آراء
أبو بكر خليفة: عن الحاجة إلى رجال دولة حقيقين في ليبيا المتعثرة
أي نوع من الرجال تحتاجهم ليبيا في مرحلتها الانتقالية المتعسرة هذه، والتي تتسم بالكثير من التعقيد في بيئتها السياسية الداخلية؟ هل هي تفتقد إلى رجال دولة حقيقين؟ أم أنها بحاجة إلى رجال سياسة يستطيعون أن إدارة المجال السياسي وتدبير هذه المرحلة الصعبة، إن لم يوجد رجال دولة؟
على أرض الواقع، وبنظرة فاحصة ومتمعنة في المشهد السياسي الليبي خلال العشرية المنصرمة بعد تغيير مابعد عام2011ظلت ليبيا تفتقد إلى رجال دولة حقيقين، كما أنها لازالت تفتقد إلى رجال سياسة بمعنى الكلمة، والذين يظهرون في المشهد اليوم جلهم أوأغلبهم يمكن تصنيفهم ب.. عاملين في السياسة، وما أبعدهم من أن يكونوا رجال دولة، وبعض هؤلاء العاملين في السياسة في ليبيا أصبحوا محترفي سياسة يجيدون فقط اللعب على الحبال والتلون حسب إتجاهات مصالحهم الذاتية الضيقة.
في نظر المفكرين والفلاسفة، يكون رجل الدولة؛ هو الشخص الذي يتمتع بالقدرة على فهم الأمور المعقدة والتفاصيل الدقيقة لإدارة الدولة، والذي يسعى جاهداً لتحقيق الصالح العام والمصلحة الوطنية،ويكون لديه القدرة على توجيه السياسات واتخاذ القرارات الحكيمة والمدروسة بما يضمن أمن الدولة واستقرارها ورفاهية مواطنيها.بالمقابل، يعتبر رجل السياسة؛ هو الشخص الذي يتمتع بمهارات التحكم في الأحداث السياسية والإعلامية والرأي العام، والذي يستخدم هذه المهارات للوصول إلى السلطة والحفاظ عليها. وغالبًا ما يكون رجل السياسة مهتمًا بتحقيق أهدافه الشخصية والحزبية بدلا من التفكير في المصلحة العامة.
أما العامل في السياسة ؛ فهو الذي لا يمتلك تأهيلا علمياً أو مهنيا في السياسة، وهم يشكلون المنتخبين والمتعينين والناشطين السياسيين والصحفيين السياسيين والمستشارين السياسيين إلخ.. والمنتخبين هم غالباً جاءوا من مهن ووظائف لاعلاقة لها بالسياسة، هم فقط نتاج صناديق الاقتراع، حيث أن الانتخابات لا تنتج بالضرورة رجال دولة أو رجال سياسة، وعلى الأغلب تأتي بعاملين في السياسة، قد يصبحون لو إجتهدوا رجال سياسة، ولكنهم على الأغلب لن يصلوا أبعد من ذلك أي لن يتحولوا إلى رجال دولة، حيث تبقى تتقاذفهم إما مصالحهم الفئوية أو الحزبية أو مصالح الجماعات الاجتماعية التي ينتمون إليها.
والعاملين في السياسة من المنتخبين في ليبيا اليوم، جاءت بهم كما أسلفنا صناديق الاقتراع سواءا في الانتخابات البرلمانية التي أفرزت البرلمان المنتخب الأول في ليبيا المتمثل في ؛ المؤتمر الوطني العام عام 2012، أو الإنتخابات البرلمانية الثانية التي أفرزت مجلس النواب الليبي عام2014، وجاء بعض العاملين في السياسة في ليبيا عبر إنتخابات داخلية كما حدث ويحدث في مايسمى بالمجلس الأعلى للدولة المنبثق عن إتفاق الصخيرات عام 2015. وللاسف فإنه رغم هذه الطفرة الانتخابية والتي تشكل خطوة في كل الأحوال، إلا أنها لم تنتج رجال الدولة الذين تحتاجهم ليبيا في هذه المرحلة الحرجة من تاريخها، وظل أغلبهم مجرد عاملين في السياسة، إلا قلة منهم أصبحوا فقط رجال سياسة ماهرون في حشد الأتباع، يمكن أن يصبحوا رجال دولة إذا تساموا على مصالحهم ووضعوا مصلحة ليبيا العليا نصب أعينهم، ويمكن إستجلاء أهم المعوقات التي تحول دون ظهور رجال دولة أو تكون عقبة أمام خطواتهم حتى وإن وجدوا في ليبيا على النحو التالي:
أولا/المعوقات الأمنية: حيث تعاني ليبيا من انعدام الأمن والاستقرار وصعوبة في إرساء حقيقي للسلام في العديد من المناطق، وتشهد البلاد انتشارًا واسعًا للأسلحة والجماعات المسلحة، وتغولا للميليشيات التي أصبح لقادتها سلطة حقيقية في البلاد، ويربطون ويحلون في كل المجريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حتى أن الكثير من الباحثين يرون أنها يجب أن تكون جزءا من أي معادلة قادمة لتحقيق التوافق والاستقرار في ليبيا.
ثانيا/شيوع ظاهرة الفساد: حيث مع إستفحال الفساد والتلاعب بالسلطة والمال، وتعدد الأطراف المتورطة والمستفيدة منه من أشخاص نافذين ومؤسسات متورطة وميليشيات متسلطة، يصبح من الصعوبة بمكان ظهور رجال دولة وحتى وإن وجدوا، فلن يمكنهم التعامل بسهولة ويسر مع هذه الخيوط المتشابكة من المصالح والتحالفات الغارقة في مستنقع الفساد، من أجل إرساء الشفافية ومكافحة هذه الظاهرة.
ثالثاً/ المعوقات الاجتماعية: في ظل الإنقسام السياسي والبلقنة الحكومية، مما جعل القبائل والجهات تنقسم بشدة بين هذه السلطة الحكومية والأخرى، أو وراء هذه السلطات الأمنية والعسكرية المتناقضة، فيصبح من الصعب العثور على رجال دولة حقيقين يستطيعون خلق الإجماع حولهم، أو التعامل مع كل هذه الأطراف المتنازعة، وحتى وإن وجدوا في ظل هذا المشهد الضبابي، فأما أنهم غالبا سوف يتعرضون للطمس أو يتم إحتوائهم عبر إنتماءاتهم الاجتماعية والجهوية أو يتم شراء ولاءاتهم.
رابعاً/المعوقات الدولية: بعد أن بلغ التدخل مداه بل وأكثر في ليبيا، وحيث أصبحت أغلب الأطراف المتنازعة بل وحتى المليشيات وكلاء لهذه الأطراف الدولية والإقليمية المتدخلة في ليبيا، فكيف يمكن لرجل أو بضع رجال دولة أن يظهروا في ظل هذا الوضع الشائك والمتشابك، وحتى وإن ظهروا وهم يحملون مصلحة ليبيا العليا على كواهلهم فكيف سيتعاملون مع هذا الاخطبوط من التدخل الدولي الغاشم؟ هذه الأطراف التي تقيس وتفصل حسب مصالحها المتناقضة أوالمتقاطعة، ولا ترضى الإ ببعض الأشخاص الذين تحركهم كالدمى حسب مصالحها.
الخلاصة؛ لن ينقذ ليبيا ولن يستطيع أن يضعها على جادة طريق ممهد نحو البناء والسلام والاستقرار إلا رجال دولة حقيقين، يعلون مصلحة الوطن العليا، ويديرون السياسات وفقا لهذا المنطلق، وهؤلاء إما أن ينبثقوا من أوجاع الوطن ويتنادون لنجدته، أو بتحول بعض رجال السياسة إلى رجال دولة، وأما العاملين في السياسة ومحترفيها، والذين يظلون يطاردون مصالحهم فقط،فهم أحد الأعباء الثقيلة على كاهل الوطن.
***
د. أبوبكر خليفة أبوبكر
كاتب راي وباحث وأكاديمي ليبي