آراء
الطيب النقر: البرهان وصلته بالتيار الإسلامي السوداني
لا شك أن جملة ظروف قد ساهمت في تعميق هذه الأزمة التي يعيشها السودان الآن، والتي قادت لتعثر التحول الديمقراطي الذي يشرئب إليه الوجدان الشعبي في أرض النيلين، ومرد هذه الظروف والاختلالات هي هياكل حزبية واهية غارقة في الآثرة والفساد، وقوة عسكرية غاشمة اعتادت التمرد على سحق الديمقراطية، ومجتمع مدني ضعيف عرضة للتجاذبات والشحن، وصحافة هشة تجعل من الخلافات موضوعاً لنضالها اليومي، وأعداء باتوا هم من يرسموا الخارطة السياسية التي يلتزم بها المجلس العسكري، والنخب السياسية من خلفه، فالنخب السياسية قبل حرب الخرطوم من دون استثناء، كانت تعاني أوضاعاً تتسم بالجدب السياسي، فهي فضلا عن ابتعاد آليات الديمقراطية عن نظمها التي تخلو من كل صيغة تمت للديمقراطية بصلة، أو تصل إليها بسبب، قد فشلت في حشد خطاب رصين يمحص أسباب هذه الأزمة، ويضع الحلول للتعافي من عقابيلها، فشعبها الذي لم تتحطم قناعاته على صخرة الواقع، لم يسعى أن يحوز على قصب السبق في النضال بصفوفها، لأنها لا تعرف النضال إلا في النكوص والارتكاس عن مبادئها، ولا تجيد إلا التناحر الشديد بين أطيافها، ولا تتقن إلا التودد والتجانس مع من يقود دفتها، وإظهار الولاء لنهجه وشخصه مهما أمعن في الجور، وغرق في ثنايا التطرف .
وظاهرة الولاء الأعمى معروفة لدى كل من خبر الأحزاب التي تمارس أنماط الطاعة، ولا تستسيغ أن يعبر المنتمين إليها عن رفض بعض سياساتها المرسومة إذا لاح خطلها، كبعض الأحزاب الإسلامية التي تتوخى الطاعة العمياء في أديباتها، فهناك كما نعلم أحزاباً إسلامية يستغرق دمج هذا المبدأ في ذهن العضو المنتسب إليها حديثا وقتاً طويلاً، وهي لا تبغض شيئاً كما تبغض أن يناقشها هو في هذا الشأن، عليه أن يتشابك ويتفاعل مع هذا الطرح دون تفصيل، ونسيت هذه الأحزاب أو تناست أن مرونة الإسلام وقوته كانت تكمن في الخلاف وتعدد الآراء، لأجل ذلك أبصرنا محصلة التقوقع والانكفاء في مصر والسودان، فالتنظيمات المستقرة على الطاعة دون مناقشة حول مسارات الخطط والاستراتيجيات فيها، نجدها ضاربة بعرض الحائط بأهمية التعبير عن الرأي وجدواه، فهي لا تذعن إلا للطاعة العمياء، وتجد أن الطاعة المفرطة أمراً لا مرد له ولا مندوحة عنه، لأجل ذلك تكبدت في خاتمة المطاف خسائر فادحة لا يمكن تتداركها بين عشية وضحاها، كخسارة الإخوان في مصر، والمؤتمر الوطني في السودان، ولعل من خطايا المؤتمر الوطني خلاف أنه رضخ للمشير البشير الذي سلب إرادة الحركة الإسلامية، وطمس هويتها، أنه أيضاً لم يسعى لجمع شتات الحركة الإسلامية، ففي تلك الأيام الحالكة من تاريخ الحركة الإسلامية إذا تم عرض هذا الموضوع على الطاولة من قرومها الذين سعوا إلى تغليب الصلح على الشقاق، ثارت أمامهم لجاجة الناقمين على الشيخ الترابي رحمه الله ورهطه، وأطنبوا في سرد هذه المشكلات التي لم تحكم صنعتها، أو تثبت صحتها.
إن الخلاف في وجهة نظرنا يتمحور في فئة أعرضت عن اللذة وأقبلت على الجد، وقيادات في المؤتمر الوطني تجانفت عن الحق، وركنت إلى الدنيا، هذه القيادات هي التي بسطت بغض الشيخ بسطاً، وفصلته تفصيلا، إن الشيء الذي يفهمه الناس جميعاً، كل الناس دون مشقة أو عسر، أن الخلاف الذي وقع بين قطب الحركة الإسلامية وعرابها وبين المشير البشير، قد تسبب في نفور العديد من أتباع الحركة، مما أضعف من شوكتها، والحركة التي اشتد نزيفها حينما أطنبت رموزها في التطرف والمغالاة، أظهرها بمظهر غير متجانس، واضحت عبارة عن طبقات، كل طبقة من هذه الطبقات تنكر بعضها بعضا، ولم تستوعب مغبة هذا الخلاف إلاّ عندما انتزع اليسار الحكم من أنيابها .
والشيء المؤسف بعد كل هذا، أن الحركة الإسلامية لم تسعى أن تتخذ العبرة من تجربتها الطويلة في الحكم، وأن تتعود على إلقاء اللوم على نفسها، فهي عوضاً على أن تنكب على تجربتها وتسعى أن تعلل ما ورد فيها من خير أو شر، نجدها بأصولها وجوهرها، قد ساهمت في السراب الديمقراطي الذي كنا ننعم به، قبل أن يتحول هذا السراب إلى هيجاء مستعرة لا تأصرها آصرة، في قلب الخرطوم لتنتقل بعدها إلى غرب السودان، ثم في وسطه هذه الأيام، فها هي الجزيرة الخضراء تتكالب عليها مليشيا الدعم السريع المدعومة من بعض الدول الاقليمية.
ومما لا يند عن ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن المجلس العسكري بقيادة الفريق أول البرهان الذي كان مضطرا أن يتعاون مع الحركة الإسلامية على كره ومضض، كانت الوقائع والأحداث تنذره من حين إلى حين، أن يبقي على علاقته مع الحركة الإسلامية حميمة غير فاترة، فالبرهان رغم اعترافنا بأنه حتى كتابة هذه السطور، لم يعتمد على الحركة بصورة كلية، أو يثق بها، أو يطلب إليها أن تسبغ عليه من ألمعية عقلها، وحدة ذهنها، إلا أنه كان كلما فرغ من معركة من معاركة الحامية مع قوى الحرية والتغيير إلتفت إليها. ونظر إذا كانت الحركة الإسلامية فرحة مبتهجة بما سلكه من تدابير، أم هي عابسة مقطبة الجبين، وفي الحق أن كاتب هذه السطور ما زال يسعى لتحديد كنه العلاقة بين الفريق أول البرهان الذي انطلق وجهه بعد عبوسه، خاصة بعد أن أزاح شذاذ الآفاق من طغام الحرية والتغيير، ونائبه وغريمه حميدتي عن سدة الحكم، وبين الحركة الإسلامية التي يعتقد الكثير ممن هم منضوين تحت لوائها، أن البرهان قد استأثر بخيرها في عهد المشير البشير، ثم تنكر لها وجحد فضلها، بعد أن دانت له الأمور، والحركة الإسلامية التي أيقنت أن من الخطل أن تطمئن إلى البرهان، بعد أن أحاطت بلوذعية الرجل ومكره، فلم تعد تأخذ نفسها بما يجتره من عهود، فقد أدركت كما أدرك غيرها من الأحزاب السياسية، أن الرجل الذي يشنف مسامع الناس بأحاديث في هذا اليوم، ويعلن التزامه بوعود يقطعها لهم، حتى إذا أتى اليوم التالي وانتصف ذلك اليوم، جحد ما قطعه من وعود، وتنصل مما نطق به من عهود، وهزء كتفيه غير مباليا بما يغتلي في وجدانك، بل يظهر لك في وضوح وسفور أن الأمر سيان عنده إذا ازدرت هذا النكران وهضمته، أم ناهضته واستهجنته، حسنا هذا هو سحر البرهان إذن، عقل راجح، ومزاج معتدل، ورغبة محتدمة في مصاولة الأذكياء، لأجل هذا أبصرناه يزداد قوة وتسلطاً كلما تقدمت الأيام، وأن قبضته المحكمة على صولجان السلطة رغم حجم المتهافتين عليها ما زالت جذعة قوية، إن الواقع من الأمر على كل حال، أن الكثير ما زال يرى أن الفريق أول البرهان امتدادا للمؤتمر الوطني، فقد كان من ضمن القيادات الرفيعة في الجيش التي تحيط بالبشير، هؤلاء ومن ضمنهم أنا ننظر إلى البرهان ومجلسه العسكري، بأنه لم يحترم رغبة هذا الشعب في أن يعيش حياة جديدة، يتحرر فيها من ملق الفاقة، وأوهاق المنية، وأغلال الذل، ورسف العبودية، حياة تشوبها الثقة والأمانة، في حاكم ليست الغلظة والشدة في طبعه ولا سنخه، حياة لا تتحكم في تفاصيلها دولاً مجاورة أظهرت ضجرها من الخلق والعرف والدين، ورغم يقيني بأن الحركة الإسلامية لا تكلف بالبرهان كلفاً شديداً، ولا تطمئن إليه كل الاطمئنان، لأنه لم يعترف على نفسه بفضل الحركة عليه، ولأنه لم يحرر أقطاب حزبهم من سجونهم، إلاّ أنها تمنحه بعد كل هذا ما كانت تمنحه للبشير من دعم وأيد، فهي تعلم أن التجزئة تقبل مسرعة غير متمهلة، وأن السودان بعد طوفان عرب الشتات، وسعيهم لنيل الحكم عنوة، قد دنا من الموت، أو دنا الموت منه، وأنّ العاصم من موته من بعد الله سبحانه وتعالى، المؤسسة العسكرية التي يعتليها بكل أسف قائد هو أساساً للمأساة، ونائبه الذي فرضته الظروف وأنشأته الوقائع، فهذين الرجلين بتكالبها على الحكم، وتنافسهم فيه، قد انتهيا بنا إلى ما نحن فيه من ضعف واعياء ومصير قاتم.
***
د. الطيب النقر