نصوص أدبية
نسرين إبراهيم: بائعة الخضار سفيرة!!

كان القرص الملتهب يختفي وراء جبل عمودي، لكن المدهش أنّ هذا القرص لا يتحرّك، بل الكون بأسره يدور لأجله. هكذا كانت ذهب، بائعة الخضار الصغيرة؛ حيثما حلت، تحرك الكون في عيني والدها.
لم تكن ذهب ابنة صائغ الذهب كما قد يُخيَّل، بل ابنة الفلّاح سليم، الذي انتظر كل فجر كي يطلّ على أرضه ويراقب زرعه بحذر.
لم يرَ سليم في حياته ما يضيء مثل ذهب، ابنته الوحيدة. كان يأخذها معه إلى الحقول منذ صغرها، وكانت تلك الأرض المزروعة أمًّا حاضنة لها، تحتضن خطواتها الأولى وتغرس في قلبها جذور البقاء.
كثيرًا ما تساءلتُ عن حقيقة الزمن: كيف تمر اللحظات أحيانًا كلمح البصر، فيبدو ما وقع قبل سنة وكأنه حدث البارحة، وأحيانًا يثقل الزمن كخطوات مترددة في انتظار مجهول. لكن الأيام مع ذهب، ومع الأرض الأم، ومع سليم الأب، كانت تجري سريعة، كالبرق الذي يسبق المطر.
من قوانين الحياة على هذه الارض، هو أنهم لا يملكون الحق في أن يطلوا على الأراضي المجاورة، ولا أن يتجاوزوا حدودهم.
والغريب أن الملك حرم على الناس حلقات العلم ومجالس التعليم في تلك الأرض.
كم تمنى سليم أن يعلّم ابنته، وكم حلم أن يرى عينيها تتفتحان على كتاب كما تتفتح سنابل القمح مع الفجر...لكن هذه الأرض كانت مسوّرة، لها حدود لا يجوز تجاوزها، وأسوار تحجب عنها أراضي الجيران. حتى مجالس العلم مُنعت فيها بأمر الملك، وكأنّ المعرفة جريمة. لطالما تمنى سليم أن تتعلم ذهب، أن ترى النور في الكتاب كما رأته في الحقول.
الزمن مع ذهب كان غريبًا: تارةً يمر سريعًا كالبرق الذي يسبق المطر، وتارةً يتباطأ كخطوة ثقيلة تترقب حدثًا جللاً. ومع كل ذلك، ظل سليم يراها سفيرة الأرض: تحمل في عينيها بريق الحقول، وفي يديها بركة البذور، وفي قلبها حلمًا مؤجَّلًا بأن تنكسر الأسوار، وتعود حلقات التعليم، ويصير للحرية جذور لا تقتلع.
لم تكن الأرض يومًا سوى الحاضن الوحيد لذهب. في طفولتها علّمتها التربة كيف تنطق، ومع مرور الزمن كانت الارض مدرستها الأولى والأخيرة.
مرض سليم واشتد مرضه ولم يعد يقوى ساعده على حرث الارض وزراعتها، حينها وجدت ذهب نفسها تقف في صفه، كفلاح يرث عن أبيه الأمل قبل المحراث.
ذلك العام كان قاسيًا على المدينة، إذ تسللت حشرة غريبة إلى الحقول، تلتهم الجذور وتترك السنابل خاوية.
قلَّ محصول الناس، وارتفعت الشكوى إلى السماء، أما ذهب، فجلست طويلًا تراقب، تفكر، ثم نزلت إلى الأرض تحمل السماد، تمزجه بقبضة من ترابها الأم. أرادت أن تبتكر علاجًا صغيرًا، سلاحًا متواضعًا، يعيد للحقل أنفاسه، وتلبي نداء الأرض الام
وهكذا، بدت ذهب لا كطفلة ولا كفلاحة وحسب، بل كأنها سفيرة الحياة، تحمل رسالة الأرض، وتدافع عن جذورها، لتبقى السنابل شاهدة على إصرارها من الهلاك ، وحملت ذهب سلال الخضار وراحت تجوب اسواق المدينة، لا تبيع الخضار فقط، بل تبيع الأمل، حاملة رسالة عظيمة من أرضها الام ،سفيرة لهذه الارض الخضراء
ومضت أيام ثقال، والناس يراقبون حقولهم وهي تذبل، إلا قطعة الأرض الصغيرة التي ترعاها ذهب، هناك ارتفعت الخضرة من جديد، ونجت الجذور من الهلاك .....
كبرت القصة، وصارت الناس تقصدها لتسألها عن علاج زرعها، ولتسمع منها سرّ العناية الذي يجعل الأرض تعود للحياة من تحت الرماد.
أراد سليم أن يعلم ذهب القرأة والكتابة، فإذا بهاِ تعلّم الناس كيف يقرأون الأرض، وكيف يكتبون حياتهم من جديد
ومن يومها، لم تعد ذهب مجرّد بنت الفلاح أو بائعة في السوق؛ صارت أيقونة تصرخ في وجه العجز، ودرسًا في أن الحياة لا تحتاج لقبًا رسميًا لتمنحك رتبة… بل تحتاج قلبًا يصرّ على أن يزرع ولو في صحراء قاحلة، وروحا تصغي لرسالة الارض وتنقلها للناس .....
ولهذا لُقبت بــ سفيرة الحياة.
***
د. نسرين ابراهيم الشمري