نصوص أدبية

سعاد الراعي: فستان زواج يروي حكاية

في أروقة الأكاديمية، حيث الأحلام تتسرب بين الجدران كأشعة شمس تتوسل نافذة مفتوحة، ولدت حكايات لا تُنسى، حكايات التقت فيها الأرواح لتكتب فصولًا من الفرح، بعضها امتد ليُصبح رِباطًا أبدياً جمع بين رفاق ورفيقات. وسط هذه الأجواء المفعمة بالأمل، برزت بدلة زفاف بسيطة، اشترتها إحداهن لتحتفل بزواجها في غربة بعيدة. لم تكن تلك البدلة مجرد قطعة قماش بيضاء، بل تحولت إلى رمزٍ مشترك، رحلة تتنقل بين القلوب، لتُوثِّق لحظة استثنائية في أعمار من ارتدَينها.

كانت الفتيات، يستعرن البدلة، واحدة تلو الأخرى، ليحتفلن بها، ولو في صورة فتوغرافية عابرة، تُعيد إليهن شذرات من حلمٍ لم يكتمل، وتُزين بشيء من النقاء، ذاكرتهن، كزهرة تنبت في أرض الغربة القاحلة. كانت كل صورة تؤخذ بذلك الفستان تحمل في طياتها قصة صغيرة، أحلامًا محلقة، وقلوبًا تبحث عن معنى، ولو في لحظة مؤقتة من البهجة والفرح.

وفي زاوية خفية من هذه الحكاية، برزت امرأة لم تكن تشبه الأخريات؛ فقد وضعتها الأيام على شاطئ بعيد عن البدايات، بعيد عن الأحلام الصغيرة التي لطالما داعبتها في صباها. كانت حياتها ممتلئة بالواجبات، مثقلة بتحديات الاغتراب والغربة، ومع ذلك، بقي في قلبها ركنٌ صغير يحنّ إلى ما كان. لم تكن الوحدة محض شعور عابر، بل غدت ظلًا يرافقها حيثما حلت، الغربة التي تُضخّم ذلك الصمت الذي يفصل بينها وبين ذاتها، وبينها وبين زوجها.

في إحدى الأمسيات، استيقظت في أعماقها رغبة دفينة، رغبة لم تكن وليدة لحظتها، بل كانت تراكمًا لأمنيات مؤجلة، أمنيات تتوق لتُلامس واقعها. أرادت شيئًا بسيطًا، ولكنه يعني لها الكثير: أن ترتدي بدلة الزفاف التي أضحت أيقونة للفرح في الغربة، أن تلتقط صورة بها ومعها، ليس فقط لها وحدها، بل لتجمعها مع زوجها. كان الحلم بسيطًا في ظاهره، لكنه كان رسالة حب عميقة، رسالة فيها رغبة في إحياء شعلة قد خبت تحت وطأة الأيام وثقل المعاناة.

عندما طلبت منه تحقيق هذه الأمنية، كان صوتها هادئًا، لكنه مشبع برجاء عميق، كأنها تتوسل لحظة تعيد دفء الحياة إلى ما تآكل تحت غبار الغربة. تأمل الزوج وجهها مليًا، قرأ في عينيها حنينًا يُشبه اللحظة الأولى التي صارحها بحبه لها، وصدقًا لا يحتاج إلى تفسير. وافق دون جدال، ربما لأنه شعر بضرورة تلك اللحظة لها، أو ربما لأن كلماتها لامست شيئًا في أعماقه لم يكن يعلم بوجوده.

وفي استوديو التصوير، حيث الأضواء تُلقي على الأشياء بريقًا خاصًا، ارتدت بدلة الزفاف البيضاء. لم يكن القماش الأبيض مجرد لون، بل كان مرآةً تعكس أحلامها القديمة التي لم تكتمل بعد. كل طية، كل خيط، كانت تُعيدها إلى تلك اللحظة التي تمنت أن تعيشها يومًا. عندما وقفت بجانبه، شعرت انها لم تكن لحظة عابرة. كان كل شيء فيها مُفعمًا بالمشاعر: البساطة التي تُخبئ خلفها عالما عميقًا وهائلًا، وفرحًا يكمن في تلك التفاصيل الصغيرة.

التقطت الصورة، لكنها لم تكن مجرد مشهد فوتوغرافي. كانت قصة مكتملة الاركان، رمزًا للعودة إلى الذات، ولإحياء الحب الذي ربما اعتراه الصمت طويلًا. الصورة الوحيدة التي جمعت بينهما في الغربة، والتي كشفت كل ما لم يُقال: أملًا يتجدد، حبًا يعيد صياغة نفسه، وطمأنينة تُرسل عبر المسافات إلى والدتها.

كانت تلك الصورة رسالة عابرة للزمان والمكان، رسالة تقول: "أنا بخير، وأنا أجد في الغربة لحظات من الفرح، رغم كل ما يحيط بي. هناك دائمًا ما يستحق أن نعيش من أجله."

لم تكن الصورة نهاية الحكاية، بل بداية لفصل جديد. وعدٌ صامت بأن القادم، ربما يحمل فرصًا أخرى للحب، للمواقف التي تصنع الذكريات الأعمق. وفي قلب كل ذلك، بقيت تلك البدلة البيضاء رمزًا خالدًا، شاهدًا على قدرة اللحظات البسيطة على أن تمنح الحياة معنى يفوق الكلمات.

***

سعاد الراعي

 

في نصوص اليوم