نصوص أدبية
قصي الشيخ عسكر: عنكبوت

القسم الأول: مدن الشمال
هكذا كان الأمر حسبما نشرته إحدى الصحف الأجنبية
شخص ما
في مكان ما
يبني عنكبوت في إحدى أذنيه بيتا
والحق إني عشت حالة رعب قبل أن يجذبني النوم إليه. في يقظتي رأيت خرابا:
بيوتا تحترق
أشلاء
ركام
وفي أحد مشاهد اليوتوب وقع بصري على جنديّ إسرائيليّ يطرق بوابة عريضة لبيت متهدم من جراء غارة في غزة. أظنه كان مرتبكا أو فقد أعصابه.. كان هناك ركام خلف البوابة والجندي يدقّ بقبضته. دفعني الخوف والملل وكثير من الحنق إلى أن أعرض عن المشاهد المتحركة أمامي وأنصرف إلى الصحف الأجنبية، والمذياع، وربما أنساني خبر العنكبوت في تلك الصحيفة هول الحرب المتحركة على وسائل التواصل الاجتماعي في غزة.
لكنني مع ذلك تمتعت بنوم مذهل بعد كل ما شاهدت وقرأت:
ليست هناك من كوابيس اجتاحت نومي سوى بعض حركة في أذني..
الأذن اليمنى بالضبط....
قيل إن الأنبياء يأتيهم الوحي من الأذن اليمنى والشياطين تنفث هلوستها للسحرة والساحرات باليسرى.. أعرف نفسي لست شيطانا ولا نبيا. أذني الآن ثقيلة خَدرة.. نعومة غير معهودة وهناك شئ ما.
نهضت من فراشي متثاقلا، ووقفت وقفة جانبية أمام مرآة خزانة الملابس الطويلة:
دهشة
تأمل
صدمة
شبكة على بوابة أذني وسطها عنكبوت يتربص بعينيه الجاحظتين
إذن كانت الصحيفة تكتب عني.
لا أحد سواي
لفت نظري قبل النوم مشهدان أحدهما منظر الجندي الذي يقرع بوابة بيت أصبح أنقاضا، وخبر قرأته.. رؤيا ثابتة وأخرى متحرّكة.. ما أبصرت من عنف وماقرأت نصفه تحقق.. فأين أدرك النّصف الآخر؟
كنت أخشى أن يكون العنكبوت ساما، يلدغني إذا ما أهجته بيدي. كل شئ أصبح الآن واضحا: عليّ أن أضع سماعة الهاتف عند الأذن اليسرى لأرد على أية مكالمة وأتعامل بالطريقة ذاتها مع الهاتف النقال…
لكن عليّ أن أطمئن... عرفت أنه قد يبقى يوما أو يومين. رحت أراقب أذني عبر المرآة بيت جميل.. نت متقن الصنع يربض وسطه عنكبوت يظلّ يطل من موقعه على العالم بعينين مذهلتين. خلت أن نصفه عينان، وقد اتعبني الوقوف الجانبي أمام المرآة والنظر إلى أذني فيما يشبه حالة الشزر، فلجأت إلى المرآة الصغيرة التي أمسكها أمام أذني وأحركها نحو زاوية أقرب إلى عيني. فأتقين أن هتاك بقايا بعوضة أو جناج ذبابة اصطادها ضيف أذني الطفولي.
صيق سيغادر
لن أزعجه
كنت أتحاشى النوم على جانبي الأيمن، لو كانت أمي حية لقدمت لي تفسيرا أرتاح له. كانت تقول إن العنكبوت خير فهو الذي بنى بيته على باب الغار ليوهم المشركين ألا أحد فيه في حين كان النبيّ ورفيقه داخله.. أووه معان كثيرة كان يمكن أن أستوحيها من ضيف لم أتوقعه فيما لو أردت.
إذهب إلى الشارع
أتبضع
أقابل أصدقاء
حياة عادية
ولا أظنّ أحدا التفت إلى أذني. ولم تعد قنوات التواصل الاجتماعي تظهر مشهد الجندي الإسرائيلي الذي دق عدة دقات على بوابة بيت فلسطينيّ تهاوى تحت القصف. لم يغادر العنكبوت ومن خلال المرايا رأيت بقايا ضحاياه. زرت الطبيبة مرة أخرى فطمأنتني أنه سيغادر، ولا ضرر مادمت أمارس عملي وأعيش حياة طبيعية. ولكي أتجاهل أروح أتابع القنوات.
أرى جيدا
أسمع بكل وضوح وهو اليوم الرابع أو الخامس والثمانون للحرب
بين حين وآخر ألجأ للمرآة فأرى ضيفي القبيح في مكانه. أحيانا أشعر بهزات بيته فأعرف أنه اصطاد حشرة ما
ومرآتي اليدويّة التي أزوغ ببصري معها تساعدني على أن أجد في بيت هش مشادٍ في أذني بعض بقايا الحشرات.
هل أصبحت منفى للحشرات الميتة؟
أم
مزبلة ؟
مرّ أكثر من شهرين مع ذلك مازلت أواصل مشاهدة الأخبار.. ثم انام على جنبي الأيسر في انتظار أيهما يغادر قبل الآخر الحرب أم العنكبوت؟
2
لم أشعر بقيح في أذني
ولا خدوش...
والحرب التي ربطتني بالعنكبوت أوّل يوم للجؤه في صيوان أذني لمّا تنته بعد.
قد تكون هي المصادفة.
من قبل لم أكن أراجع الطبيب
لا أتذكّر ماعدا بعض اللقاحات التي عملها لي أبواي بعد ولادتي وبقيت محفوظة في ورقة قديمة..
ويبدو أنني لا أشكو من علّة ما.
حتّى طبيب التلاميذ الذي يزور مدرستنا أبدى إعجابه بصحّتي، أمّي وضعت الملح في جيبي خوفا من الحسد، والعين الحارقة، طبيب الأسنان تحايلت عليه، كانت الطبابة الحكومية جنب المدرسة، بين فترة وأخرى يأتي المدير يسأل إن كان هنا من يشكو من وجع في أسنانه، ثلاثة تلاميذ من صفنا رفعوا أيديهم، فجاء الفراش وصحبنا إلى العيادة، لا أدري. اغتنمناها فرصة لنزوغ من المدرسة بعض الوقت، وحين جاء دوري وضع الطبيب الآلة الكاشفة أمام فمي، وهتف بلهجة حادة: كذّاب إذا فعلتها مرّة أخرى سأقلع جميع أسنانك.. الحكمة نفسها ألقاها على مسمع الجميع.. دخلنا الصف وتنفسنا الصعداء حين علمنا أنّ المدير غادر إلى مديرية التربية في شغل.
نجونا من عقاب آخر...
منذ جلوسي على المقعد عند طبيب الأسنان لم أراجع طبيبا
لكن
هذه المرة
تختلف تماما، قالت لي الطبيبة: من الأفضل أن تدعه وشأنه فهو لا يقدر إن يتوغل داخل الأذن وإلا ستقتله مادة الصمغ المرة، وعليك أن تضع في الحسبان على الأقلّ أن يكون من النوع السام فلا تحرك يدك نحوه (ذكرّني تحذيرها بشريط قديم لممثل لم أعد أذكر اسمه انتبه وهو مستلق على ظهره لعنكبوت حطّ على إحدى يديه.. ظلّ في حالة صنمية وكان يلصق إصبعه الأوسط بإبهابه لينقر بحركة مفاجئة سريعة العنكبوا فيبعده)
وقد تجرّأت على أن أمد يدي إلى أذني فلم يتحرّك العنكبوت ولم تتمزق الشبكة بل تساقطت على راحة يدي بقايا بعض الحشرات من كسر أجنحة وأرجل..
أتغاضى عن أن أكون حوضا للنفايات.
بإمكاني أن أرفع يدي وأهشّم الشبكة، سيضطر العنكبوت إمّا للولوج في أذني فيموت من مرارة الصمغ، أو يقفز إلى الخارج، فأسكت عنه مؤقتا لأنّني أرغب في أن أعيش هذه التجربة الجديدة.
أعاشرها
أحياها من دون ملل.
في الوقت نفسه أشعر أنّ عليّ أن أتجاوز الماضي فأراجع الطبيب..
أتابع وضع أذني
فأتأكّد...
مرّة أخرى.. زرت طبيبا جراحا ذا خبرة بالأورام والتشوّهات. لا أظنّ الوضع الجديد أثّر في سمعي، فمازلت أميّز الأصوات وأسمع أخبار الحرب بشكل يوميّ، هناك جنود يقتلون وضحايا يسقطون، ومثلما بنى العنكبوت بيته في أذني بداية الحرب أظنّه سيغادرها إذا توقفت الحرب.
أعود أتساءل أيّة حرب؟
غزة
أم حرب إيران وإسرائيل.
لو كانت الحرب هي الواعز افذي حرّك العنكبوت نحوي لكان يمكن أن يفعل ذلك خلال أيّة حرب سابقة.. في الحرب العراقية الإيرانيّة.. كنت شابا.. وقبلها في عِزِّ ّصباي خلال حرب الايام الستة بين العرب وإسرائيل أو الحرب الأهليّة السورية.. لابدّ أن يكون هناك شئ ما أكبر من الحروب، ولكي أتأكّد من شكوكي، وقفت أمام المرآة الطويلة التي تزين خزانة ملابسي، لففت رأسي باتجاه الشمال وزغت بعينيّ نحو أذني.. حشرة ما تقترب من رأسي.. العنكبوت يقبع في الجهة البعيدة من الشبكة.
أراقب بحذر
يراقب ويتأهّب
المرآة تقول إنّ حشرة ما ذبابة أو دبّور تقترب من أذني تدور حول الصّيوان
تلفّ
أسمع بعض الأزيز
لا أستطيع أن أمدّ طرف عيني طويلا باتجاه أذني
أحس بحركة قوية
خرخشة
قد أظنّها حربا
دقيقة
لخظات
ويعود السكون من جديد
أريد أن أعرف شيئا ما عن الحالة الغريبة فالعنكبوت يجعلني أزور الطبيب للمرّة الثانية،
لا أدري
أحس ببعض الذبذبات والحركة في أذني
قد تكون هناك بعض الهزات الخفيفة أعرف منها أن المعارك كانت بين ضيفي وحشرات صغيرة مثل الذباب والبعوض والبرغش بعكس المعركة الأخيرة التي سمعت هزاتها بوضوح.
مع كل التوقعات أردت أن أحوز على بعض المعلومات قبل زيارتي الثانية للطبيب الجراح.
كتبت في الشبكة العنكبوتيّة العنكبوت في الأذن:
جاءني الجواب:
لبضعة أيّام لكن ليس أكثر من أسبوع، قناة السمع ليست بيئة مثاليّة، فهي دافئة ورطبة، تفتقر إلى الغذاء والمساحة الكافية، أضف إلى ذلك أن نقص الأوكسجين والحركات الطبيعية للجسم يجعلان من الصعب البقاء، في معظم الحالات تدخل العنكبوت عن طريق الخطأ، أثناء نومنا، بحثا عن مأوى مؤقت، إذا لم تخرج من تلقاء نفسهافقد تسبب إزعاجا أو ضوضاء أو حكة أو بعض الألم).
أظنّ أنّ هناك بعض المبالغة في الجواب على سؤالي، نعم بعض الإزعاج لكنني بعد مرور أسبوع أستطعت التكيّف مع الوضع الجديد.
والأغرب أن العنكبوت لم يمت في المساحة الضيقة.
3
قبل أن أذهب إلى الطبيب سبقني أمر آخر.
كنت صممت أن أزور الجراح الشهير كي أزيح وساوس راودتني حول إذني زادتها شهرتي التي لفتت الانتباه. في البدء ازداد فضول الناس وأخذ يزداد، أصبحت ظاهرة غريبة في البلد.، وفي اللحظة التي هممت أن أغادر البيت إلى الجراح، واجهتني شخص ما.. أنبق الملبس. واسع الابتسامة:
لوح لي ببطاقة في يده …
رجل أمن، وأشار لي بأصبعه أن اصمت...
منذ قدومي لهذا البلد القابع في الشمال لم يعترضني أيّ من رجال الأمن
عاملني باحترام طوال إل صحبىته لي. قال إنّها إجراءات لا بدّ منها، وحولني إلى رجل أعلى منه، كهل نحيف، أبيض الملامح بصفرة باهتة. استقبلني بلطف، تطلع في أذني، وأشار بيده إلى الشخص الذي أوصلني، هزّ الثاني رأسه وحضر اثنان. بإشارة من الكبير فخرجت معهما، كتب لي أحدهما على ورقة:
اصمت لو سمحت.. نأمرك بالصمت
شعرت بدبيب الشبكة، وحركة العنكبوت، دقائق ثمّ سكن كلّ شئ
تركني الرجلان الضخمان عند بعض الأجهزة وحضر آخرون... ثلاثة.. استداروا نحو أذني، سلطوا عليها بعض الأجهزة... شعرت يدف ءوبرودة، وأحسست بحركة الشبكة...
اهتزّت هزّات عنيفة أشبه باهتزازها من ضخيّة كبيرة
دبّور... خنفساء..
ثمّ سكنت
عندئذ عدت مع الإثنين الضخمين...
الرجل الكبير يأمرني بالجلوس، يكسر الصمت:
- كنّا نشتبه في أنها لعبة ألكترونية زرعتها في أذنك جهة ما... فأعرضنا عن الكلام حتّى قطعنا الشكّ باليقين.
ياسيدي لو كان هناك استهداف ما لاختاروا رجلا مهما يحتل منصبا... فابتسم الرجل للمرة الأولى:
- علينا أن نشكّ في البدء
أهناك من شئ يخصني؟
- أبدا تستطيع الانصراف
فنهضت متسائلا:
- هل تقترح عليّ إزالته؟
فعاد إلى سيرته الجادة:
- تلك مسألة تخصّ الطبيب (والتفت إليّ قبل أن أخطو خارج مكتبه): قد نحتاج اليك!
غادرت مبنى التحقيق وأنا مطمئن إلى أنّ العنكبوت في أذني ليس روبوتا زرعته شركة أو دولة لغاية ما، والحق لم يخطر على بالي الأمر منذ رأيته يغزوني.. شككت في أنّه روبوت ساعة رأيت المحققين يتحدثون بالإشارة، وها أنا أخرج من دائرة التحقيق وفي أذني كائن حيّ.
لم أتردد
مباشرة
قصدت عيادة الطبيب الجراح الشهير. كان كهلا في الستّين من عمره. نهض مرحبا بقسمات باردة، تمعن في أذنيّ كليهما، بعينيه المجرّدتين، وقف برهة عند كلّ أذن ثمّ توقّف أمام صاحبة العنكبوت، مسك أعلاها برفق وقرب منها عدسة تكبير الرؤيا. سألني ياستغراب:
- منذ متى احتل أذنك؟
- قرابة شهر أو أقلّ
- وماذا كنت تفعل.
- ظننته يبقى بضع دقائق أو ساعات ويغادر!
- نعم!
- ثمّ طابت لي اللعبة..
- لعبة؟
- نعم؟
- بالتفصيل لو سمحت، فكلّ حرف تقوله بنفع الطبيب وينفعك!
- مثلما ألتذ بمشاهدة مباراة في كرة القدم أو مراقبة مسرحيّة.. راودتني فكرة أن أعايش وجود العنكبوت في أذني، وأستمتع لضجيج الحشرات فأصبح معه طرفا في اللعبة.
- لقد لفت ظري شئ مختلف تماما...
خطر؟
- أبدا لا
لكن ما هو الشئ المثير.
- العنكبوت حين تبني بيتها على الأرض تستقرّ في وسط الشّبكة، أما حين يصحبها رواد الفضاء ليجروا عليها التجارب فأنها بعد أن تنسج شبكتها فإنّها تستقرّ في أعلاها إن سلوكها في إطار الجاذبية الأرضية يختلف عما هي عليه في الفضاء.
- وماهو السر
- لا أعرف؟أما ما رأياته فإنّ العنكبوت في أذنك أعلى الشبكة . !
- بغض النظر عن الأرض والجاذبية إنّي أندهش لم اختارني العنكبوت من دون خلق الله؟
- لأنك تسمع أكثر مما ترى ربما لا تدري أنك في عصر يرى أكثر مما يسمع!
بعد فترة صمت:
- ماذا لو غيرت رأيي ذات يوم وطردت العنكبوت؟ هل هناك من نتائج تضرّ؟
- لن تقدر إنه أصبح جزءا من أذنك. التحم بها وأصبح منك. هذه هي الطبيعة بدأت تتحرك نحونا بعدما كنا نتحرك نحوها.
صدمة مفاجأة
شعور بالألم يجتاح جسدي:
- سيدي لا أخفيك سرا إنه الفضول ولا أخفي أني زرت طبيبة المركز الصحي فطمأنتنتي وكان أبعد احتمال أنّه إما يغادر أو يموت!
- لكنه استعصى وأصبح جزءا منك!
أدركت أنّ الوقت انتهى ولاشئ يمكن أن أقوله، وليس عنده من شئ فنهضت وشدّ على يدي مصافحا:
- عليك أن تسمع بأذن واحدة وتتقبل الوضع الجديد برحابة صدر، وأتوقّع أنّك ترفض قبول بعض الأمور الآن وسوف تسعى إليها في المستقبل.
- أهناك مانع أن تذكرها لي الآن.
- بكل صراحة، الطبيب الجراح لا يخدعك إذا نصحك أن تذهب إلى طبيب نفساني.
- ثق سيدي أني سأختصر الزمن وأسعى منذ الغد لما نصحتني به.
4
لا أشكّ أنّ هناك شيئا غير عادي فلم أرفض زيارة الطبيب النفساني بحجة أن أكون مشبوها بالقلق والجنون، .. حالتي تختلف تماما، فمن يرفض يعان من إحساس داخلي، أما حالتي فتتلخّص بشئ خارجيّ محسوس بعيد عنّي كلّ البعدغزا جسدي فتصوّرته لعبة، وإذا به يصبح جزءا منّي، فلأكن جريئا... لأكن صريحا لا لأعرف نفسي فقط بل الشئ الذي داخلني وفي أسوأ الاحتمالات: هل يمكن لأشياء أخرى لا تخصّ الحروب والعنف تجتاحني في المستقبل؟
الطبيب الشاب الوسيم بعد حديث قصير عن اسمي، وعملي، والتحقق من حال أذني، وبعد المرور على رأي طبيبة الصحة والطبيب الجراح، أخذ يعاين بدقة أذنيّ كلتيهما السليمة وذات العنكبوت، تساءل كأنّه يحدث طفلا:
- إذا حطت ذبابة على أنفك ماذا تفعل؟
أجبت بتقزز:
أنشها.
- أو بعوضة.
- ماذا يادكتور لست طفلا
فقاطعني:
- حسنا تلك هي الخطوة الصحيحة، أريد أن أعيدك إلى زمن الطفولة، زمن ماقبل الحروب، أيام اللعب.
صمتُّ مقتنعا، وأردف:
- يمكنك الآن أن تسترخي على أريكة الفحص.
أطفأ نور الغرفة وسحب الستارة فتحققت عتمة سرعان ماشتّتها نور أزرق دوار اجتاحت دوائره المتلاحقة السقف والفراش:
- استرح.. استرح.. استرخ
- نعم
أشعر بأزيز ناعم يشبه الموسيقى قادما من بعيد:
- هل كانت لك علاقة بالحيوانات؟
- الصغار في سني يربون القطط والحمام وبعضنا يصطاد العصافير والضفادع مجرد اللهو أو نطارد الكلاب بالحجارة!
- ربيتم في بيتكم كلبا أو قطة؟
- كلا
- والحشرات؟
أكره البعوض الذي يهتاج في الصيف والذباب.
ألا تحب الحشرات؟
أحب الفراشات.
والعناكب؟
لا أحبها ولا أكرهها يقول الناس إنها تخلصنا من الحشرات.
وبعد هل تتذكر ملامح أخرى؟
فاستسلمت للصمت برهة ونطقت:
- معلم درس الأحياء طلب من التلاميذ ذات يوم أن يأتي كل منا بحشرة، بعضنا جمع ذبابا. والآخر صراصير، أو اليعاسيب وأنا جمعت أكثر من عشرين فراشة حية.. كنت مثل الآخرين أمسكها حية.
سألني باهتمام:
وصفتها حينذاك ولا أذكر ماذا كتبت !
هل أخذتها حية إلى المدرسة؟
- حملتها داخل حقيبتي في صندوق وعندما فتحت الحقيبة وجدتها ميتة فرفعتها بملقط ووضعتها على المنضدة!
- من منكم جلي عناكب؟
- أحد التلاميذ لا أذكر اسمه!
- المعلم أخطأ كان يجب ألا يقبل من جلب عناكب... العنكبوت ليس حشرة الحشرات لها ستة أرجل و العناكب ثمانية. ؟
- هذا ما لا أعرفه إلّا منك!
- لا بأس.. لحظة عابرة.. تذكر.. في مكان ما غابة.. طريق.. منزل قديم.. لقاء طالت مدته.
قل لعل ماتكشف عنه ينفع.
إنّه يوم التوصية ياسيدي كنت أبصق على العنكبوت لم أقتله... لم أدمّر بيته أو أكون عنيفا مثلما يفعله الأطفال والصبيان مع الضفادع والوزغ ذلك اليوم عدتا إلى لعبة الطفولة لا أنكر أني كنت أبصق على شبكتها فتهتز لتظنها حشرة وقعت. أبصق برفق لئلا أهشّم الشبكة.. ولعلها تلحس قطرة بصاقي ، ذلك اليوم، انتظرت الوظيفة بفارغ الصمت، وحاولت قتل الوقت باللهو مع العنكبوت. أقسم أنّي جعلته وسيلة للفتك. بصقت عليه.
كيف؟
تحدثت من دون توقف والموسيقى اللذيذة تلاحقني:
5
التوصية
بعد جهد حصلت على توصية إلى السيد المدير الذي قيل لي إنّه يمكن أن يجد لي عملا في دائرته. حملت بطاقة التوصية، وقصدت العنوان. كنت أواجه، بعد دقائق موظف الاستعلامات الذي قال لي إنّ سيادته يأتي بعد ساعة.
ساعة من الانتظار القاتل تجعلني أفكر بوسيلة لقضاء الوقت. اتجهت إلى فسحة من النبات والحشائش عند الرصيف المقابل، وارتميت على أحد المقاعد الخشبيّة أحاول قتل الوقت بأيّة صورة كانت.
الوقت بدا مملا، ورتابة المكان جعلتني أهمّ بالعودة من حيث أتيت لولا حاجتي للوظيفة. لم يكن هناك من شيء يبعث في نفسي المرح سوى بيت عنكبوت يجثم بالقرب منّي. دائرة من الخيوط الرفيعة الرقيقة تتأرجح من الإعياء تحت هبّات النسيم بين جذع شجرة يوكالبتوس وحافة المقعد الخشبي. كان العنكبوت يربض في إحدى الدوائر البعيدة !
تذكرت أني، وأنا طفل، كنت ألعب معه. أخدعه. هكذا تصوّرت. والآن أرى الزمن حيوانا غير أليف ربما لعبي مع العنكبوت ذي العينين الخشنتين ينفعني في ترويضه. كنت أخدع صديقي القديم. أقترب منه بحذر ثمّ أرشق رشقة خفيفة من البصاق على حافة النسيج. ينتاثر الرذاذ، على أطراف الدائرة، ويهتزّ الببيت، فيتحفّز العنكبوت. ينتفض من سكونه، ويندفع بحماسه المعهود إلى رقعة البصاق الكبيرة، فأروح أقهقه ساخرا منه...
الآن لايجدر بي وأنا في هذه السنّ، أن ألعب مع العنكبوت لعبة أخرى. والدتي قالت ذات يوم إنّها من الألعاب القذرة. وأرى أنّها على حقّ، فما يحق لي من باب الذوق في هذه السنّ أن أعود إلى مشاكسات الطفولة.
رحت أبحث عن لعبة جديدة، كسرت غصنا تدلّى من شجرة يوكالبتوس، وبدأت أطارد الحشرات. وقع بصري على حشرة تجثم فوق ورقة آس، وفي لمح البصر هويت بالغصن عليها، ثمّ التقطتها من جناحها بين إصبعيّ، وتسللت بخفة وحذر إلى بيت العنكبوت، وصوّبتها نحوه....
كنت أقف على بعد خطوة أراقب ماذا يحدث. استقرت الحشرة، واهتزت دائرة الشباك، فتحفزّ صديقي القديم، وهمّ بالوثوب إليها... فجأة... وهذا مالم أتوقعه، وقف برهة، كأيّ إنسان يفكّر، أو يتأمّل، وعاد إلى مكانه غير مبال بالحشرة. رحت أبحث عن حشرة أخرى. لاحقت فراشة تطير عبر الممرّ باتجاه الساقية، وما أن استقرت على وردة خزامى حتّى هويت بالغصن عليها، وعدت أدراجي إلى بيت العنكبوت، فحدث لي مثل المرّة السابقة بالضبط. العنكبوت يتحفزّ، ينظر بعينيه الكبيرتين المتوعدتين... لحظة يتأمّل ويعود إلى مكانه.
هكذا كنت أجمع الحشرات وأرميها في بيت العنكبوت، وهو لمّا يفترسها بعد كأنّه لايعيرها أيّ اهتمام!
وفي آخر لحظة، لفتت انتباهي حركة ما. سمعت أزيزاً، فتوقفت عن مطاردة الحشرات. كانت هناك حشرة تقترب من النسيج، وهي لاتعي أيّ مصير ينتظرها. أخيراً وقعت في الدائرة وانقلبت تحيط بها الخيوط الرقيقة. هذه المرة انتفض ولم يقف أو يتأمّل. ارتسم مشهد الصراع أمامي: الحشرة ترفس بأرجلها وأجنحتها، والعنكبوت يدور حولها ينفث عليها خيوطه وحين سكنت حركتها دبّ من خلفها وراح يمتصّ بطنها.
تلك اللحظة شُغِلت باللعب مع العنكبوت عمّا يحيط بي. انتبهت إلى أنّ موعد المقابلة انتهى. كلّ الجهد الذي بذلته من أجل مقابلة سعادة المدير ضاع منّي أمام خيوط واهية ذكّرتني بلعبة من ألعاب الطفولة، وما عليّ إلاّ أن أبحث عن عمل من دون التفكير بأيّة توصية من أحد بعد الآن.
توقفت الموسيقى
فتساءل الطبيب
اختفت الدوائر الزرقاء، فنهضت وعدت إلى المقعد، فتأمل الطبيب وقال:
- لا أظنّ أن هناك أمرا يثير القلق.
- لست قلقا لكني أشعر بالندم كوني بدأتها لعبة تشبه ألعاب الطفولة فإذا بالشئ الخارجي يصبح جزءا لا يتفصل عني. يأكل لي وآكل له. نجوع نحن الإثنين، ونشبع.
- لا أرى أنك تحتاج إلى علاج. أذناك سليمتان حيويتان أكثر من أي عضو في جسدك.
هل من خطر؟
- كل شئ طبيعي وما عليك إلا أن تتعايش مع الحدث الجديد الذي حل فيك احتسبه مثل سنّ صناعي تزرعه في فكك ولا تنس أن الطبيعة أرادت أن تعبر عن حبها لك عبر العنكبوت!
- هل تظنّ العمليّة سهلة
- أتفق معك جرّب أن تتعايش ويمكنني أن أساعدك أتفق مع لجنة الأطباء أنّك أصبحت من ذوي الاحتياجات فلا يضايقك أحد.
تلك هي الصدمة وليست
المفاجأة
وهو بعض من
الخوف
كنت أقبل العنكبوت ضيفا يقيم لأجل غير معلوم وق استُثرت حين عرفت أنّه اصبح بعضا من جسدي
استفزّتني الرؤيا الجديدة
هل أفقد أذني ذات العنكبوت؟
فإذا ما استأصلته هل تعود إلى سيرتها الأولى؟
اللعبة اختلفت
تحولت إلى معادلة جديدة
في جسدي شئ يحب القذارة
قريب من رأسي
ليس ببعيدٍ أن أصبح هدفا لحشرات أو حيوانات أخرى تريد أن تحتلّ جسدي.
من قبل سمعت أكثر مما رأيت
ربما أكون انحزت لسمعي أكثر من بصري والطبيب الجراح أجرى عليّ فحوصات شاملة:
العين
الأنف
الأعضاء الأخرى كلها سليمة
وفي الزيارة الثانية انكشفت خبايا لاتخطر على بال.. منذ يومين فقدت شهيتي.. أشعر أن معدتي ممتلئة حتى عرفت ان العنكبوت في أذني يأكل لي... مثل الأم التي تتغذى فيتسرب الطعام إلى طفلها.. معدتي اكتفت... أصبحت زائدة لا فائدة منها.. وأصبح طعامي مجموعة من الحشرات..
إني آكل ذبابا
وفراشا وصراصير
قذارات كثيرة..
- لم لا تغير الأجواء؟
أشار عليّ الطبيب:
- يعني؟
- أن تسافر مثلا.
بمعدة زائدة؟الماء نفسه لم أعد بحاجة له!
بضعة أيام...
رجعت إلى الحاسوب أبحث عن رحلة قصيرة، بعد دقائق من البحث توقف المؤشرة عند رحلة أمدها عشرة أيام في منتجع بجزيرة (رودس) حيث المنام والطعام الذي لست بحاجة له |.. قلت أجرب لعل أرى وأستاف أشياء أخرى جديدة علي غير التي كنت أسمعها!
هذا ماحدث بالضبط بعد أقرت اللجنة كوني من المعاقين!
***
القسم الثاني: رودس
أخيرا
بعد بضعة أيام
مارست الرحلة الأولى
هبطت رودس
بين بحر مرمرة والمتوسط أصبحت
كان المنتجع جميلا بشرفه الممتدة بين الشارع الفرعي وحقل الزيتون الذي يحاذيه من جهة الغرب، وحين أقف من شرفة غرفتي أرى على بعد قريب بركة السباحة التي تعج بالحركة فتزدحم بفتيات وفتيان أحبوا تاماء والشمس. وكان الساحل على بعد مسافة يسيرة من شارع المنتجع الذي تتناثر على جانبيه أشجار الزيتون والبردي والدفلى. ثمّ تقاطع الشارع العام فموقف الحافلة لأدخل بعدئذ طريقا قصيرا على جانبية حقل فلفل وخيار ينتهيان ببعض البيوت.
منظر مهيب أوصلني إلى الساحل
مع ذلك لم أجرؤ على العوم خشية على أذني أمّ العنكبوت.
كنت بعد قدوم الضيف الذي التحم بي أمسح شعري بالماء. وأشطف وجهي. اضطر أن أغتسل من رقبتي إلى قدمي.
ربما فكّرت أن أغطي أذني بغطاء لا يتسرب منه الماء... راودتني الفكرة فأعرضت.. خشية من أن يتوغل العنكبوت في أذني أو يختنق فيموت، فيسبب لي مضاعفات مزعجة.
أصبحت حركتي مع الماء محدودة.
وصلت الساحل.. تمتعت.. بمنظر المتزلجين على الماء والأشرعة.. جلست بعيدا أراقب رجالا ونساء وأطفالا مفتونين بالماء والموج..
خانتني الشجاعة في أن أنزل إلى الماء، وواسيت نفسي بالشمس التي بدت ساطعة قبل أن تهبط من جديد إلى الماء بوقت بعيد.
كنت قبل أن اصل جزيرة رودس أنفر من الطعام..
أكتفيت بما يأكله العنكبوت، أما هنا في رودس فكان المنتجع يقدم كلّ يوم ثلاث وجبات.. ألتفت في مرآة الحمام إلى أذني، وأوحت النظرة الجاذبية التي لملمت المشهد.. لمحة ارتدت إليّ، بشبكة في أعلاها يصحو أو ينام الكائن الصغير المرعب.
لم تعثر عيناي على بقايا حيوات.
رحت أشعر بالجوع..
جوع حقيقي.
مضاعف...
كنت أقف في الطابور السريع حيث امتدت أمامي أصناف الطعام... سجق
بطاطا.. لحوم..
خبز يبهر العيون
مقبلات
حلوبات
زيتون
كأنّها الجنة الموعودة..
هي أشياء ترى ليست جديدة عليّ إذ سافرت من قبل وحدي، ولربما كان نظري أقوى من سمعي فلم أنبهر بها، ومارأيت الآن يدلني على ألا آكل لي وحدي.. كان العنكبوت المخبوء في أذني ساكنا طول الرحلة التي امتدت بالطائرة أربع ساعات.
لا أظنّ أحدا التفت إلى أذني منذ وصولي المطار وركوبي الطائرة إلى الآن....
لم يتحرك
أقنع نفسي وأضحك في سري من أين يدخل الذباب في الطائرة، من أين تأتي الحشرات، أظنّه جائع مثلي!
اخترت منضدة تسع اثنين في مواجهة زرقة تنتهي بسلسلة جبليّة، رحت ازدرد الطعام واسمع طنينا خافنا في أذني. أراه رجع ثانية إلى حسابات قديمة، آكل يشبع، ويأكل فيشبع. الطبيب على حق حين قال لي إن الإنسان انفصل عن الطبيعة فصمتت عنه دهرا، أما الآن فقد بدأت تتجلّى نحوه لكي تلتحم به.. بدأت مشوارها من جديد لكي لا بقضي عليها الإنسان بجنونه المفرط.. اليوم أصبحتُ هدفا لعنكبوت، وغدا غيري يصبح مرمى لذبابة أو دبّور.. عقرب... سبعة مليارت تعيش على الأرض سبعة مليار هدف بنظر الحشرات.
أو
غيرها
من تحليات الطبيعة الأخرى
رقم هائل...
أنهيت جلب المرطبات، وحين عدت اعترضني رجل في الخمسين من عمره أبيض بحمرة.. تجلس قبالته سيدة شقراء، في الأربعين معتدلة القوام.. رشيقة ذات عينين زرقاوين:
- مرحبا!
قالها بابتسامة ودوددة.
- أهلا...
- إذن أنت عربي..
- كيف عرفت؟
من سحنتك وتقاطيع وجهك في مثل هذه الحالة ألقي بكلمة مرحبا فإذا كنت غير عربي لن تجيب!
سحبت كرسيا وجلست بينهما، وقال:
- زوجتي روسية تتحدث العربي’’عاشت معي في لبنان فترة، نحن الآن نعبش في ألمانيا
هززت رأسي مرحبا:
أهلا وسهلا
فقالت بلهجة عربية ذات لكنة
شكرا لك.
فقال الرجل من دون تردد، وهو يضع الملعقة جانبا:
- أنا من بيروت سنّي وأختي متزوجة من شيعي جنوبي والله لقد فرحت حين رأيت الصواريخ تحوّل بعض أحياء تل أبيب إلى أنقاض مثل غزة.. يلكن هؤلاء الحكّام الخونة...
عدنا للحرب ثانية، الحرب التي أدخلت العنكبوت في أذني... أكثر ممن حرب مرت بي.. 67.. 73 الخليج الأولى.. الثانية.. العراق.. سورية.. كلها تجمعت في أذني بشكل عنكبوت.. جئت هنا لكي أرتاح. زرودس جزيرة السحر والأساطير مع ذلك علي أن أكتم علامات الضيق.:
- ياسيدي العرب غير راضين لا عن إيران ولم يكونوا راضين عن الاتحاد السوفيتي الذي دعمهم زمن الشيوعية ولن يرضوا عن أيّ أحد.
فقالت زوجته بلغتها الغريبة المفهومة:
- لو كان الزمن زمن خروتشوف وبريجينيف لما تجرؤوا على فعل ذلك لا في غزة ولا في أوكرانيا
فابتسم ابتسامة واسعة، وقال:
- لا تقلقي البركة في بوتن أبي علي سيعيد أوكرانيا إلى بيت الطاعة!
حاولت أن أغير الموضوع:
- كم يوما ستبقى ها؟
- نحن غدا نعود إلى ألمانياصار لنا عشرون يوما هنا!
قد يكون التفت إلى أذني وتجاهل أن يسألني عنها.. ربما يظنه - فيما لو انتبه - جهاز سمع جديد أو تشوها خلقيّا غير أني أدركت أن الحرب تلاحقني إلى أي مكان.. مثل الموت.. في الوقت نفسه خَفِي عنّيِ أن سمعي أقوى من بصري حتى كشف الحالة الطبيب، ليست يداي ولا يصري أو حتّى رجلاي .. لوكان نظري هو الأقوى فأيّ مخلوق من مخلوقات الطبيعة يمكن أن يحلّ فيه؟!.. مع ذلك تفاءلت أن هذا الرجل الذي يتحدث معي بلغتي الأم هو آخر من ألتقيه هنا في هذا المكان الآمن.
نهضت، ومددت يدي مصافحا... فأخرج الرجل بطاقة من جيبه وَبَسَطَ إلّيَ يَدَه:
- اسمي وعنواني والإيميل آمل أن نبقى على اتصال.
شكرته وصافحت زوجته، ووعدته أن أتصل به، كان في ذهني أن أزور القرية السياحية القريبة التي وصفها لي موظف الاستعلامات وتحدّث عن مشهد تمثيلي يقدم في الساحة العامة. عدت إلى غرفتي، استرخيت ساعتين، في الساعة الرابعة وقفت في الشرفة أتمطى فوقع بصري على السيد ( واثق)وزوجته يتجهان إلى حوض السباحة كانت في المايوه.. وعن بعد تبينت جمال قوامها... حبب إليّ - والمسافة غير بعيدة - أنّ السنين لم تترك في جسدها أثرا ولم تبالغ كثيرا... لم ينتبها إليّ وطالت وقفتي لبضع دقائق حتى اقترب موعد قدوم الحافلة التي تمر كلّ ساعة فارتديت ملابسي وغادرت إلى القرية الصغيرة حيث المهرجان الصيفي والعروض المسرحية في الهواء الطلق.
بدت القرية بشارعها الضيق، وساحتها الصغيرة ودرجها الهابط إلى شارع فرعي آخر، بدت مثل مدينة كبيرة يمكن أن تبتلع العالم كلّه في بضع لحظات.
لم أشعر بالوقت.
انتبهت والغروب يهبط والشمس تعانق البحر إلى أني لم أر إلى الآن عنكبوتافي الجزيرة. لا شك أنه موجود، عيناي هما الغائبتان اللتان رآتا حشرات مألوفة تطير وتحط..، ربما شغلني الأكل. كنت آكل بنهم، وأتحدث مع جليسي بالعربية... غدا لا أحد يكلمني بلغتي الأم، ولعله يكتب إليّ ذات يوم.
سأظلّ أحدّث نفسي وهذا يكفي على الأقلّ من باب المواساة..
لا يهمّ
يمكن لصاحبي أن يحب حزب الله
إيران..
قد أختلف معه وقد أتفق
مع ذلك شعرت بالارتياح حين تحدثنا
لا عليّ.. مسحت على أذني حاضنة العنكبوت برفق فشعرت باهتزاز خفيف.
ساورني اطمئنان
فكرعت جرعة ماء، وقصدت مسطبة صغيرة..
بدأ الناس يتجمعون. أجانب ومن أهل الجزيرة، صدحت موسيقى، وصعد شباب وشابات، من حسن حظي أني وجدت مكانا فقد اكتظت الساحة بالحشود التي جاءت تتابع العرض.
قرية صغيرة بحجم العالم..
أغان لا أفهمها وأتفاعل معها.
رقصات تجعل جسدي يرتعش..
يصعد مقنعون.
يتصافحون
يتحاربون
سيوف ورماح
الحرب بصيغة أخرى.. حين أبصرت مصادفة حرب غزة اغتنمها فرصة عنكبوت فدخل أذني...
الآن
لا أبصر وجوه المتحاربين
آنسة تزعق
وأخرى تقهقه
أشعر بهزة خفيفة في أذني
رجل في السبعبن جالس جنبي يتابع العرض أظنّه يكلمني
لغته غريبة لكني أهمه.. ليست الإنكليزية، ولا العربية اليونانية بلا شك..
مع ذلك أفهمها بوضوح
....
العرض رائع هل تفهمني.
يبتسم ويهز رأسه:
...
أيّة معركة هذه..
لايعرف لغتي بالتأكيد، لكنه يفهمني:
معركنا كثيرة... مع الفرس.. الرومان.. معركة طيبة... معركة الآلهة، عليك أن تختار أيّة منها، فالتاريخ يعيد نفسه في كلّ لحظة.
.....
أنت على حقّ
في اليوم التالي جلست على مائدة الفطور. التقطتُّ جبنا وزيتونا وخبزا خفنة وقصدت وعاء القهوة.
الحق شعرت بجوع شديد، فابسمت
العنكبوت اعتمد عليَّ في هذه الجزيرة
لعله في يوم ما... ساعة ما لا يفَكِّر بالطعام
ليأكل اما يشاء بفمي
من الأفضل...
مع رغبتي في الأكل راودني فراغ لرحيل سائح وحيد حدثني باللغة العربية بتعبير آخر شخص اكتشفني.. مباشرة بعيدا عن المقدمات خاض في حرب الإثني عشر يوما..
سبّ الحكام...
وأمريكا
وإسرائيل
وتشفّى بالصواريخ الإيرانية التي جعلت بعض مبانٍ من تل أبيب أنقاضا مثلما حدث لغزّة
يمكن أن أختلف معه أو أتفق سوى أن دهشة اعترتني من داء الزمن الذي يسمونه مصادفة
مع أني لا أؤمن بالمصادفات
وحجتي التي لا تجد تفسيرا أن عنكبوتا قصد أذني وحدها
كانت إحدى العاملات الرشيقات تقترب من منضدة تركها عجوزان، تلمّ صحونها الفارغة.. ألقيت نظرة من خلال الزجاج على البحر وسلسلة الجبال واغتنمتها فرصةً لحظةَ دفعت العربة بمحاذاة منضدتي:
سلسلة جميلة أليس كذاك؟
- إنّه بحر مرمرة وأسطنبول هناك بواخر تبحر إليها من الميناء في مركز المدينة..
الدّهشة تراودني:
- كم يستغرق الوقت؟
- أقلّ من ساعة جرّب!
تأملت قليلا:
- لا أظن فليس في خطّتي جدول آخر. لكن لو سمحت.. هل تحبين... هل تحبين حضور العرض المسرحي معي الليلة في ساحة القرية.
- لا مانع لدي فعملي في المنتجع وقت الفطور والغداء.
- إذن إحسبي حسباك لن أتناول عشائي هنا في المنتجع !
غادرت قاعة الطعام ودار في خلدي أن ألفّ في المناطق القريبة أحدق في الحقول على جانبي الطريق وساحل البحر.. أبحث عن عنكبوت.. وأظنني تجاهلت رجلا قابلته البارحة حدثني بلغة لا أعرفها وفهمته وحدثته بلغة لا يعرفها وفهمني. فمن هو؟كان عليّ أن أسأله عن اسمه.. الليلة الماضية شهد العرض معارك وأقتعة.. غناء حزين وصراخ.. الليلة سأعيد الكرة لكن مع امرأة أفهمها وإن كانت تتحدث بلغة عايشتها.. ليست لغتي. وليست لغتها.. كيف تداهمنا المفاجآت.. سرتُ في الطريق نفسه.. دخلت حقلا مزروعا بالفلفل.. وآخر عبر يمين الطريق خيار.. لم تقع عيناي على عنكبوت... جالتا بين أشجار الخطمي والبطم واللانتانا وبهرني جمال البونتينا بزهورها البنفسجية وقامتها.. رأيت حشرات كثيرة.. البارحة تركت النافذة مفتوحة فجالت في غرفتي حشرة غريبة لفت ودارت.. كنت متثاقلا من أن أنهض فأطردها، لكن الآن وفي مكان أوسع لا أرى عنكبوتا.
هل هربت العناكب لتغزو الأماكن البعيدة...
للمرّة الأولى أشعر بقلبي يخفق. أتساءل أو يسألني غيري هل أحببت من قبل؟لم أكن أعرف الحب، تجاهلته، فأكتشف أمرا خطيرا، مع كلّ هزّة في الشبكة حيث لا حشرة تقع أعرف أنّي أكذب. هذه المرة لا هزة في الشبكة. فتحت عيني على المدرسة وجمع الحشرات، المعلم نفسه لم يقل إن العنكبوت ليس حشرة، وللطرفة أذكر أنّ أحدنا _أميّز ملامحه ولا أتذكّر اسمه- أحضر في يوم جمع الحشرات للمعلّم دودة أم أربع وأربعين... يقال إنها تدخل في الأذن، هذه الملاحظة نسيت أن أتحدّث مع الطبيب النفسي عنها.. وفي الحرب أو الحروب التي عاصرتها ولم أساهم فيها وجدتني ابتعد عن الحب، كلما اندلعت حرب وإن كنت بعيدا عنها نسيت الحب. الروعة أن ترى الرعب من بعيد ولا تكون جزءا منه..
كانت (أسترا) علامة جديدة ذكرتني بما نسيته، اهتزت شبكة أذني، فاعتذرت. علي أن أقول تجاهلت. نعم تجاهلت في الثالثة والثلاثين من عمري، وهي على ما أظن في الثانية والعشرين.
أشعر بفراغ كبير
لا أجد عنكبوتا في الجزيرة، وأرى حشرات أخرى، ماذا يحدث لو وقع بصري على شبكة بين أغصان الورود، هل يغار الذي يتربّص مقيما في أذني؟
جلست على البحر أراقب المتزلجين على الماء والأشرعة،، واتجهت نحو زحمة الساحل. بودي لو أستطيع النزول إلى الماء كما لو كنت من قبل قبل أن يأتيني الغزو. في الحمّام. أغطي أذني بمنشفة خفيفة، وأغسل شعري بحذر. ثم أرش الماء على رقبتي وجسدي.
أظن أنني أستطيع أن أدخل الماء أتوغّل فيه إلى صدري ولا أنزل بعيدا، مادام العنكبوت أصبح امتدادا من جسدي، فلا أدري ماذا يحدث لو اختنق..
جربت.
شعرت ببعض البرودة
وتوغلت.
وشوشة ما في أذني ولا اهتزاز.
تجرأت أن أدخل الماء إلى حدّ رقبتي ثمّ توقفت.
وفي الظهيرة وجدتها مع ثلاثة أخريات، ينضمن الموائد.
ابتسمت لي، فبادلتها بابتسامة.
التقطت. سمكا، ومرقة فاصوليا، وبعض الللبن. ملأت صحنا آخر بتفاحة وكمثرى وحبة مندرين وجدت منضدة فارغة في منتصف قاعة الطعام، كانت تروح وتأتي مثل نحلة سكرى. رفعت لها يدي فقدمت مبتسمة:
- سآكل بشهية كبيرة فقد كنت في البحر.
- صحة
- لا تنسي سأنتظرك في ساحة العرض بالقرية هل يناسبك الساعة... السادسة
- أوكي
وانصرفت.. عنّي إلى عملها..
فرح يغمرني..
لوكنت كاذبا لاهتزت الشبكة من دونما حشرة، وهنا أنا آكل لي وللعنكبوت حتى لا يجري في دمي غذاء آخر من بعوض وذباب.
أكلت
وأكلت
التهمت الطعام بشهية مفرطة
وتمتعت بالآيس كريم...
بلا شك مرت الساعات ثقيلة، حاولت أن أغفو، لسخونة الطقس تركت باب الشرفة مفتوحا. شعرت براحة تامة، وأدركت أن الوقت للحب وإن جاء متأخرا فهو ما كان ينقصني.
نشوة
ارتياح
شعور بالزهو...
انتصار من دون التحضير إلىحرب وقتال...
غادرت المنتجع إلى موقف الحافلة ـووصلت إلى ساحة القرية قبل ساعة.. جلت في الطريق الضيق وأبصرت تغيرا في الساحة.. هناك حركة.. بدأ الحرّ يخفت.. عبرت الساحة من عند الدرج الهابط إلى الشارع الضيق الموازي الذي يكتظ بأشجار الليمون..، استدرت في نهاية الشارع.. صاعدا إلى الشارع العام حيث تجلس امرأة ضخمة الجسم خلف منضدة صُفّت عليها جرار تنادي بنغمة هادئة.. عسل طبيعي حالما اجتزت مسطبة العسل، رأيتها تتهادى مثل حمامة باتجاه الساحة الصغيرة حيث المهرجان. كانت ترتدي قميصا أبيض يكشف عن ساعديها وتنورة طويلة طراز طبعةَ الورد باللونين الأحمر والأبيض حثثت الخطى خلفها وحالما أصبحت على بعد خطوات هتفت:
- أسترا
التفتت إلي:
- هل جئت مبكرا؟
- وصلت قبل دقائق فهبطت الدرج ثمّ التففت من طريق آخر إلى الشارع العام...
- أعجبتك القرية؟
- هل أبالغ إذا قلت قد تكون الفردوس!
- هناك أيضا المدينة القديمة.
- يمكن أن نزوره اأيّ يوم إذا أحببت.
للمرة الأولى تلتقي عيوننا ونحن سائران:
- كما تشاء.
قلت كأنّي أتطلّع إلى زمن سرمديّ:
- كم شهرا تستمر حركة الناس والمهرجانات ؟
- موسم السياحة من حزيران إلى منتصف أكتوبر.
- ماذا عن المنتجع؟هل يتحوّل إلى مشتى؟
- يغلق.
تنتهي الضجة.. الحيوية.. الصخب اللذيذ، ولا أتصوّر كيف يكون لون الشتاء...
وصلنا إلى الساحة التي بدأت تكتظ بالناس، من حسن الحظ وجدنا كرسيين متجاورين في الصفوف الخلفية. الم أزاحم ماريا فأسبقها، كانت تتقدمني فتجلس عن يميني.
أذني العنكبوت
هل أثير فضولها.... طول الطريق جعلتها عن شمالي...
كان معظم النظارة من الأجانب وبعض اليونايين السياح، ارتقت فتاة عذبة رشيقة المسرح، وصدحب موسيقى، فراحت الفتاة تتحرك برشاقة ثمّ توقفت الموسيقى وكفَّت عن الرقص ليرتقي، شاب، فيبدأ بالغناء، مالت على أني فاعترتني خيفة من أن تلمح من بين ضباب الأضواب مافي أذني:
- أغنية لمطرب يوناني.. الشاب المغني أعرفة من رودس.
لم يبن على قسماتها أي انفعال فقلت مجاملا:
- يبدو أنّها أغنية جميلة:
فمالت ثانية تهمس:
ذهبت حيث تهمس عيناك لأوّل مرّة...
أين الحب حبي العذب
حتى يدفننا في البرد والصقيع
أَقْفَلَ الباب وضاعت المفاتيح
لديّ رغبة أكبتها.. رغبة أن أمسك يدها... شئ جديد لا أعرفه غير العنكبوت يجتاحني.. لا أستطيع أن أصفه.. بالأمس حضرت معارك بالأقنعة البارحة والليلة تبدأ مسرحية، الوجوه فيها، مكشوفة.. واضحة القسمات.. فتاة.. وأم... وشاب يحمل السهام.... يرمي السهام على فتيان وفتيات فيهيم كل فتى بفتاة.. وينسى الرامي فيجرح نفسه.
ملت عليها:
- أليس كيوبيد..
هو نفسه عندنا أوريوس..
لا أتذكر بقية القصة، بل عرفت كيوبيد يرمي السهام، هناك حركة.. فتاة تختطف.. لا أدري مايجري، وفي النهاية انكشفت الأنوار، فنهضنا، كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة:
- هل نتعشى؟
- كما تحب.
أشرت إلى مطعم قريب على الرصيف المقابل:
أ- تحبين البتزا؟
فأطلقت ضحكة قصيرة وقالت:
- هذا لا يبيع البيتزا.. إنها ريتزا.. جبن بالخبز.. حرف P في اللغة الإنكليزية R باليونانيّة
فضحكت من نفسي.. ومسكتها من كتفتها، مازلت أحتفظ بحدودي معها.. لا أريدها أن تهرب من حياتي مع أنّي أدري أنّها تجيد الإنكليزية.. وأنا أتحدثها غير أننا مثل الكومبيوتر.. مثل نظام Yotub لا نتحدثها بمشاعرنا ...
مجرّد مهارة..
قادتني إلى مطعم هادئ في شارع فرعي، قالت:
- لن تجد البتزا إلا في المدينة القديمة.
- مارأيك أن نتناولها غدا.
- هذا كثير
- ولا يهمك.
في نفسي أن ألمس يدها. أبحر في عينيها. لمت نفسي على أني هجرت المشاعر لأمر لا أعرفه حتى تجاوزت الثلاثين. قد يكون في حياتي السابقة جانب عبث.
إهمال...
إنبهار بما يجري من حولي.
لا أحب أن أتحدّث عن نفسي وعن الماضي، ولا عن أغلب الحاضر، ثلاث ليال انقطعت فيها عن أخبار العالم والحرب.. أريد أن أعيش بلا حروب.
بلا مشاكل
بلا ماض.
لتذهب الأحداث التي عشتها إلى الجحيم.
الحروب.
الأزمات الاقتصادية
الأمراض
الجوع.
قدم النادل، فتركت لها حرية الاختيار. وجاء بعدئذ يحمل بعض الأطباق، فنظرت إليّ بحنو وابتسمت:
- الدولما طبق يوناني مفضل.
مازلت أحبها، وأطبخها. شعرت بهزة في أذني
هزّة خفيفة. أظنّه راضيا.. هكذا خيل إليّ، أما الوعاء الثاني فامتلا بالزبادي والخيار والثوم.:
التزازيكي
أشارت إليه، فهززت رأسي مسرورا:
نسميه الجاجيك عندنا.
في نفسي أن أرفع لفة دولما إلى فمها. كثير من الرغبات أؤجلها، حرصا على المستقبل. لكن هل تظن سوءا بي حين ترى أذني؟قلت أقطع الصمت:
أمس كنت وحدي، حضرت معركة وكان الممثلون مقنَّعين، واليوم شاهدت معك رواية والممثلون من دون أقنعة.
فردت بابتسامة عريضة:
الحرب غموض، أما الحب فجمال وروعة، لا تنس أن الممثلين الأوائل كانوا يمثلون الحروب والمآسي بأقنعة.
فخطرت في ذهني فكرة عن نهاية لا أعرفها:
ماذا يفعل هؤلاء بعد الصيف.
لا شئ نبحث عن عمل آخر وبعضنا يتحول على نظام المساعدات.
وأنت؟
أنا جمعت نقودا لا بأس بها سأذهب لأسجل في الجامعة بأثنا قسم التاريخ.
أكلت بلهفة والعنكبوت ساكن.. ارتحت لروائح الطبخ في المطعم، ودقة الترتيب، وحضر الآيس كريم، فتساءلت:
أترغبين في شئ آخر؟
كلا من الأفضل أن نذهب؟
ممكن أن تتصلي بسيارة أجرة نسقلها معا فتوصلك قبلي ثمّ تقلني إلى المنتجع..
أنا أسكن في بيت أختي ليس بعيدا عن المنتجع! (وأضافت) زوجها يعمل بحارا على البواخر التي تتجه من المرفأ إلى تركيا فإذا مافكرت أن تعبر بحر مرمرة أخبرني!
- ربما.... ماذا عن غد؟
سأنتهي من دوامي الثانية أذهب للبيت ساعة.
نلتقي هنا في القرية؟
يمكنك أن تستقل الحافلة إلى القرية فآتيك عند البوابة الساحة الرابعة أ نذهب إلى وادي الفراشات ثمّ نقصد المدينة القديمة!
وهو كذلك. دلفنا في السيارة، وراحت المشاهد تتراقص في عيني؟ أذني اليمنى حيث الشبكة تقابل الساحل. الطائرات التي تقلع من المطار.. الأضواء التي تتراقص.. الحر الذي افتقدته في مدن الشمال.. الحب الذي عثرت عليه مصادفة..
دخلت بنا السيارة في شارع زراعي خمنت على ضوء السيارة الساطع أنّها أشجار زيتون وحشائش ورمان، كان الشارع لايبعد سوى مسافة كيلومتر عن التقاطع المفضي إلى الساحل القريب من المنتجع. وتوقفت بعد مسافة قصيرة أمام بيت في مقدمة بيوت تبيَّنت أنها لم تزد عن خمسة أوستة، هبطت ولوحت لي بيدها:
أراك غدا.
استدارت السيارة نحو الطريق العام. شعرت بحيوية ونشاط، وكدت أنسى العنكبوت. حركت يدي وضغطت ضغطة حفيفة نهاية شحمة أذني.
كل شئ على مايرام.
في الفندق استرخيت قليلا...
اضطجعت على ظهري، وغالبت النوم. كانت الليلة حارة، فتركت باب الشرفة مفتوحا، رددت الستارة الناموسية على الباب، وبقيت وحدي مع العنكبوت. هناك حالة جديدة.
حالة غريبة..
أفهمها ولا أفهمها.
حياة تجذبني عن الماضي إلى الماضي.
في بلدي غادرت مباشرة بعد أن لاعبت العنكبوت. قلت إنّي حملت توصية، وحين وصلت مبكّرا لمقابلة السيد المدير اغتنمت الفرصة فجلست في الحديقة، لكن بعد أن رأيت العنكبوت لا يأبه لرذاذٍ من بصقتي يهزّ الشبكة... غادرت المكان..
هذا ما حدث بالضبط..
ظننت لعبتي مع العناكب انتهت...
هربت
غادرت الحروب والخوف
القلق والخشية من االحاضر
رحلت إلى مدن الشمال
ولم يخطر أن لعبة بدأتها في الطفولة أو الصبا ارتدت عليّ
فما
أحسه الآن هو شعور بالدفء والحب.
بداية تعوضني عما فات
ماذا بعد؟
وسط الهواجس غلبني النوم، سكنت تماما، فذهبت إلى ساحل البحر. الوقت ضحى، والشمس ساطعة. لا أحد على الساحل غيري سوى ما يقع عليه بصري من جبال ممتدة على بحر مرمرة... نسيت العنكبوت، وقفزت إلى الماء.. ويبدو أنّي نسيت السباحة فوجئت بعمق البحر على الساحل. ضربت بيدي ورجليّ
لا أحد يسمع
وبين اليأس والأمل مددت يدي فأحسست بكف ناعمة تسحبني إلى الساحل. لم أر وجها بل عرفتها من ضحكتها... فسقطت على الساحل لأجدني أستفيق من كابوس البحر، والعرق يتصبب من جسدي....
العطش.. يباس فمي..
والعنكبوت.. يهتزّ هزة خفيفة...
فعرفت أني انقليت على جبني الأيمن.. إذ منذ مارست اللعبة اعتدت أن أنام على ظهري وجنبي الأيسر، فخطوت إلى المبردة.. ورحت أكرع قنينة ماء.
3
في الصباح رأيت إطلالتها عند الفطور
مريلتها البيضاء
لفة شعرها الحفيفة
رشاقتها وجدتهافي المطبخ مع عاملتين يتعاونَّ على توزيع الطعام في العارضة وعلى المساطب، كوب شاي، وبعض الجبن والبيض، وعيناي تحومان بين سلسلة الجبال والبحر، وخطوتها الرشيقة بين المطبخ وعارضة الطعام تسد النقص أو تجمع الصحون الفارغة.
كم كنت أشعر بالفراغ لو لم ألتقها.
أظنّ أنّي أكثر سعادة من الآخرين.
وعندما ختمت فطوري غادرت قاعة الطعام، وتوليت عن غرفتي.
لدي الكثير من الوقت.. حشود من الثواني والدقائق. والساعات.، البحر أمامي ولا أقدر أن أغطّ إلا إلى رقبتي.. خلَّفت المنتجع وراء ظهري وتجاوزت البيوت القريبة، قبل أن أصل التقاطع إلى حيث البحر، استدرت يمينا فعبرت أوّل سويرماركت، ومعرض السيارات القديمة فالمطعم السياحي
عندئذٍ
لاح لي الدرب الذي دخلته سيارة الأجرة البارحة، تخميني كان في محله.. أشجار رمان وليمون وعنب، وحين تقترب من البيوت عن يسارك محل مفتوح تكدست في واجهته ربطات من البصل الأخضر...
بيت أختها أوّل السطر..
ابتسمت لي السيدة من عمق المحل.. فبادلتها بابتسامة، وتمعنت في البيت جيدا.. حديقة صغيرة شجرة ليمون.. وباب في أعلاه رأس تمثال قديم.. ثمّ رجعت إلى الشّارع العام... تجوّلت في المحلات الثلاث القريبة من المنتجع.. ماذا يمكن أن أشتري.. قبعات، وميداليات.. سفن صغيرة من خشب ذات شراع.. وأخرى من نحاس.. تراث جزيرة عبر قرون... ترددت أن ابتاع شيئا غير قنينة ماء.. شراء أيّة تحفة يذكّرني باليوم الأخير.. الرحيل.. أحاول أن أتجاهل.. أحيانا من دون مسوّغات.. نتجاهل أو ننسى.. لو سألني الطبيب النفساني ماذا جمعتم قبل أن يأمركم المعلم بجمع الحشرت.. لتذكرت أنّه طلب منا أن نجمع أوراق الشجر نلصق ورقة في كل صفحة ونكتب وصفا لها.. جمعت ورق سدر وتوت.. صفصاف.. ورق ورد الجهنمي.. ورق الدفلى.. استحسن المعلم مافعلناه وعاتبني.. كان إنسانا لطيفا.. أنبني أن عدنا في حديقة البيت نخلتان ولم أقطف خوصة أضعها في الدفتر... الخوص أيضا ورق.. وكأنّ نسياني خوص النخلة دفعني لأن أفرط خلال الواجب الجديد في صيد الفراشات،
حقا رأيت نخلة صغيرة ذات ثمر صغير أخضر بين السوبر ماركت ومعرض السيارات القديمة..
كرعت نصف قنينة الماء وغادرت إلى البحر.
ارتحت للجلوس على الساحل.. بضع خطوات عن الماء...
المناظر تنسخ نفسها من دون أن تسبب ضجرا
سلسلة الجبال..
القوارب الشراعية
زوارق التزلج..
نساء بالمايوهات..
كل مارأره الآن يصبح في الشتاء سرابا
أطلالا لا أثر على الماء
مشاهد تسبِت مثلما تسبِت الدببة في صقيع سيبيريا!
هل يمكن أن أعبر هذه اللحظة بمعجزة ما الخريف والشتاء إلى صيف آت..
لقد بدأت أخشى البرد
والعتكبوت في أذني هادئ صامت!
قبيل الغداء عدت من البحر إلى غرفتي، ارتحت قليلا، وغادرني حين رأيتها الإحساس الهائل بالوحدة.. العنكبوت ظلّ في سكونه... وزعت ابتساماتي بينها والعاملات المنهمكات في خدمة القاعة.. هذه المرة اتخذت مكاني خارج القاعة في الشرفة تحت المظلّة.. جمعت أنواعا من الطعام.. واستمتعت بعد الوجبة بالآيس كريم.. كانت الحرارة بلغت الرابعة والثلاثين.. في النهاية قدمت العاملة ذات الأربعين عاما تجمع أطباق مائدة غادرها الزبائن.. ثمّ خرجت تدفع عربتها ثمّ بعد دقائق قدمت أسترا تحمل صحنا صغيرا فيه قطعتا بقلاوة:
البقلاوة قدمت متأخرة... هذه لك
شكرا.. (تسرعتُ) أسترا بيتكم ليس بعيدا من هنا هل تمانعين أن أنتظرك عند موقف الحافلة ؟
فابتسمت ابتسامة واسعة:
- يمكنك أن تشرب القهوة ثم نغادر!
_إدن اتفقنا!
غادرت الشرفة الملحقة بقاعة الطعام، وكانت ماريا منهمكة، في جمع الأطباق وترتيب الشراشف.. راودني وأنا أهبط، الدرجات أن أمرّ على مكتب الاستقبال، وجدت الشاب مارك الذي استقبلني أول يوم وصلت.. قلت: متسائلا
هل يمكن للسائح أن يدعو إحدى العاملات لمرافقته إلى إلى المعالم السياحية؟
هذا شئ طبيعي لكن أنصحك أن تتفق معها سلفا على النقود. وساعات العمل التي تقضيها معك..
هو الهاجس القاتم الذي وخزني، فلم أتحمّل حتىّ تبينته. هل ذهبت مع مشاعري بعيدا؟أشكّ أنّها عدت دعوتي لها ساعات عمل تنتظر أن أدفع أجرها. لقد جمحتُ إذن بخيالي إلى درجة أنّي أحس العالم خواء بغيرها على الأقل في الأيام الباقية لي من رحلتي، وماذا بعد. أنا في مدينة من مدن الشمال، هل تحقق في غضب الطبيعة بصورة عنكبوت ليدفعني إلى هذا المكان الدافئ.
استلقيت على سريري، انتظر الوقت، لكن الضّجر نكزني.
هاجس الخوف
هبطت إلى بركة السباحة. راقبت بلا رغبة فتاتين تتناولان الكرة وسط الماء وشباب، وصغار عند حوض السباحة الخاص بهم.
لايثيرني أيّ مشهد
ومازال عنكبوت أذني ساكنا، منذ أصبح جزءا مزروعا في جسدي لم يعد يهتم بالصيد وغواية الحشرات إلى شبكته.
غادرت البحيرة والمنتجع، عليّ أن أقضي الوقت، فأتأكّد من أنّه حب لا عمل.
هل اكتشفت عطشي متأخّرا؟
وصلت الساعة الرابعة إلى البيت، ضغطت على الجرس فسمعت الرنين ورأيت من فتحة الباب العلوية برقا يومض، وحالما انقطع الرنين انتهى البرق، فتحت الباب وخلفها طفلة صغيرة ذات وجه مدوّر في السنة الرابعة من عمرها.
- تفضل (وأشارت إلى الصغيرة ) ماريا ابنة أختي.
اجتزنا الممر المزدان بفاترينا اعتلاها تمثال العذراء وبعض الشموع، وصورة المسيح معلقة على الجدار إلى غرفة الضبافة فاستقبلتا سيدة ممتلئة القوام تضع سماعتين في أذنيها..، قالت كاليوبي.. أختي.... رحبت بي السيدة بابتسامة واسعة وكلمات يونانية لا أفهمها، انتقلت الطفلة إلى حيث أمها.. الشبه بينهما كبير وتكاد أسترا تنفرد عنهما بوجهها البيضوي وعينيها الواسعتين. وبلمحة عابرة رأيت صورة على الجدار تقابل الباب لرجل في االعقد الرابع، ممتلئ الوجه يرتدي ملابس البحر الزرقاء، اتخذت مكاني قرب المنضدة. قلت:
- هل هناك من شئ ؟لقد أوجست أمرا فقد رأيت وميضا يرافق صوت الجرص؟
غادرت الأم والطفلة صالة الاستقبال، وقالت أسترا:
- أختي ثقيلة السمع. أحيانا تخلع سماعتي الأذن حين تشعر باحتقان في أذنيها فتعتمد على ضوء الجرس الذي يرافق الرنين.
قدمت المرأة بالقهوة وكأس ماء، ونطقت فعقبت: تقول تفضل، وأردفت:
- سماعة أذن... ممتازة أحيانا تسبب التهابا.. أظنّ سماعة أذنك مزروعة أليس كذلك؟
ياللهول...
قد يكون من حسن حظي أن تراه جهازا يقوي السمع لا غازيا احتل أذني فأصبح بعضا منها.. منذ أن جئت إلى هذه الجزيرة تركت النت والبحث عن الأخبار. لا أعرف عن الحرب ولا يجذبني سوى الطبيعة والشمس والبحر.....
النت نفسه ضعيف في غرفتي ولا يعمل إلا حين أكون قرب مكتب الاستقبال
لقد تركت كل شئ ورائي..
لكنّ تصوّرها أراحني قليلا وعي تظنّ العنكبوت في أذني شبكة متطورة اقوّي سمعي الضعيق
وضعت فتجان القهوة جانبا:
أنا جاهز (التفت إلى سيدة البيت) شكرا للضيافة، ولوحت للطفلة بيدي...
راحت السيارة تنهب بنا الطريق ، وأنا أتجل المشاهد، المنحدر، التلة المغطاة بالأشجار، رصيف تتناثر عليه مساطب خشبية،، فاستقرت بنا السيارة عند باب ارتقت عليه لوحة Butterfly vally.، قطعت تذكرتين.. صعدنا درجات ليقابلنا جسران أحدهما ذو سنام.. أول نسمة قابلتنا هبت على شجرة خماسية الأوراق فتطايرت من بين أغصانها فراشات زاهية اللون عبرت من أمامنا وتأرجحت أخريات تعبر فوق رؤسنا الجسر إلى الشلال.
ترددت...
هل ألمّح لها عن أجور ساعات تقضيها معي.. أسألها هل عدَّت السّاعات؟
ترددت ثانية.
ههممت أن أضع يدي بيدها فأختبر إن كانت تحمل لي حبا أم مجرد خدمة بأجر فخانتني الشجاعة.. قالت:
- هو الوادي سنقضي ساعتين ثمّ نذهب إلى المدينة القديمة.
نظرت إلى ماء المجرى الذي يعكس خضرة الأوراق، لا أريد أن أتفاجأ، أشارت بيدها نحو شجرة ضخمة ذات أوراق إبرية تتداخل بين أوراقها التي تنشر على الجذع فراشات وتلتمّ بشكل كما لو يتجمع النحل على خلية عسل.. في هذه اللحظة انصرف ذهني إلى فراش جمعته ذات يوم فارتسم بذهني سؤال أخفيته: هل هناك في هذه المستعمرة فراش بشبه فراشة حنطتها لمعلم المعلومات، وأردفت سؤالي إليها بصيغة أخرى:
- أسترا لم أفهم السرّ في احتشاد هذا الوادي بالفراش دون سواه من أرض الجزيرة؟
فأجابتني بابتسامة فرحة:
- لذلك سموه وادي الفراش. !
- لعلها معجزة!
- ربّما فهنا يتكاثر... أغلبه يعيش ويموت في هذا المكان!
هواجسي هربت من كلّ مشهد
في لحظة انحشرت عند الشلّال الهابط من بين الصخر إلى البحيرة الصّغيرة، وفراش يطير جماعات لينتشر في فضاء المكان أشبه بالنجوم الساطعة في النهار أم حزمة متناثرة من الألعاب النارية ليلة عيد المبلاد، كانت هناك فراشة تستفزني..
تحطّ على جذع شجرة حور
وأخرى
تجثم قرب مساقط الماء تحرّك جناحيها كأنّها تمسّد الهواء..
لايهمني قطّ أن يكون كل ما أراه حلما..
وليكن العالم كلّه حلما
إلاّ أن أراها حقيقة
النقاء والهدوء اللذين بحثت عنهما
لا أريد أن يكونا حلما...
مقابل الحروب التي عاصرتها
والمآسي
ومارأيته من خراب ودمار...
والطبيعت التي اقتحمتني وصارت بعضي
أريدها هي
كلّ مافعلته مدفوع بإحساس العاشقين
فمعها
رأيت السلام
والأمان
والطمأنينة
لا أعقل أنها فعلت كلّ مافعلته من أجل ساعات تأخذ عنها أجورا
مع ذلك أجلت سؤالا خفت منه.
هل نغادر الآن؟
- كما تحبّ.
- تستدعين سيارة أجرة؟
- دعني أحاول.
رجعنا باتجاه المدخل، وقفت أمام كهل في الخمسين يدخّن على أحد المقاعد الخشبية في الفراغ المحيط بالبوابة، استقبلها بلطف.. تحدّثا باليونانيّة.. ضحكا، أخيرا هزّ رأسه، والتفتت إليّ:
- سيارة الأجرة من هنا إلى المدينة القديمة تكلفك 30 يورو الرجل الذي تحدثت معه أعرفه سائق إحدى حافلات السياحة التي جلبت سياح أحد المنتجعات وستقلهم إلى المدينة القديمة سنذهب معه.
- كم أدفع له؟
- لاشئ
هل هو الحب الذي دفعها، ربما، لا أتعجّل في المدينة حين ينتهي النهار ساعة نجلس إلى طاولة العشاء وتطلّ علينا المصابيح بسطوعها الأنيق، تواتيني الشجاعة.
تركتني أجلس جنب النافذة.. شعرت بخدر لذيذ وطمأنينة...
أغمضت عيني كمن يقبض على المناظر التي أمامه ببصرة ويحفظها من التشتت والتلاشي.
هنا ننزل...
بدأ الظلام يهبط والمصابيح تستفيق، أمّا المدينة فكانت تعجّ بالعابرين...
نزلنا في شارع ضيق عند موقف الحافلات وعبرنا بوابة إلى داخل سور ملئ بمحلات تبيع الملابس والأحذية، وكانت هناك مقهى ينادي صاحبها على كلّ عابر..
- تحبّ أن تشتري شيئا؟
- لمن؟
صديق؟زوجة؟صديقة؟
- أبدا لو كنت متزوجا أو لي صديقة لجاءت معي.
اجتزنا المحلّات لنخرج من الباب الخلفي، فطالعنا البحر، والشارع الواسع، وحشد البواخر:
- هنا يعمل زوج أختي فاسيليوس.
- الرجل الذي رأيته صورته.
- نعم.
عبرنا رصيفا عريضا تحتله كراس تتحلق بشكل دوائر حول مناضد، واعترضنا شاب يدعو بكل أدب العابرين إلى الطعام، فقابلناه بايتسامة، بعد خطوات واجهتنا ساحة مستطيلة تتوازى مع طريق الساحل، تحت أشجارها وأعمدة المصابيح انتشر رسامون شباب يعرضون لوحاتهم للسياح كانت فرصة لأدعوها إلى تناول الآيس كريم من كشك عند الاستدارة:
لنر أيّهما أطيب الأيس كريم هنا أم في المنتجع!
أوكي.
تناولت لعقة:
مارأيك!
- لا الصراحة هذا.
فضحكت:
- لا ذاك لأنك أنت تجلبينه لنا.
قابلتني بضحكة ولم تعقّب.
دخلنا المدينة القديمة فأحاطني عبق الماضي وتسللت إلى أنفي رائحته
الماضي الذي كانت تعج فيه بالحياة قبل قرون بقيت منه محلات تعرض ملابس وتحفا مذهلة، فوق تلك المحلات الأنيقة بيوت لا يسكنها أحد....
مذهلة قلت عبارتي وأضفت: تعجبني الشوارع الضيقة وعبق الماضي
وانبسطت أمامي سلع كثيرة.. هي نفسها التي رأيتها في مدن الشمال.. لا أنكر أن لها رائحة تعبق بالدفء..
قبعات
سفن
تحف تعبق بالماضي
ميداليات مفاتيح تحمل كل ميدالية حرفا أبجديا:
قالت تشرح لي بعض ما غمض عليّ
هنا كان يسكن أجدادنا تحصنوا في هذه المدينة وكان الأتراك يحكمونهم حتى كانت الحرب الأولى فجاء الإيطاليون وطردو الأتراك!
ابتعت ميداليتين واحدة تحمل الحرف الأول من اسمي والأخرى حرف اسمها الأول، لو تحقق ما في ذهني لتبادلنا بعدئذ الحروف:
وقفنا أمام مقهى امتلأت بالزبائن:
هل ترغبين أن نتناول العشاء في هذا المكان أم على البحر.
مثلما ترغب.
- إذن لنعود إلى المطعم الأول.
رجعنا من الطريق ذاته، كان هناك ازدحام القادمين إلى المدينة اضطرنا ومن خلفنا والعابرون أمامنا إلى أن نحشر أنفسنا إلى حافة الرصيف حيث الحائط ففتحة تنهي بنافورة وباب أثري مهجور، وعبرنا ساحة الرّسامين.. وصلنا المطعم والشاب لمّا يزل يقف على الرصيف ينادي على العابرين.:
حقا إني أشعر بالجوع؟
جلسنا متقابلين، فجاء النادل، طلبنا طبقي سمك، وبعض المقبلات، وذهب ليغيب بعض الوقت عندئذ أخرجت الميدالية التي تحمل حرف اسمها الأول:
- أسترا هذه لك؟
- جميلة شكرا لك!
وتجرأت فكسرت خوفي والتردد وقفزت على هواجسي، فقلت:
- هل تحسبين الساعات التي ترافقينني لكي أعرف كم عليّ من حساب قبل سفري.
فابتسمت بنشوة:
سجلتها في البيت لا تشغل بالك!
تماسكت
كلّ ما في داخلي ارتعش ارتعاشة خفيفة
لا أحس بحركة العنكبوت منذ أصبح جزءأً منّي
راودني زعل مثل زعل الطفولة.....
لقد خسرت الرهان على نفسي
قدم النادل يحمل صحني السمك والمقبلات، والتحلية، هززت رأسي أعرب عن شكري، وقلت:
- أسترا. أتعرفين أنّك خلال هذه الفترة القصيرة أثرت اهتمامي ومشاعري!
- أشكرك جدا.
- قد أبالغ أو أتسرّع إذا قلت لك أحبّك!
فعبثت يدها بالشوكة، وجرعت من كأس العصير:
- أنت فاجأتني!
- لا أبالغ في مشاعري بضعة أيام تعادل شهورا والحب لا يحتاج لوقت قصير!
فاالتقطت بيدها قدعة سمك، وقالت:
كلْ ألم تقل أنك جائع.
مضغت بعض السمك والخبز، فابتسمت بوجهي وتساءلت:
- ألم تحبّ من قبل؟
- لم يكن لديّ الوقت، كنت.. (توقفت عن الكلام أعرضت أن أقول كنت أتابع الحروب والقتل. أرى أكثر مما أسمع وعندما زاد سمعي عن بصري... ): شاء القدر أن تكوني أنت.
فصمتت قليلا ورفعت رأسها إليّ:
أنا.... العام القادم سأتقدّم للتسجيل في جامعة أثنا. قسم الآثار لقد جمعت مبلغا من عملي في المنتجعات وأعمالا أخرى، افكر أن أعود بعد التخرج للعمل في رودس.
لعلي قاطعتها:
- أوروبا مفتوحة أمامك، تستطيعين أن تعيشي معي هناك في مدن الشمال.
- مسألة لا أفكر فيها على الأقل الآن (ثمّ استدركت): هل تقدر أن تقيم مشروعا هنا في رودس أو أثنا؟
- قد يكون الأمر صعبا.
فقالت من دون تردد:
- يسعدني أن أرتبط بك لكن لا أظنّ أني أقدر أن أعيش بعيدا!
استفقت من حلم صنعته منذ بضعة أيام. حاولت أن أستبق الزمن فأراه بصيغة أخرى غير واحدة... نسيت أو تجاهلت كلّ شئ محتمل..
- هل تطلبن شيئا آخر:
- لا شكرا..
وعن غير وعي، أخذت يدها وطبعت عليها قبلة، فهمست بصوت خافت:
أشكرك
وزاغت ببصرها عني إلى الطريق، لتختفي عن بصري ضجة الشارع، والناس، والبواخر القادمة من بحر مرمرة، محملة بأجواء الشرق، لم نتبادل حروف الأسماء، ولم ألتفت إلى الطريق الموصل إلى بيت أختها المليئة حافته بأشجار الزيتون والرمان، وتجاهلت نخلة صغيرة مهملة عند حافة الشارع العام أمام معرض السيارات القديمة...
كأنّي خسرت كل شئ..
كانت الساعة تقترب من الثانية عشرة
فهبطت من من السيارة، وأعرضت عن أن أذهب إلى غرفتي في المنتجع، قصدت الطريق الجانبي إلى الشارع العام، وعبرت التقاطع، دخلت درب البحر.. فوصلت الساحل الذي همد منذ غياب الشمس
لا أحد معي..
سوى ضياء مصابيح خافت..
الجو حار والريح ساكتة..
ابصرت في البحر... واتخذت مكاني إحدى المساطب..
هناك معالم أخرى... الكنيسة الأثرية.. حصن القديس نيكولاس.. سيدة القلعة.. ينابيع كاليثيا.. قالت لي هناك مسجد من زمن الدولة العثمانية... هل ألغيها... ظننته الحب، فظهر لي بشكل ساعات عمل... وفي خضم الهواجس.. ونغمة الحزن أطلّ عليّ من حيث لا أدري شخص ما.. من البحر أم من جهة البستان قبل الساحل.. اختار مجلسه جنبي... حياني بلغة أفهمها ولا أعرفها.. وعلى الرغم من خفوت المصابيح وظلّ الشجرة الذي يحجب الضوء، تبينت وجهه حين التفت. إنّه هو نفسه الرجل االذي جلس جنبي في القرية الصغيرة بساحة العرض، واستعراض الحروب الأسطوريّة من قبل ممثلين مقنعين:
هذا أنت حسنا أنّي وجدتك هنا.
فهمت نبرته بوضوح، لم يكن غاضبا ولا مستاءً
- حسنا أنّك تذكّرتني.
فضحك ضخكة طويلة وقال:
بحثت عنك فوجدتك تبحث عن امرأة تشغلك عني.
قلت بضيق صدر:
- مالعمل الآن
لا بدّ أن تفهم... كان الناس إذا رؤوا الأسطورة من قبل يتحجرون.. أنت الآن آمن فأنت في بلاد الأساطير التي أصبحت حقائق.. لكن إذا خرجت إلى أيّ مكان آخر أوّل مايراك الناس تتحجر مادام العنكبوت بأذنك؟
أخذتني المفاجأة:
- ماذنبي أنا؟
- لأنكّ قبلت أن يقتحم العنكبوت أذنك وجدتها لعبة.. أحذرك.. حالما تغادر الجزيرة ويقع بصر الآخرين عليك تتحجر تصبح تمثالا.
جمدت في مكاني ولزمت الصمت.. لا قدرة لي أن ألتفت.. رجلاي تتخدران...
أشعر بنعاس خفيف
ثقيل...
لم أعد أشعر بما يحيط بي...
لا أدري كم بقيت على حالة الخدر والصمت لكنني شعرت بدف مفاجئ وعطش وحرارة تلامس جبيني ففتحت عيني، فأبصرت الشمس أمامي على الطرف الآخر من سلسلة الجبال...
استعدت أنفاسي..
لم يشغلني الحرّ ولا تيبس شفتي... ولا أفكر إلا بالعنكبوت الذي التحم بأذني... صدقت تماما الرجل الحقيقة الأسطورة الذي قال لي أني سأتحجر حالما يراني الناس الآخرون خارج الجزيرة، فوضعت يدي على أذني، وهمست:
أسترا!
ملحق
عندما عدت إلى الشمال تاركا سعة الحرّ خلفي، شعرت بعد يومين أو ثلاثة في خدر بأذني.. تنمّل بشبه خدرا تتعرض له من إبرة تخدير موضعي، وقد اتسع الخدر بعد بضعة أيام، زرت الطبيب الجراح ففاجأني أن العنكبوت مات وتعفّن في أذني، والورم بدأ يسري في، لابدّ من أذهب إلى المشفى...
لا حلّ سوى أن أرقد على ظهري...
لم تعدّ الجراحة تنفع...
كنت أرقد على السرير . يزورني. زأطياء.. ويمرّ عليّ ممرضون وممرضات.. كبّ يوم أشعر بخدر يتسرب إلى جسدي....
نصفي الأيمن تحجّر تماما
إحدى الممرضات انصرفت إلى مرافقتي طول اليوم.. تحدثني...
تنقل لي الأخيار
وقد أشرت لها أن تفتح بريدي الألكتروني لأرى أن كانت هتاك رسابة من أسترا.. فتحت البريد الألكتروني، فاتصرفت عن رسائل الإعلانات، ولفتت نظري رسالة غريبة.
مازلت أعي
وغدا يتحجر كلّ جسدي فلا أرى شيئا..
وضعت الحاسوب برفق على صدري...
كانت الرسالة من واثق زوج السيدة الروسية...
أنا بخير.. آمل التواصل
وآمل أن تكون بخير
كانت تبك آخر عبارة ألتقيها من الآخرين قبل أن يتحجّر جسدي كلّه فلا أستطيع حينذاك أن أعي شيئا!
***
(رواية)
د. قصي الشيخ عسكر
4 \9 \2025