بداية النهاية لاستئثار الولايات المتحدة وحدها بالهيمنة على العالم بحسب رأيه.

يستعير هوبزباوم من الشاعر البريطاني الشهير إليوت مقولته: “سينتهي العالَم لا بضجة مدويّة، بل بنشيج “ ويضيف لها : غير أن القرن العشرين الوجيز انتهى بكليهما!.

ان كان القرن الماضي انتهى بضجة ونشيج على طريقة الشاعر إليوت صاحب قصيدة “ الأرض اليباب “ أو “ الأرض الخراب “، فبماذا سينتهي قرننا الحالي الذي بدأ بضجة وحروب ونزوح وتشريد ودماء، وأي بيت من قصيدة يصلح لعصر المفخخات ؟! .

***

د. طه جزّاع – كاتب أكاديمي

 

في المثقف اليوم