نصوص أدبية

ناجي ظاهر: مأزق فنّي

القاعة تضج بالموسيقى. الكل فرح بحفل زواج ابن صديقي المقرّب هيثم، قبل قليل دخلت القاعة ترافقني صديقتي. انا ادللها باسم ياسمينة السمينة. هيثم رحّب بنا. فهو يعرف قيمتي الفنية جيدًا. أمسك يدي ليجلسني في مقعد قريب من مجموعة لم استلطفها. جلست هناك مجاملةً له، إلا انني ما لبثت أن انتقلت إلى جناح خاص هناك. في إحدى زوايا القاعة المُشرفة على المشهد كاملًا. انتقالي هذا لم يعجب مدير القاعة. فهرع إلي طالبًا مني أن اعود إلى حيث اجلسني والد العريس، غير انني رفضت بشدة. وغمزت لياسمينة مؤكدًا لها أن ما اريده سيكون وان جلال، مغنيها المفضل، ما زال فعّالًا في مجال الغناء. صحيح ان الجميع خذلوه، وتخلوا عنه، هذا تزوّج من شرشوحه مثله فاستغنى بالتالي عن الموسيقى وعن اهلها. ذاك اقعده المرض فباع آلته الموسيقية وانصرف ليعمل سائق تاكسي خصوصي، وذاك سافر تاركًا وراءه انّات وحسرات الة تنتظر ان نعود إليها جميعًا. لقد مضى على تلك الايام، ايام العز اكثر من ثلاثة عقود، ومع هذا بقيت وحيدًا صامدًا في وجه العاصفة، احمل الة العود واتسلح بها، فهي حبيبتي وملجاي الاول والاخير.. واكاد ان اقول هي زوجتي الباقية. كلهم ذهبوا وانا بقيت صامدا في وجه العاصفة الهابّة منذ سنوات. يقترب مني مدير القاعة يطلب مني بأدب يليق بفنان مخضرم مثلي، ان اعود إلى حيث كنت، أرفض بشدة، فيتوجه إلى هيثم، والد عريسنا، يهمس في اذنه، ليأتي الاثنان حيث اجلس انا ومشجعتي التاريخية في البلد ياسمينة السمينة الرائعة، يطلب مني الاثنان ان انتقل إلى حيث جلست في السابق، أرفض بشدة اكبر، مرفقًا رفضي بكلمات اعتقد انهم جميعا يعرفون ابعادها. أقول: اعتقد انك سمعت باسم الفنان جلال ابو جليل. انا من اطربت القاعات واحييت الافراح في الشوارع والساحات. انا لن انتقل يا سيدي. إلى موقع اقل من هذا اللائق بي وبفنّي. لن انتقال واذا كنت مُصرًا على مثل هكذا انتقال، فإنني افضل أن اترك العرس لكم لأغادر القاعة الى لا رجعة.. بإمكانكم جميعًا ان تعموا بفناني هذه الايام واغانيهم الهابطة.

ما ان سمع صديقي والد العريس تهديدي هذا حتى توجّه إلى مدير القاعة راجيًا منه ان يبقيني حيث انا.. فما كان مني إلا ان استند على خلفية الكرسي، واخرج علبة السجائر المارلبورو اللائقة بفنان مثلي، وقبل ان اشعلها امتدت يد مدير القاعة تشعلها لي.. لاهتف به.. الآن اعتقد انك عرفت من يكون الفنان جلال ابو جليل. هكذا عاد الهدوء وسط ضجيج الموسيقى وصخبها في القاعة المتعبة.

ارسلت نظرةً منتصرة إلى ياسمينة السمينة، فبادلتني بنظرة محبّذة:

-اعرف قيمتك.. اعرفها جيدًا.. لا تقلق.. انت فنان حقيقي.. اهل هاي الايام بفهموكاش.. قالت فأرسلت نظري باتجاه منصة الغناء.

-اما غناء فارغ.. اولاد مبارح بحتلوا المنصات واحنا الاصل بنقعد نتسمع.. قلت، فردت ياسمينة قائلة:

-كان على صديقك هيثم ان يدعوك انت.. انت الاصل والعراقة.. انت اكبر من كل هؤلاء الصغار..

شحنتني كلمات ياسمينتي بقوة اخرى اضافية. ارسلت نظرة صقر اعرفه جيدًا.. إلى البعيد. والله ما انا عارف على ايش بترقص كل هاي النسوان. وين كان اولاد هاي الايام لما كان جلال ابو جليل يجوب البلاد طولًا وعرضًا.. قلت لها:

-اعتقد انه يعرف ان جميع اعضاء الفرقة تخلوا عني من زمان. لكن دعيني افكر.

ران بيننا صمت، فيما انطلق المغني الولد، في زعاقه.. الغريب أن الجميع كان يرقص وينفعل مع ترهاته. شو كنها تغيرت الاذواق؟ وين فن الستينيات.. والسبعينيات.. راح طوني حنا وسامي كلارك.. تركوا الساحة لأغاني الهيشك بشك؟ انجنت الناس.. صابها جنون الغناء؟.. هذه الذكريات دبت الحركة في اطرافي، فعاودني شيطان الاغاني، اضمرت امرًا.. ارسلت ابتسامة نحو مرافقتي الغالية، فبادلتني الابتسامة سألتني:

-تريد ان نغادر؟

اشرت إليها بيدي ملمحًا ان انتظري وسوف ترين ان ابا جليل لا يُهزم.. لم يهزم ولن تقدر عليه الايام. وتحرّك دم الغناء في جسمي كله، فرفعت يدي مشيرًا لهيثم.. ما ان رأى اشارتي حتى ركض باتجاهي. استوقفته بإشارة اخرى:

- بعجبك هذا الغناء؟ سألته، فتجاهل سؤالي. قال:

- مرّقلي هالسهره.. الناس مبسوطة شو بدنا اكثر من هيك؟

- بس كان ممكن تكون الناس مبسوطة اكثر لو.. قلت، فسارع هيثم للقول:

- لو ماذا؟

- لو انني اعتليت المنصة وقدّمت روائع ايام زمان.

ابتسم والد العريس، مستمهلًا إياي. توجه بخطى ثابتة نحو منصة الحفل. همس في اذن المغني الفلعوص الصغير، وعاد. وقف قبالتي:

- لا بأس.. سيخلي لك المنصة.. هو أيضًا يعرفك ويعرف قيمتك الفنية العالية.

انصرف والد العريس، فيما ارسلت نظرةَ انتصار نحو مرافقتي ياسمينة السمينة، فبادلتني هذه نظرة مساوية، لتدبّ بيننا حماسة عمرها آلاف السنين. مدّت ياسمينة يدها إلى يدي، شدت عليها فشددت على يدها. كانت تلك اولى علامات انتصارنا في تلك الليلة. وتابعنا انتظارنا. ليمضي الوقت ولأشاهد عددًا من المحتفلين يبدأون بالانسحاب. انتبتني حالة من القلق. اشرت إلى والد العريس، فجاء. ادنيت فمي من اذنه وهمست فيها: ابتدأ الناس بالمغادرة. الم يحن دوري في الغناء؟ انصرف هيثم وفي فمه وعد مؤكد بأن اعتلي المنصة وألهب القاعة المنتظرة. انتابتني حالة من القلق وانا ارى المشاركين ينسحبون واحدًا تلو الآخر. عندها وقفت. واندفعت بقوة عمر من الصمت.. اندفعت باتجاه منصة الغناء. انتزعت مُكبّر الصوت من يد المغني الجاهل. وابتدأت.. يا ليل يا عين.. اغمضت عيني.. وانطلقت اغني مستعيدًا امجاد الزمان الاول.. ولم افتحهما الا على تصفيق مرافقتي.. كانت آخر من تبقى في القاعة.. وخيّمت اجواء.. تشبه اجواء مغني ايام زمان.

***

قصة: ناجي ظاهر

في نصوص اليوم