نصوص أدبية

عبد الرزاق اسطيطو: الطفل الذي شردته الحكاية

عندما ولجت زهور باب بيتنا المفتوح على مصراعيه، عانقت أمي بحب وهي تسألها عن الأحوال والأهل والأحباب، كنت عندها ما زلت نائما تحت بطانية سوداء خفيفة أشبه ببطانية السجناء، وحقيقة كنت مسجونا ذلك اليوم بسبب هطول الأمطار والبرد الشديد محروما من الخروج والاستمتاع بأشجار البرتقال المنتشرة على ضفاف نهر اللوكس المجاور لبيتنا... كانت ثيابي كلها قد تبللت بعد خروجي مباشرة من المدرسة، فقد كان يأتي علينا فصل الشتاء ممطرا وباردا وطويلا بلا كهرباء وبلا حطب ولا مدفأة، وأحيانا بلا مؤونة، وكانت متعتي إضافة إلى اللعب في البرك والمستنقعات وصيد طيور الدوري والحسون وجني البرتقال أن أنصت إلى حكايات أمي تحت نور الشمعة وصوت المطر والرعد عند انقطاع الكهرباء... جلست زهور قبالتي تساعدها أمي بوضع مخدة خلف ظهرها، ولكي أهرب من نظرات أمي وقريبتها بعد أن أيقظني صوتهما بدأت أتجول بعيني الناعستين متأملا شقوق جدران الغرفة ونوافذها ونور المصباح المشع فوق رؤوسنا وصورة جدي المعلقة على الجدار وهو يركب حصانا ويرتدي بدلة عسكرية، متخيلا ما عاشه في ظل الاستعمار الاسباني من حروب، ومعارك في الجبال والوديان... كانت زهور امرأة مليحة الوجه فارهة القوام والطول بعيون واسعة يشع منهما حزن لجراح عميقة أو قصة حب فاشلة، تخفي جمالها في جلباب بلون السماء وتغطي شعرها الأشقر بفولار أزرق غامق تنفلت منه كأشعة الشمس بعض الخصلات الذهبية..عندما تجلس زهور تقابل والدتي وجها لوجه لكي تتحدث معها بأريحية، وتكتشف من ملامحها ما أخفته أمي عنها من أسرار، وأحيانا لكي لا أسمعهما تخفض زهور من صوتها فيتحول الحوار بينهما إلى وشوشة وإشارات، وضحكات خفيفة... وهي ترتشف من كأس الشاي الذي قدمته لها أمي سألتني عن سبب عدم خروجي للعب مع أقراني، فردت أمي نيابة عني بأن ملابسي بللها المطر ولم تجف بعد وليس لي غيرها.. وبعدما انتهت من كأس شايها، وكمن تذكر شيئا نسيه، نهضت زهور من مكانها وودعت أمي بقبل حارة، بعد أن وضعت تحت وسادتي درهمين، ودست أوراقا نقدية في يد أمي وأقسمت عليها أن تأخذها وإلا لا قرابة ولادم يجمعهما، وودعتنا وهي تقول لي: "عليك أن تزورني غدا بعد الظهر لغرض ما" وتركتني سارحا كغزال باحثا عن شكل هذا الغرض ومضمونه... كانت زهور امرأة ذكية للغاية تحسب لكلامها وسلوكها ألف حساب... قلت لأمي سائلا:" هل لخالتي زهور أبناء؟ فأجابتني وهي تحرك رأسها بالنفي وأردفت قائلة :" لم ترزق بأبناء إنها وحيدة عمتي رحمة الله عليها وقد ورثت عن زوجها أموالا كثيرة وعقارات لا تحصى فزوجها كان من أغنياء البلد "..عند مساء الغد ارتديت ملابسي وحذائي البلاستيكي وقصدت بيتها كان المطر قد توقف للتو وبدت أشعة الشمس المنبعتة من بين الغيوم خجولة منكسرة، كنت أعرف طريق البيت جيدا فقد سبق لي أن زرته مع والدتي أكثر من مرة لكني كنت أبقى طوال الوقت ألعب بحديقته في انتظار خروج أمي، كان البيت فسيحا أشبه بقصر صغير يقع على أطراف المدينة حيث شيد الأغنياء فيلاتهم وبيوتهم الفخمة المطلة على بساتين البرتقال والنعناع المحادية لنهر اللوكس، وكان بيتها واحدا من هذه البيوت الفسيحة الهادئة المنعزلة... ضغطت على زر الجرس وانتظرت فتح الباب بعد لحظات أطلت علي زهور من الشرفة بوجهها المشرق وهي تطلب مني أن أنتظر قليلا حتى تنزل إلي، فتحت الباب وعانقتني بعد أن رفعتني قليلا من الأرض كعصفور وهي تقول لي:" أهلا أهلا بابن الغالي" ، وكانت لأول مرة تضمني إلى صدرها امرأة غير أمي فسرت في روحي قشعريرة زادها عطرها تيهانا وتشردا وضياعا، فسرت خلفها كجناحي فراش فتنه الضوء فتحول إلى رماد تذروه الرياح في كل الاتجاهات، أدخلتني غرفة نومها كانت الغرفة واسعة ومضاءة وهادئة، بها نافذتان واسعتان مشرعتان على المطلق بزجاج أندلسي يتدفق منه نور بألوان مختلفة، وستائر زرقاء شفافة مزينة بزهور بنفسجية وأسراب من العصافير الهائمة تحت شمس الغروب، وشرفة صغيرة تطل على الحديقة ومياه نهر اللوكس، وتقابلها مباشرة غرفة يظهر منها رفوف مكتبة يتوسطها بيانو بلون بني ومفاتيح بيضاء لامعة، كانت غرفة النوم مرتبة ومؤثتة بعناية فائقة وذوق رفيع ولمسة فنية ساحرة، وزينت جدرانها بلوحات جميلة.. ووجدتني مشدوها أمام لوحة فنية بها فتاتان صغيرتان جالستان قبالة البيانو مكتوب أسفلها الفنان بيير أوغست رينوار، لما رأتني شاردا في ملكوتها وأكوانها وسحرها الجارف كالشلال تركتني على هواي ولم تسألني كعادتها عندما تزورنا في البيت عن الدراسة ونتائجها، ولا عن والدي وأصدقائي وإخوتي، ولم أنزل من سمائها إلى جنانها على الأرض إلا بعدما وضعت كأس الشاي المنعنع الدافئ بين يدي الصغيرتين وهي تقرب مني بلطف ومودة مائدة سوداء مستديرة الشكل لكي تضع عليها ما لذ وطاب من الحلويات والعصائر.. لم تسألني إن كنت جائعا أوعطشانا أوعاريا، ولم تقل لي كما كانت تقول أمي وأختي الكبرى عندما أعود من المدرسة :"كل عمر كرشك" وإنما قالت لي بصوت ملائكي :"كل ما على هذه المائدة هو احتفال بنجاحك وتفوقك وبعد أن تنتهي منها كلها لك مني هدايا أخرى" وتذكرت المائدة التي نزلت على النبي عيسى بن مريم من السماء، وهكذا نزلت علي من السماء مائدة خالتي زهور لتفرح هذا القلب الصغير المتشظي والمنسي...وقبل أن انهي وليمتي فتحت خالتي زهور دولاب ملابسها وبدأت تخرج منه بعناية أحذية جلدية صغيرة الحجم أنيقة المظهر، وأقمصة وسراويل ومعاطف وبدلات وجوارب بأشكال زاهية وتضعهم على سريرها أمام عيني... كانت تنقلني برقتها من عالم إلى عالم آخر كساحرة وتتركني هكذا متشردا كالنجوم المضيئة في سمائها، وبصوت أنثوي دافئ قالت لي:"هذا كله على مقاسك ".. متى أخذت القياس ؟ لا أعرف ؟..أي ملاك هذا الذي يمشي على الأرض أمامي في صورة إنسانة؟ من أي نور خلقت هذه المرأة وصورت ؟.. وضعت زهور كل ذلك في حقيبة كبيرة بنية اللون وأقفلتها بإحكام وركنتها جانبا بعد أن تأكدت بأن كل شيء على مايرام، وتركت على السرير بدلة بيضاء اللون مخططة بالأسود وقميص شتوي ومعطف طويل وحذاء جلدي وجوارب بيضاء لامعة.. كنت وأنا أرتدي البدلة البيضاء كالحالم الذي يتمنى أن لا يوقظه أحد من حلمه حتى لا يخرجه من متعته ولذته وفتنته..وهي تمشط شعري بنفسها وترش على صدري وملابسي الجديدة عطرا خفيفاـ تقول لي في كل مرة وهي تربت على كتفي الصغيرتين :"هكذا أنت تبدو كفارس أو عريس أو أحلى منهما لا ينقصك الآن سوى الحصان وليلى لتكون شهرزاد زمانك، ثم تنهدت كما لو أنها تذكرت لحظة جميلة سرقها منها الزمن".. وفتنتني ليلى أكثر مما فتنني الحصان والفارس وشهرزاد، مسكت بيدي الصغيرة الباردة والهشة كجناحي فراش قزحي فسرت من جديد في جسمي كل مشاعر الدنيا وأحاسيسها واشتعلت خدودي وأنفاسي وتوهجت كنار الفرن التي كانت تخبز عليه أمي رغيفها، كما لو أنها برقتها أيقظت بداخلي براكين صغيرة نائمة من الحرمان فثارت حممها ونيرانها فأذابت كل شيء في طريقها الروح والجسد والعقل، فهي لم تكن تمسك أصابع يدي وإنما كانت تمسك روحي التى ظلت عالقة بروحها وأنفاسها وعطرها لحد الآن، وهكذا ساقت روحي كجدول صغير إلى مكتبها ومرسمها المطل على حديقة غناء وبساتين مخضرة تعانق سماء نهر اللوكس.. كانت المكتبة تضم مجموعة من الرفوف المملوءة عن آخرها بالكتب والمجلات، والصحف الملونة الموسومة بعناوين وأسماء مختلفة، كانت تنظر إلي أحيانا وتحدثني عن كبار الكتاب والمبدعين وحياتهم وهي تنتقي لي مجموعة من الكتب والمجلات كما تنتقى الزهور من الحدائق الوارفة لتخبرني في النهاية بأن بدايتها كانت مع هؤلاء فلولاهم ماعرفت الدنيا على حقيقتها، ولما صارت فنانة وكاتبة مشهورة، ثم أجلستني على كرسي مكتبها ووضعت يدها على كتفي وانحنت قليلا قبالتي حتى صارت أنفاسها الرقيقة كنسيم يداعب جفوني أو كمن يريد تعليم حكمة أو قول سر خطير قالت لي وعيناها مصوبة على عيني وملامحي، ويداها الرقيقتان تخفي يدي الصغيرتين بين أصابعها الدافئة :" هذا سراجك الذي سيضيء ظلمة طريقك وهذا مركبك الذي سوف يعبر بك إلى ضفتك المشتهاة التي تحلم بها " وخجلت ان أسألها عن السراج وعن المشتهى والضفة، وعندما كبرت وتعلمت الحكمة والتأويل على يدي استاذة الفلسفة وكانت تشبه زهور في أشياء كثيرة، عرفت بأن زهور كانت هي سراجي ومنجاي ومركبي وضفتي بعد أن أطلقت روحي من قفصها وحررتها لتعيش في أكوانها وحكاياتها للأبد...جمعت كل الكتب وهي توصيني بقراءتها والحفاظ عليها ثم وضعتها في محفظة جلدية كأنها صنعت للتو من شدة لمعانها..كانت تخرجني بيد من قبعتها السحرية كحلم وتطلقني بيدها الأخرى عصفورا هائما فوق شرفاتها.. وضعت المحفظة على كرسي المكتب فيما كنت أنا مازلت مرفرفا ما بين الكتب واللوحات المعلقة على جدران مكتبتها، كانت مغلب اللوحات موقعة باسمها الفنانة زهور بدت لي المرأة التي أمامي غير المرأة التي تزورنا بالبيت غير زهور المرأة العادية البسيطة قريبة أمي التي تأتي كالفرج ساعة الضيق لتخفف عنا وطأة الحياة وقسوتها وعذابها، بدت وهي تحدثني عن الإبداع والثقافة ودورهما في بناء الإنسان والمجتمع والحياة امرأة مختلفة تماما.. امرأة أكثر سحرا وجمالا وإشراقا وحيوية ونشاطا ونضجا وفلسفة.. وضعت كأس العصير أمامي فوق المكتب وطلبت مني ان أنتظرها ريثما تنتهي من ارتداء ملابسها لكي توصلني بنفسها إلى البيت، ولم ترتدي هذه المرة الجلباب كم كانت تفعل عند زيارتنا وإنما ارتدت فوق القميص البني وسروال الجينز الأزرق معطفا طويلا أسود اللون أخفى الجزء العلوي من حذائها الجلدي ذو الكعب العالي، تفوح منه ومن جسدها رائحة عطر بارزي يشرد غزلانا بأكملها ولم تخف هذه المرة وجهها بل تركته مشعا كقمر يطل من عليائه، وسمحت لشعرها الأشقر لأول مرة بأن ينسدل كأشعة الشمس على ظهرها ويغطي كتفيها، و لم أكن أعرف أنها تملك سيارة ولم تزرنا بها من قبل، أخرجت السيارة من الكراج وفتحت لي الباب وطلبت مني ان أركب كأمير بجانبها، وتركت العنان للسيارة ولصوت عبدالحليم وهو يغني سواح وأنا ماشي في البلاد، لتشعل في الحرائق من جديد وهي تسوق وتردد بعض الكلمات مع عبدالحليم وتدق بأصابعها على المقود، قالت لي وعيناها على المارة والسيارات المارقة بجانبها وخلفها :"كنت مثلك طفلة خائفة ومرتجفة وعاجزة وعندما اكتشفت متعة القراءة والفن والموسيقى والحلم والإ بداع والفارس والحصان ولوعة المشاعر صرت كما أشتهي، تحررت من خوفي وعجزي وحطمت القفص الذي كان يسجن خيالي.. " وتنهدت ثم صمتت وأخذها الشرود بعيدا إلى عوالم ذكرياتها...عندما وصلت السيارة الى باب بيتنا لم أشعر بالمسافة الفاصلة بين البيتين ولا بالشوارع المزدحمة ولا بوجوه الناس.. فتحت الباب من جديد لكي أنزل، لما نزلت ربتت على شعري وقبلتني على خدي الأيمن وهي تودعني على رصيف بيتنا قائلة :"لا تنس ما قلته لك بلغ سلامي لأمك ولوالدك، كانت كل حركاتها وحديثها عن والدي وسؤالها عنه ومساعدته له في أيام الشدة توحي بأنها كانت تحبه لحد الجنون وأن قصة أشبه بقصص الشعراء كانت بينهما وانتهت بالفشل من غير زواج ولا استقرار، فوجدت في ما يذكرها بنفسها وعالمها وحكايتها وطفولتها وشبابها.. ودعتني بعد أن وضعت الحقيبة والمحفظة بجانبي وغابت كقرص الشمس تاركة في الروح إحساسا غريبا مازال يسكنني لحد الآن..ومنذ ذلك الوقت وبعد وفاتها مباشرة وما خلفه غيابها من حزن وفراغ في نفسي، بدوت طفلا آخر في عيني والدتي وإخوتي ومعلمتي وأقراني تملكني الشرود وصرت أنشد العزلة باحثا عن روحي التي شردتها كالعصافير قريبة أمي خالتي زهور.

***

قصة قصيرة

عبد الرزاق اسطيطو

...........................

* (أي تطابق ما بين أحداث هذه القصة وشخصياتها هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع والحقيقة)

 

في نصوص اليوم