نصوص أدبية
مامند محمد قادر: العبور الفائت

في بلدة يلفُها الضباب، يعيش الناس منذ أمد بعيد في انتظار تحقق عبارة واحدة كُتبت بخط باهت على جدار شامخ عند مدخل البلدة: " عندما يحين الموعد، سأكون بينكم."
لا أحد يعرف من كتب العبارة، ولا متى. لكنها تحولت الى وعد مقدس، يتغنى بها الناس، ويحفظونها عن ظهر قلب، ويُخبئونها في صمتهم.
توقفت الحياة عند عتبة هذا الأنتظار. لم تُهدم الأسوار، لأنهم قيل لهم انه سوف يهدمُها بيده. لم تُفتح صناديق الاقتراع، لأنه دونما شك، سيكون هو القائد المرتقب. وتحولت الأحلام الى مخططات مؤجلة على رفوف الغبار.
نُصب له تمثالاً اِجلالاً. لم تُلق القصائد في المناسبات، بل خُبأت في حناجر الشعراء في أنتظار اللحظة المهيبة. الحلاق رفض قص لحى الرجال، قائلاَ: " حين يجيء، نريد وجوهاً مهيبة في استقباله. " أما الخياط فكان يخيط بدلات لا تُلبس، بل تُعلق في الواجهات، بأنتظار أن يختار هو ما تُليق به.
لم تُقدَم القهوة في المقاهي، بل وُضعت أباريقها على الطاولات كعلامة التهيؤ.
لم تُزرع الحدائق، لأنهم ظنوا أنه حين يجيء، سيزرع بنفسه زهرة البداية.
كل ليلة، وحين يحل الظلام كان الشيوخ يجتمعون عند بئر البلدة، ويضعون فوقها خارطة قديمة، يقولون أن عليها علامات مروره.
وكان الشيخ ذو اللحية البيضاء يقول بصوت متردد كأنما يخشى ان يوقظ الزمن:
" اِنه بيننا، ربما فقط ينتظر لحظة مناسبة."
في مساء بارد دخل رجل غريب البلدة، بلا اعلان، بلا موكب، ولا طبول. كان يمشي على مهل، يتلفت بهدوء، كمن يرى أحلاماَ متجمدة. حدق في آثار أقدام اندثرت على الرصيف، في طيف الضوء المتسلل بين شقوق الجدران، وفي مصباح خافت يئن في زقاق خلفي.
وقف عند التمثال، تمعن فيه اِن كان يشبه أحداً !
اقترب من دكان الخياط، تطلع الى البدلات المعلقة مثل أجساد فارغة تنتظر أرواحها.
رأى الاطفال يخرجون من المدرسة، يحملون كتباَ ثقيلة بكلمات غائبة.
دخل بهدوء الى الساحة، جلس على المقعد الحجري في منتصفها، وكانت عيوناً تراقبه خلف النوافذ، صامتة، متوجسة.
تطلع الى الجدران، الى الساعة المعطلة، الى الأبواب المغلقة والنوافذ المحفورة بالخوف.
نظر الى العبارة القديمة على الجدار، قرأها متأمِلاً معانيها،
أحس بشيء غامض، كما لو أنَ الريح همست له: " انك هو."
لم يتكلم.
و لم يسأله أحد.
و لم يخرج احد للقائه.
و لم تُلق القصائد.
خيَم الصمت على البلدة، وظلت نائمة كما كانت دائماً، تنتظر.
و في الصباح، حين مالت الشمس على الجدار، كان قد اختفى.
لكن على الجدار نفسه، حيث كُتبت العبارة القديمة، ظهرت كتابة جديدة، بخط واضح، وصارخ في سكونه:
" كنتُ بينكم، لكن لم يستقبلني أحد."
***
د. مامند محمد قادر
شاعر وقاص عراقي كوردي