نصوص أدبية

ناجي ظاهر: ترنيمة الخلود

خرج قشّوع ابن المرحومة قشّوعة من البيت صافقًا الباب وراءه. توقف لحظة بعدها انطلق مثل صاروخ مصوّب بدقة نحو هدف محدد جيدًا. كان يعرف إلى أين سيذهب، ولم تكن الأمور واضحة له بمثل ذلك البهاء والرواء.. من قبل.. كما هي الآن، سنرى أيها الأصدقاء مَن يعرف أكثر ومَن يحبّ أغزر. تريدون أن تضحكوا.. أتقبل هذا منكم. لكن سترون مَن سيضحك في النهاية. لقد تركت لكم الضحك في البداية لكن الآن.. سأريكم الزمباع من أين يُباع، وسوف أعلّمكم درسًا لن تنسوه ما دامت هذه البلاد ترفع رأسها وترد الطامعين عن حياضها. في الامس التقى قشّوع بهم. هم مجموعة من الشباب التائه.. الباحث عن سخريات القدر وملذات الحياة العابرة. غنّى لهم فبدت عليهم علامات.. داخلها شيء وخارجها شيء آخر مختلف. تلك الألاعيب لا تنطلي على من هو مثل قشوع ابن المرحومة قشوعة المعروفة المشهورة برصانتها في طول البلاد وعرضها. في الامس ذهب إليهم هناك في دكانهم كابي الأضواء بالصدفة وغنى لهم بالصدفة. أما اليوم فإنه ذاهب إليهم بالقصد. إنه ذاهب ليقتصّ منهم. وليريهم أن ما آمن به وتعلّق به أولًا وقبل كل شيء، يستحق التقدير ومِن شانه أن يجعلهم تلاميذَ في مدرسته الخالدة لا رجالًا ساخرين منه ومن تراثه الرائع. ليتحضّر الآن وليدلف إلى دكانهم الغامض. ليخترق أضواءهم الخفيفة. وليجعلها أسطع من الأقمار في سماء صافية. هم اتفقوا معه على أن يغني لهم ولأصحاب لهم مما جادت به ذاكرته الشعبية الوطنية الواعية. وهو قَبِلَ ضمن محاولة منه لإقناعهم بما ارتكبوه من حماقة عندما سخروا واظهروا علامات الرضا. لقد قبل ان يدعو إلى تلك الجلسة مَن يسخر منه ومن أغانيه الخالدة في السرّ ومَن يقدّره في العلن.

انطلق قشوع في الشارع المؤدي إلى حانوتهم ذاك. انطلق يغذّ الخطى، كأنما هو متوجّه إلى معركة يُدرك تمام الادراك أنها ستكون رابحة. ألم تدعُه والدته المرحومة الذكية باسمه القريب من اسمها محبةً وأملًا؟ ألم تكن هي أول مَن طرب لأغانيه الشعبية المُعبّرة؟.. ألم تشجّعه على أن يحفظ كلّ أغاني فلسطين من جدة صديقه اللزم.. أحمد العربي؟ ألم يفتح عينيه وقلبه لتلك الأغاني فيتحوّل إلى موسوعة غنائية متنقلة.. تطرب الحوادي والركبان. قدّرها مَن عرفها جيدًا وسخر منها مَن لم يُدرك قيمتها. انطلاقة رجلنا الهُمام في تلك اللحظة كانت جدّية وجادة .. وها هو يقترب من هدفه.. ليصطدم بما لم يضعه في حسابه. ها هو يتوقّف بطلب من صاحب الحانوت الفاصل عن ذاك المدعو اليه بسبعة حوانيت؟ .. إلى أين أنت منطلق بكلّ هذا الحماس. جاءه صوت صاحب الحانوت.. فردّ بثقة بطل شَهِدَ له القاصي قبل الداني.. إلى تلك الحانوت.. الصوت المنخفض الاجشّ جاءه هذه المرة من صاحب الحانوت ذاته.. لقد قرّر داعوك أن تكون الجلسة الغنائية اليوم هنا في حانوتي.. أدخل.. أدخل.. تفضّل والله الا تتفضل.. دقائق وسوف يأتون إلى هنا.. وقال بفم ساخر الآن في هذه الساعة سنخلّد ذكرى الوطن وسوف نرفع راية مَجده الخفّاقة. قبل أن يوجّه قشوع سؤالًا استفسارًيا إلى صاحب مُحدّثة الحانوت.. كان رفاق الحانوت الداعون يتوافدون واحدًا تلو الآخر.. كأنما هم يتوافدون إلى عرس لا عريس فيه.. الا الوهم. اتخذ كلّ منهم مقعده وسط نظرات التقدير في الظاهر والسخرية اللاذعة في الباطن. فيما اقتعد قشّوع مجلسه القديم العريق متوسّطًا المجموعة مثل ملك..

رفع الضيف المغني قشّوع رأسه بشمم وإباء وسط نظرات الجمع المنتظر غناءه. ران الصمت على جميع أغراض الحانوت.. ابتداءً مِن الأحذية المنتشرة على كلٍّ من رفوف الدكان، انتهاء بالكؤوس التقديرية، مرورًا بالكاستيات الملأى بالأغاني المُطربة. استفز الصمت المُخيّم مجموعة الحاضرين.. خاصة أولئك الذين دعوه آنفًا لتلك الجلسة.. وتدخّل صاحب الحانوت البعيد عن حانوتهم بسبعة محلّات.. قالوا جميًعا إلى متى سننتظر؟.. ألا تريد أن تغنّي لنا؟.. وتشاطر أحدهم قائلًا اطربنا يا حضرة المغنّي مثلما اطربتنا في الأمس.. مع ولعه بالأغاني الشعبية المُعبّرة ورغبته المّلحّة الهائلة بأن يخلّد تاريخه الشخصي أولًا وتاريخ مجموع شعبه بصورة خاص، تماسك قشوع وقام بتغيير الموضوع.. وكي يكون مقنعًا راح يتحدّث لهم عن تاريخ الأغاني الشعبية في بلاده.. كان ما قدمه مجهولًا لهم جميًعا تقريبًا.. ولولا نُتف من المعرفة أدلى بها عقلاؤهم، لفرعن قشّوع عليهم ولرأى أنه وصل الى مبتغاه بسرعة صاروخ مصوب نحو هدف محدّد. غير أنه واصل حديثه مُفحمًا إياهم ومقنعًا سأخرجهم بأنهم أولى بالرثاء من المديح وأقرب إلى الجهل منهم إلى العلم..

تحرّك قشّوع في مجلسه تحرُّك ملك عرف قيمة ما يمتلك.. كان ذاك واحدًا من الامتحانات التي كان لا بدّ له من النجاح فيها.. صحيح أنه قصير القامة لكنه يرى ويسمع مِن بعيد.. بعيد.. الطبيعة حرمته من شيء وجادت عليه بأشياء.. شكرًا لكِ جدة صديقي.. شكرًا لكِ على ما فضت به عليّ من معلومات تُعمّق معرفتي.. وشكرًا لذاتي لأنني طوّرت وتعلمت وشغفت.. تمعن قشوع في وجوه مّن أرادوا أن يجعلوها قعدة سخرية.. شعور بالقوة انتابه.. لقد حوّلتهم كلماته إلى تلاميذ قاصرين لا يستحقون نصف علامة لأن ينجحوا.. في امتحان أرادوه له.. فانقلب السحر على الساحر .. وها هم يفتحون أفواههم ويُرخون شفاههم.. منبهرين به وبما جاد به مِن معلومات جمعها أولًا من فم تلك الجدة الفاضلة، ومن مصادر المعرفة بالأغاني الشعبية الوطنية من ناحية أخرى.. لفت ما هو به من زَهو واعتزاز بالذات كلّ مَن أحاط به.. فقرّب الجميع كراسيهم منه.. حتى تلاشى البُعد فيما بينهم.. فبدوا مثل رجل واحد .. ضغط الجميع بأجسادهم على ضيفهم الكريم.. وتوجّهوا إليه طالبن منه.. بلسان كاد يكون واحدًا أن يغنّي لهم مجتمعين مثلما غنّى في الامس.. غير أنه انتفض مثل نِسر توقّف على أعلى ذروة في جبال بلاده.. وهتف بهم طالبًا منهم أن يحرّروه الآن.. فقد قدّم لهم الكثير على أن يغنّي لهم في القعدة القادمة..

توقّف المحيطون حول المغني الرائع قشّوع.. فبدوا كأنهم لهبٌ تمنطق بالحديد.. وكان لا بُدّ لهم من أن ينفضّوا حوله.. منتظرين القعدة القادمة.. أما قشوع صاحب الصوت الشجيّ فقد خرج من دكانهم ذاك وعلى لسانه معلومات غزيرة وفي قلبه أغنية أبى أن يُطلقها إلا أمام من استحق الاستماع إليها فعلًا لا قولًا فحسب.. خرج المُغنّي إلى الشارع المحاذي.. "ما أجمل الأغاني عندما تكون بحجم الوطن"، قال.. فبدا له الشارع في أ أطيب حالاته.. وانطلق عائدًا إلى أغانيه وإلى تلك الجدة.. شاعرًا انه يوجد هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم