نصوص أدبية
جاسم الخالدي: ندبة

حين كنا نحبُّ،
كنا نشعر أن الحب قد تملّكنا،
ننتظر الصباحات تهطل علينا
بعد ليالٍ مثقلة بالكوابيس.
2
كنتُ أتظاهر بالامتلاء،
وأمي التي اعتادت الاستيقاظ مبكرًا
تجهّز لنا خبزًا حارًا،
بحرارة قلبها على أبي
الذي لم يمهله المرض طويلًا.
3
تضع إبريق الشاي على الموقد
وتتظاهر بالفرح،
حتى لا تخدش قلبي
بلحظة حزن.
4
أخرج مبكرًا،
أحمل في جيبي ما يكفي لركوب الحافلة،
وألقي التحية على تلك الصبية
التي كانت تقف في محطة الانتظار،
تتظاهر بعدم الاكتراث،
لكنها تختلس النظر،
وتترك لي أثرًا.
5
غابت المرأة وبقي ظلها،
أينما ذهبتُ وجدتُها أمامي،
كأنها نقشٌ في الهواء
لا يبهت ولا يزول.
6
تخيلتُها يومًا،
تلك الصبية التي تحمل هاتفها،
تنصت لصوتٍ يتهادى عبر الأثير،
فتنتعش بابتسامة،
أو ترتشف قهوتها على مهل.
لكن الضجيج يكسر اللحظة،
سيارة مراهق تعبر مسرعة،
ترتجف يدها،
ثم ترفع عينيها إلى الفراغ،
وكأنها تبحث عن شيء لم يأتِ بعد.
7
تذكّرت ذلك وأنا أقطع مسافة طويلة على قدمي،
الطرقات تمتدّ كأنها تختبر صبري،
أحمل ظلي فوق الأسفلت،
وأحمل معها ذكرى
عالقة بين الأمس واليوم.
8
آخر مرة رأيتها،
كان الدم ينسحب منها ببطء،
ووجهها يشحب كنصلٍ خذلته لمعته.
كانت تريد أن تمنح الجنود بعضًا من الحياة،
لكن جسدها خانه العطاء.
*
مدّت يدها إليّ،
وهمست بصوتٍ هش:
خذني إلى الباب...
*
مشيت بها،
خفيفة كأن الهواء يحملها،
وحين عبرَت العتبة،
تركت في كفّي ندبةً لا تُمحى.
9
بعد سنوات،
لم يبقَ منها إلا ظلّ ذلك اليوم،
تلك اليد المرتجفة الممتدة،
وخطواتها الواهنة وهي تعبر الباب،
تاركةً خلفها فراغًا لا يُملأ.
10
وقفتُ هناك،
عند العتبة التي تركتني عندها،
أحمل في صدري ندبةً،
وفي عينيَّ حزنًا لا يُطفأ.
***
د. جاسم الخالدي
...........................
* حكاية هذه القصيدة واقعية، حدثت في اعوام ١٩٨٣ و ١٩٨٨م. وبين الأعظمية وباب المعظم. يوم كنت طالبا في دار المعلمين، ومن ثم في كلية الآداب.