آراء
رشيد الخيّون: التّعليم العالي العراقيّ.. أسلمة بمقاس مالكي الوزارة
قد لا يُصدق مَن درس بجامعات العّراق، بغداد والبصرة والموصل، في ما مضى، عندما يطلع على كوارث التَّعليم داخل هذا البد المبتلى "حتّى اختزى". أقول لا يصدق لأنه يتفاخر على أترابه نال شهادته الجامعيّة مِن بغداد، ناهيك عن تخصصات، لا تُطالب جامعات أوروبيّة معادلة الشّهادة، ويكفيها أنها صدرت مِن بغداد؛ وقديماً قال أحد شعراء "ما وراء النّهر" أبو أحمد بن أبي بكر الكاتب: "لَا تعجبنَّ من عراقي رَأَيْت لَهُ/ بحراً من الْعلم أَو كنزا من الْأَدَب/ وأعجبْ لمن بِبِلَاد الْجَهْل منشؤه/ إِن كَانَ يفرق بَين الرَّأْس والذَّنب"(الثّعالبيّ، يتيمة الدّهر في محاسن أهل العصر).
أقول: لو عاد هذا الرّجل، واطلع على ما يحصل في مجال التّعليم، وسيادة الوهم وجبروته على الأذهان، لهان عليه هذا العراقيّ، الذي تعجب مِن علمه وأدبه، بمقياس زمانه وزماننا أيضاً، في ظل وزراء جعلوا الوزارات حقولاً لعقائدهم، وأحزابهم. يتصرف الوزير بالوزارة التي نُسب إليها، فهي حقله الخاص، يزرعها ما يرى ويرغب، وترغب الجهة التي صارت الوزارة مِن حصتها.
لا نذهب بعيداً عندما صار أحدهم، الذي نال شهادتين بتفسير القرآن، مِن دكاكين بالهند، وكان قبل السُّلطة، يقرأ المقدمة قبل قارئ المنبر بكندا، وفقه وقدمه حزبه ليكون وزيراً للتربية والتعليم، فقال قولته المدوية: "لي الشّرف بإعادة تشكيل العقل العراقيّ"! وقد حقق شعاره، فصارت وزارة التعليم العالي مِن حصة ميليشيا ولائية.
بالفعل أصبح العقل العراقي يتشكل كيف شاءت قوالبهم الحزبيّة؛ ليس المطلوب الخبرة ولا المعرفة، المطلوب استدامة الوهم في هذا العقل، ولا يستيقظ، حتّى لا يبقى شيء يعول عليه في المستقبل، جيل ينقل الوهم إلى جيل، فحلت الحوزات الدينيّة، وليتها مِن النّجف! إما خرجتهم قُمّ، أو حوزة الست زينب، فأتوا وزراء ومدراء. فمرة تصير وزارة الثّقافة بيد مؤذن، أو متدرب على الاغتيالات والتّفجيرات، في معسكرات "سرايا الدِّفاع"، ومرة تحت هيمنة ميليشيا. أمَّا وزارة التربية والتَّعليم العالي والبحث العلمي، فغدت مِن حصة حزبٍ، يعتبر المروج للقتل مفكرهُ وصوت فضائيته، وهذه المرة لميليشيا.
أمامي قائمة المناهج، التي يشترط تدريسها في محالات التعليم العالي، وضعتها لجنة وزارية، ودفعتها إلى الوزارة بتاريخ (26/9/2023)، لتأتي مصادقة الوزير عليها، بغضون الشّهر، أي في (19/10/ 2023)، هذه المناهج لو تقررت في حوزة دينية، أو جهة ثقافيّة عامة، ليست مدرسة ولا جامعة دولة، أو بلاد مثل العراق، لرُفضت، لأنَّ المؤلفين لا شأن له بمنطق التّدريس ولا الثّقافة، ولا ما ترجوه الوزارة مِن آفاق المستقبل. لكنَّ لأنَّ الوزارة بيد وزير، وزارته ملك ميليشيا دينية، فلا بدَّ لها مِن جعل تلك المناهج وفق عقيدتها، أو أوهامها، على أنها مناهج علميّة.
جاء في ديباجة قرار وزارة التعليم العالي، في تغيير المناهج الآتي: "حصلت مصادقتنا على أصل محضر اللجنة الوزاريّة، المشكلة بموجب الأمر الوزاريّ، ذي العدد(كذا وكذا)، التي تولت إثراء المناهج، والمصادر الدِّراسيَّة (للدِّراسات الأوليّة والعليا) بالمصادر والمراجع المؤلفة، مِن قِبل عُلماء ومفكرين عراقيين، لهم الأثر الكبير مِن خلال سيرهم ومؤلفاتهم، وإقرار بعض تلك المصادر، ككتب منهجيّة أساسيَّة، أو مساندة، ووفقاً لما جاء بكتب لجان العُمداء المختصة، التي أيدت توصيات اللّجنة أعلاه، والتي تضمنت باعتماد الكتب الآتيّة، في إثراء المناهج والمصادر الدّراسيّة، ووفقاً للتخصصات".
أولاً : إنَّ مؤلفي هذه الكتب المصادر ليسوا علماء ولا مفكرين، تدخل كتبهم في تدريس الجامعات، هؤلاء يا سادة فقهاء أو علماء دين، ماهو إطلاعهم على فنون المعرفة الحديثة، كي تكون كتبهم مناهج، المفروض تلقينها لطلبة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ هذه المناهج تحتاج أصحاب علوم ودراسات وباحثين، في العلوم الحديثة، التي تناسب الزّمن، ويُنتظر منها التقدم العلمي والبحثي. نعم، ليكن هؤلاء كباراً في الفقه، أو في تصوراتهم الدِّينية، المحدودة بدراستهم، لا تؤخذ مناهج تفرض في التعليم الرّسميّ، ليتخرج منها أجيال، فهذه وزارة دولة لا حوزة طائفة.
ثانياً: ما فُرض من مناهج، وسنأتي على ذكرها، لا يُعد إثراءً، مثلما ورد في ديباجة القرار الوزاري، بل إفقار علميّ، مع أنَّ العالم اليوم يتسابق على المعرفة الحديثة، وليس مِن الحقّ ربط مناهج جامعات بلد بالحقل الديني ووفق طائفة معينة، يدعي ساسته أنه يتقدم في الديمقراطية والعلم، وهذا ما يُسمع مِن الأحزاب والجماعات التي تفوز سنوياً في الانتخابات، وتوزع عليها حقائب الوزارات.
ثالثاً: إن الكُتب المختارة ليست منهجيّة، بل تُكرس الفرقة والحس الطائفيّ، فهي لرجال دين طائفة، الوزارة من ملكيات أحد تنظيماتها، مع أن من أبناء هذه الطائفة العلماء والمفكرون، مَن اختص في البحث العلمي، ولديه أفكار متقدمة، لكنهم هؤلاء أزيحوا أمام ما اختارته الوزارة من مناهج، قد تصلح للتثقيف الحزبي العقائدي لا أكثر، كُتبٌ أكل عليها الزّمن وشَرب، ولا يرى الهالة حولها إلا مَن عجز عن رؤية غيرها، أو كان معانداً حزبياً طائفياً.
رابعاً: هذه المناهج، مع عبارة في مستهل قرار الوزارة "القرآن منهجنا"، تشي أنها دولة دينية، الشّعار مستعار من الإخوان المسلمين، لماذا توريط القرآن في ما تعبثون بعقول الشبيبة، نعم هناك دراسات دينية خاصة، لا شأن للتعليم العالي والبحث العلميّ بها، هذا الشّعار "القرآن منهجنا" وضع لتمرير مشروع استدامة التّخلف، وتمرير هذا المنهج، بحجة القرآن هو المنهج، لو سألت أعضاء اللجنة، والوزير، ماذا تقصد بالقرآن منهجاً، هل ستخضع العلم للدين، وهذه ورطة للدين، فلا يجب مقابلة الدين بالعلم، إنما هناك أفكار وفلسفات، لا يجب أن تُطوع لهذا الشعار، الذي صاغه الإخوان المسلمون للتحايل على العلم والدّين نفسه، كذلك وضع هذا الشعار "القرآن منهجنا" لذر الرماد في العيون، كي يستر الخزي الطائفي في المناهج.
ما جُعلت هذه الكتب مناهج مفروضة على الجامعات، وفي تخصصات إنسانيّة، إلا لغاية مدمرة، يغلب على الظن لو كان مؤلفوها أحياء لقالوا ما قالوه الإمام مالك بن أنس(تـ: 179هـ) لخليفة عصره، وقد أراد جعل كتابه "المُوطأ" الوحيد مِن بين الكتب، ويعتمده في التعليم. قال مالك: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ إِلَيْهِمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا بِهِ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرَهُمْ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ كُلُّ أَهْلِ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ"(ابن عبد البر، بيان العِلم وفضله).
المناهج المفروضة، جاءت مناصفة بين الصّدرين: محمد باقر الصّدر(قتل: 1980)، ومحمَّد محمَّد صادق الصَّدر(قُتل: 1999). فالميليشيا التي تملك الوزارة تتخذ مِنهما سنداً لوجودها، وعندما تُعليهما، إلى مستوى مناهج عليا، تقصد نفسها، لا تقصدهما، ولا الشعب العراقيّ، ولا يُستبعد أنَّ الوزير ، فرض وصادق، وقيل هو خريج الجامعة الإسلاميّة ببيروت، كي يُقدمها هدية لمالك الوزارة، فلا يعتقد رئيس الوزراء، أن له يد على هذه الوزارة أو غيرها.
- المناهج في تخصصات العلوم الإسلاميّة:
من كتب محمد صادق الصّدر: "منة المنان للدفاع عن القرآن"، "فقه الأخلاق"، ما وراء الفقه"، الأسرة في الإسلام، الكائفية في نظر الإسلام.
مِن كتب محمد باقر الصّدر: دروس في علم الأصول، المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة.
-العلوم الإدارية ولاقتصادية، كتب محمد باقر الصّدر: اقتصادنا(كتاب منهجي للدراسات الأولى والعليا وأقسام الاقتصاد في مراحل الدكتوراه والماجستير). المدرسة الإسلامية أو الإنسان المعاصر.
- العلوم السياسية: كتاب محمد محمد صادق الصدر: الطائفية في نظر الإسلام.
تخصصات القانون: نظريات إسلاميّة في إعلان حقوق الإنسان، والأُسرة في الإسلام لمحمد محمد صادق الصّدر.
- تخصصات الآداب ومنها الفلسفة: المدرسة الإسلاميّة أو الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعيّة، كتاب فلسفتنا، وعلم الأصول لمحمد باقر الصّدر.
التربية للعلوم الإنسانيّة: كتاب الأسرة في الإسلام لمحمد محمد صادق الصّدر.
قلتُ لا نظن، إنَّ عفة محمد باقر الصّدر، وعفوية محمد محمد صادق الصّدر، أنهما سيوافقان، على هذا المشروع، الذي يسلب من التعليم العالي مهمتها، فهذه الكتب ليست كتبت مناهج، ممكن تكون كتب ثقافة عامة، وقلنا: حتّى الحوزات الدينية لا تجعلها مصادر في مناهجها، الغرض على ما يبدو صفقة انتهازية، مِن قبل اللجنة والوزارة، لمالك الوزارة، وهو ضرب مِن ضروب أسلمة التعليم، وبشكل مشوه، ففئات وطوائف غير طائفة مالك الوزارة في حلٍّ منها. أقول: إلى أين أنتم ذاهبون بهذه البلاد المبتلية بكم وبشعبها المقهور بأوهامكم الدّينيّة الطائفيّة؟!
***
د. رشيد الخيّون