نصوص أدبية

سعاد الراعي: عندما يكون الفكر ثالثهم!

كنت أشعر، منذ اللحظة الأولى التي دفعتُ فيها باب القاعة، أن لهذا اليوم نبرة مختلفة، كأن شيئاً غامضاً يتهيأ ليشق صمته في الهواء. لم تكن الريح تهب، ولكن الجو مشحون على نحو غريب، كأن الجدران ذاتها تحبس أنفاسها في انتظار اشتعالٍ وشيك.

لم يكن موضوع محاضرتي اليوم مدرجاً ضمن الخطة الأكاديمية، ولا حتى من صميم تخصصي الدقيق، لكنه ظل يلحّ عليّ، يتردّد في مسامعي كلما عبرتُ ردهات الكلية، أو جلست برهة في ركن الأساتذة أثناء استراحة الصباح. كان سؤالًا يتكاثر همسًا في الممرات، ويُلقى عابرًا كجملة عابثة، لكني كنت أعرف أنه أعمق من أن يُترك بلا مساءلة.

جلستُ كعادتي، لا على منصة عالية، بل أمامها، كما أؤمن دومًا أن المسافة بين العقول لا تُختصر بالارتفاع. صوت حذائي الأسود يلامس الأرض اللامعة بخفة، كأنه ينذر القاعة أن اللحظة بدأت. وضعت دفتر ملاحظاتي أمامي على الطاولة، لا لأملي على أحد ما يُكتب، بل لأقيد على اللوح تلك الشذرات التي تولد من شرارة حوار أو لحظة وعي خاطفة.

هناك، في أقصى الزاوية اليمنى، كان يجلس الطالب سلمان. عيونه لا تتفرّس بل تترصّد. شابٌ في مقتبل العشرين، يقف بين حداثة السنّ وصرامة اليقين. ثوبه الأبيض مرفوع بعناية فوق الكعب، مكويٌ بعناية توحي بأن كل شيء فيه محسوب، حتى نبرة الوقار التي يثبت بها كوفيته فوق رأسه كأنها رايةٌ لا تُنكس، أو خط تماسٍ يحذّر من الاقتراب.

رفعتُ رأسي وقلت:

ــ " نبدأ اليوم بسؤال مفتوح: ما حدود الحلال والحرام في فضاء الفكر؟ وهل يجب أن نخاف من السؤال إذا آمنّا بالإجابة؟"

لم أكمل جملتي، حتى رفع سلمان يده. لم يكن يستأذن بقدر ما كان يشهر سيفاً.

ــ " استاذة… قبل أن نتوه في الفلسفة والمصطلحات، دعيني أسألك" أومأت له بابتسامة، لم أفقد بها هيبة اللحظة، بل وضعتُها في مرآة هادئة.

قال:

ــ " ما رأيك بحديث النبي ﷺ: ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهم؟ أليس في لقاء المرأة بالرجل، كما يجري في صفوفنا المختلطة، مدعاة للفتنة والريبة؟ ألا ترين أنكم، كأساتذة، تساهمون في تطبيع ما نهى عنه الدين؟"

أغلقتُ دفتري ببطء.

أحسست بنظرات الطلاب تنقلب فجأة، كأن الجميع استدار نحو مركز النار.

ساد الصمت. كان وقع كلماته كصفعة مباغتة في حضرة جمهورٍ يعرف أنني لا أتهرب من الأسئلة، خاصة حين ترتدي ثوب "الدين".

ــ نظرت إليه طويلاً، ثم رفعت عيني إلى الطلاب من حوله، وجدتُ في وجوه بعضهم تردداً، وفي آخرين انبهاراً، وثلة تنتظر "المعركة".

قلت بثبات وبنبرة هادئة، ولكنها لا تخلو من نصل الفلسفة

ــ "أولاً، لم يكن بيننا خلوة يا سلمان، نحن في قاعة فيها أربعون عقلًا يشهدون هذا النقاش. لكن دعنا نناقش المقولة… هل تعتقد أن وجود امرأة مع رجل يعني بالضرورة حضور الشيطان؟"

ــ "أنا لا أعتقد، أنا أؤمن بالنص. وإذا قاله الرسول، فالنقاش انتهى."

ابتسمتُ، ولكنها لم تكن ابتسامة لينة. كانت كسكين تلمع في ضوء الحجة.

ــ " وهل هو فعلًا حديث للرسول؟ ولنفترض جدلًا انه كذلك، فهل تعلم متى قاله؟ ولمن؟ وفي أي ظرف؟ النصوص يا سلمان، لا تُؤخذ مقطوعة من سياقها كأنها قطع من جدار. لو فعلنا ذلك، سنحوّل الدين من نور إلى قيد، ومن هداية إلى عصا."

رفع حاجبيه كأنني أجدّف.

ـ "يعني… تنكرين الحديث"؟

ــ " أنا لا أنكر، أنا استفسر وأفسّر. وهل تظن الشيطان مربوطًا بجنس المرأة؟ إن كنتَ تعتقد أن كل امرأة تحمل شيطاناً بين ضلوعها، كما يُلقّن بعضُ الخطباء من على المنابر، فاسمح لي أن أقول: الشيطان الحقيقي هو هذه الفكرة. هذه النظرة التي ترى في المرأة شرًا مؤجلًا، وفي الرجل مخلوقًا بريئًا وعاجزًا لا يصمد أمام أي نسمة أنثوية، تجعل من الرجل قاصراً عن مقاومة أي فتنة، وهذا ظلم له."

ــ " لكن... الفتنة واقعة، وكم من أخطاء بدأت بنظرة!"

ــ "وهل نمنع العيون أن تبصر كي لا تخطئ؟ أم نربي البصيرة على أن تختار؟! منطقك يُشبه من يريد أن يطفئ الشمس لأن بعض الناس يضلّون في وضح النهار."

تقدّم خطوة للأمام، صوته بدأ يرتجف بشيء من الانفعال.

ــ " أنا أتكلم عن دين! عن أوامر ربانية! وليس فلسفة بشر!"

رفعتُ يدي كمن يُهدّئ بحرًا:

ــ " وأنا أتكلم عن جوهر الدين، لا عن قشوره. الدين الذي جاء ليحرّر لا ليقيّد، ليوقظ العقل لا ليُسكته. رسول الرحمة، لم يمنع خولة بنت ثعلبة* من أن تشتكيه في المسجد، من أين جاءتنا هذه الجرأة على تحويل الدين إلى سجن يخاف فيه الرجال من النساء"؟!

يا سلمان، أنا لا أطلب منك أن تتخلى عن دينك، بل أن تُنقّيه من سوء الفهم، القرآن والنبي أوصى بالعلم والتعلم، فهل يخاف من عقل امرأة تحاور وتجادل؟ أليس النبي هو القائل: طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة؟ فمن أين جاء هذا الخوف إذن؟"

ساد الصمت... ثم تكسّر في صوت طالبة من الخلف:

ــ " الله! هذا بحق.. كلام يُقال!"

لم أردّ، فقط نظرت إلى سلمان، كان وجهه محتقناً، ولكنه لم يعد ذلك القوي المتماسك. شيء ما تهدّم بداخله، شيءٌ لم يكن كبرياءه، بل يقينه الموروث.

قلت أخيرًا، بصوتٍ خافتٍ كأنني أخاطبه وحده:

ــ " يا سلمان… من يخشى لقاء امرأة في قاعة علم، فليفتّش عن الشيطان في داخله، لا في عيون الآخرين."

ثم دونتُ في مذكرتي:

ــ "سألني: من ثالثنا؟

قلت:

ــ "عندما يكون ثالث اللقاء هو الفكر، لا الشيطان، ينتصر العقل على الوهم … وينقلب الصمت من الخوفٍ الى التأمل"

***

سعاد الراعي

.................

* خولة بنت ثعلبة، المرأة التي جادلت الرسول- ﷺ - وسمعها الله من فوق سبع سماوات، وأجابها في القرآن" سورة المجادلة" .

 

في نصوص اليوم