نصوص أدبية

كريم عبد الله: على تخوم الغياب يبكي الوطن

يا للغيمِ، كيفَ يُطفئُ آخرَ قنديلٍ في دروبِ العائدين، وكيفَ للريحِ أن تحفظَ أسماءَ الذين رحلوا، دونَ أنْ تَخلَعَ جلدَ الذاكرة؟ في مساءٍ مهجورٍ من نبوءاتِ الوجع، ولدنا لاجئينَ من خاصرةِ الأرض، نحملُ على ظهورِنا وطنًا مكسورَ الضلوع، ونمشي كأننا سُلالةُ الأسئلةِ، لا أحدَ يُجيب.

**

في الخيامِ، تنمو الأحلامُ على عِكازِ الانتظار، ويغزلُ الأطفالُ نجومًا من طحينِ الحنين، تحتَ سماءٍ لا تعرفُ أسماءَهم. تقولُ الأمُّ: أين ينامُ قلبي؟ حينَ كلّ طفلٍ لي أصبحَ قارةً منفصلة، وصوتي لا يبلُغُ أعتابَ السماءِ؟ من يُعيدُ لي وجوهَهم قبل أنْ تأكلَها صورُ الهويات؟ وتبكي.

**

الأبُ، سقْفُهُ حنينٌ مُثقّب، وصدرُهُ خريطةٌ مُلغّمة بمدنٍ عبرها دونَ أنْ يراها، يحملُ عمرَه في حقيبةٍ رماديّة، ويقول: لقد تأخّرتُ كثيرًا عن حضنِ البيت، حتى صارَ الزمنُ كلّهُ مَعبرًا لا يُفتح، وكلُّ الجهاتِ حدودًا تبصقُنا.

**

أيُّ جدارٍ هذا الذي فُرِضَ بيننا؟ جدارٌ من تهجيرٍ، من لهاثِ الشظايا، من حقائبَ لا تُطوى، من مطاراتٍ تُطفئُ أملَ العيون، من خرائطَ هجرتْ أسماءَ مدنِنا واستبدلتها بترقيمٍ مُمِلٍّ يُناسبُ طُغيانَ النسيان؟

**

نُفتّشُ في وجوهِ المارّين عن شبهٍ لأبٍ كانَ يزرعُ القمحَ في الحناجر، لأمٍ كانتْ تُرضِعُ الشوقَ مع الحليب، لأخٍ لم يعرفِ الوداعَ إلّا حينَ شقّتْهُ الحدود. لكن لا أحد يُشبهُ أحدًا ولا أحدَ يُعيدُ أحدًا إلّا الله.

**

يا ربّ، أعدْ لنا أوطانَنا التي نحبّ، أعدْ لنا أحلامَنا التي شاختْ في العراء، أعدْ لنا أطفالَنا الذين كبروا بلا ملامح، وأمهاتٍ فقدنَ أسماءَ الندى، وأبناءً تاهوا في خرائطَ من لهب، اجعلْ من يدِك المعجزةَ التي لمْ تُخلَق بعد، واكسرْ جدارَ التهجيرِ العظيم، فما عادَ في القلبِ مساحةٌ أخرى للرحيل.

**

نحنُ العائدونَ إلى اللاعودة، الراحلونَ عن ظلالِ البيوت، المصلوبونَ على أسلاكِ الحدود، نكتبُ أسماءَنا على جدرانِ المجهول، وننتظرُ … أن يُطلّ الفجرُ من عينِ الله.

***

بقلم: كريم عبد الله

بغداد - العراق

في نصوص اليوم