نصوص أدبية
أحمد غانم: ترنيمة المطر والرماد
"حبيبي الغائب عُد، إن لم تكن مقيدًا بالأغلال أو غادرت روحك جسدك، كما غادرتنا براءة الصبا وزهو سنوات الشباب دون العثور على غصن زيتون تستظل به أمانينا، وإن قررتَ الرحيل عن بلادنا المحترقة تحت أقدامنا خذني معك.
لا... لم ولن أعتاد لوثة الفقدان في وطن الفقدان.
حبيبي صرتُ وحيدة، وحيدة تمامًا، في انتظار أية إشارة تلَوِح لي بابتسامة غدٍ لا تلوثة حمرة الجنون، ودون أن يستلب النفي داخل أوطاننا ما تبقى لنا من نبض الحياة.
حبيب عمري عُد، عد قبل فوات الأوان، علنا نستطيع أن نخاتل زماننا وننتشل بقايا خفقات حلم حلمناه يومًا ولم يقتنصه رصاص الحروب بعد.
أكتب إليك من خلف السواتر التي تهبنا للدمار كل حين، من تحت الخيام المحروقة عند كل غارة لا تنتهي إلا لتعود مع شبح الموت من جديد، من بين الصياح والعويل... من شاطئ البحر المُدمى الذي كنا نخطو فوق رمله سوية، تحوطني بذراعيك وتدفئني بصهد أنفاسك، وأعذب القبلات، قبلات لا تنصت للعلعة الرصاص كل حين.
جسدي المشتاق إلى لمساتك الحانية مهما استبدت بها رعدة الزناد اليوم ذوى مثل أشجارنا اليابسة، لم يعد كما كان، حلم الراقصين في أمسيات الحصاد، عربدت به ريح البارود العاصفة مثل كل محاصيلنا، عامًا بعد عام وعقدًا تلو الآخر. انتهت كل أمسياتنا وتلاشى من الأسماع شدو أغانينا وانطفأت مصابيح أفراحنا، مثلما انطفأ كل وهج عشناه وحلَ محَله الحطام في قلبي، ومثلما نزعت مدننا وقُرانا حُلة أمانها ولبست ثوب أجيال من الحداد.
لكن رغم كل شيء، كل مدامعي وعويلي ما بين النيران، أهجس أنه ينمو بين أحشائي، جنين عشقنا المتخفي عن عيون القناصة وفوهات المدافع وومض الصواريخ. أظنه سوف يولد مع تهاليل الربيع الذي تحب أن تبصره في قسمات وجهي، في الأرض البراح التي تتشرب رماد الحرائق مثل رذاذ المطر. أتمنى عودتك قبل الولادة، أن أبصر في وجهك فرحة الظفر رغم كل حرائق عمرنا الفائت، كما أتمنى أن يمتلك ابننا حرية الاختيار، دون أن يُفرض عليه قرار الموت، ولا خضوع الاستسلام."
*
لم يتم إرسال الرسالة إلى جدي المتوفى من قبل ولادة والدي. وجدتُها مصفرة، بخط مهتز اهتزاز الأرض مع دويّ الانفجارات، تحت وسادة جدتي المُستبقة الرحيل برحيل، كما لو أنها كانت ترغب بالتكتم على سر عشق مطارَد، حرصتْ أن تخفيه عن الجميع مهما توالت العقود.
خلَفتُ الورقة المهترئة من كثرة الطيّ في دارنا، فلم أرضَ أن تشهد المزيد من الاغتراب، ثم مضيتُ بخطى وئيدة تحت وطأة الحَبل نحو نزوح جديد، دون أن أدري متى يحين أوان العودة، لعل هناك من يجدها بين الأنقاض.
***
أحمد غانم عبد الجليل - كاتب عراقي
22 ـ 10 ـ 2024