نصوص أدبية

حوا بطواش: رسالة إلى أمّي

أمّي الحبيبة

أكتب لك هذه الرّسالة التي لا أدري إن كنتِ ستقرئينها يومًا ما، ذلك أنّني لستُ متأكّدة أنّني سأعطيكِ إيّاها، فأنا خائفةٌ جدًّا من ردّ فعلك. نعم. أنا خائفة وقلقة جدًّا. لا أدري كيف أقول لك ما في قلبي من مشاعر تُثقل على نفسي، وإن قلتُها لك، فهل ستفهمين؟ وهل أستطيع أن أقولها لك بطريقةٍ تفهمينها وتتفهّمين؟

لا، لا أستطيع أن أقولها لك وجهًا لوجه، لذا، سأحاول أن أكتبها.

ليلة البارحة، عندما ذهبتُ إلى غرفتي للنّوم، في الثامنة مساءً ككلّ يوم، لم أستطِع النّوم. كنتُ حزينة جدًّا، وانسابت الدّموع من عينيّ رغمًا عنّي. فكّرتُ كثيرًا بما حدث، بما قلتِه، وفعلتِه على مرأى من أعزّ صديقاتي. كنتُ قلقة جدًّا وخائفة من الغد.

كما تعلمين، عندما أخرج من بوّابة منزلنا كلّ صباح، تنتظرني صديقتي منال، بضفيرتيها الذّهبيّتين، الطّويلتين، وملابسها المدرسيّة النّظيفة والمرتّبة، لنذهب معًا إلى المدرسة. نسير ونحن نتحدّث عن بعض أحداث البارحة خلال لعبنا في الحارة، حتّى نخرج من أزقّة الحارة نحو ساحة دكّانة سليم، فنجد صديقتنا علياء بانتظارنا، قُرب شجرة الزّيتون العتيقة، بابتسامتها المرحة التي لا تفارق وجهها، فتنضمّ إلينا وفي جعبتها حديثٌ ما يجب أن تخبرنا به سريعًا ومباشرةً بعد تحيّة الصّباح. ثمّ نواصل طريقنا معًا نحو ميدان المجلس المحليّ، لنجد صديقتنا ميسون بصحبة أخيها، تنتظرنا بالقرب من المقعد الخشبيّ الذي على رصيف الشّارع، وهي ممسكةٌ بيد أخيها الصّغير، لا تفلتها أبدًا، فينضمّان إلينا بكلّ هدوء لنكمل معًا طريقنا إلى الشّارع الذي يعلو نحو بوّابة المدرسة الحديديّة الكبيرة، فنجد العمّ عماد، حارس المدرسة، بانتظارنا كما دائمًا، يُلقي علينا تحيّة الصّباح التي يدعونا بها إلى الدّراسة بطريقته المميّزة التي لا تشبه أحدًا غيره، يُضحكنا بدعابته حتّى ترتسم الابتسامة على وجوهنا.

وكما تعلمين أيضا، البارحة، دعوتُ صديقاتي إلى بيتي لنلعب معًا في ساحة الحارة بعد الظّهر. وعندما كنتُ مستغرقةً في اللعب، وعلى حين غرّة، رأيتكِ تقتربين منّي وعلى وجهك سحابةٌ من الغضب. اقتربتِ منّي وفركتِ أذني اليمنى وأنت تقولين لي ساخطة: «لماذا لا تردّين عندما أناديك؟»

جمدتُ في مكاني، ومعي صديقاتي. كلّ ذلك أنتِ تعلمين. لكن، ما لا تعلمينه ولم أقُل لك، هو أنّني، حقيقةً، لم أسمع نداءك لي، ورغم ذلك، أحسستُ أنّه كان عليّ أن أسمع، ولم أسمع.

وضعتِ في يدي قطعة من النقود وقلتِ لي أن أذهب إلى دكّانة سليم لشراء الحليب. فذهبتُ فورًا وأنا أجرّ قدميّ بأسرع ما يمكن وأحضرتُ لك الحليب. ثمّ عدتُ إلى السّاحة، حيث جلست صديقاتي على الحجارة القريبة، ولم تنبس واحدة منهن ببنت شفة. جلستُ مثلهن، على الحجارة، على مسافة منهن، وبقينا كذلك، يسودنا الصّمت.

اقترب منّا ثلاثة من صبيان الحارة وطلبوا منّا الطّابة التي كنّا نلعب بها، فوافقت منال على إعطائهم إيّاها، وسرعان ما انطلقت صيحاتهم وهم يلعبون بها، يركضون ويمرحون في نفس السّاحة التي كنّا نلعب فيها قبل ذلك بدقائق. أمّا نحن، فقد بقينا نجلس على الحجارة دقائق طويلة، ثقيلة، حتى قالت علياء: «ربما الأفضل أن نذهب الآن، فقد اقترب المغرب.»

أخذت منال طابتها من الصّبيان الثلاثة وذهبت كلّ واحدة منهن إلى بيتها. وأنا عدتُ إلى بيتنا، تناولتُ وجبة العشاء التي حضّرتِها لي، كأنّ شيئًا لم يحدث، وذهبتُ إلى غرفتي للنّوم في الثّامنة تمامًا، كما تعلمين، وكما تطلبين منّي دائمًا. لكنّني لم أستطِع النّوم. بقيتُ في فراشي طوال الليل، دون نوم... أنتظر الفجر. وعندما تسلّل أوّل خيطٍ من خيوط الشّمس، قمتُ من فراشي وأخذتُ أكتب رسالتي.

ليتني لا أذهب اليوم إلى المدرسة وأبقى في غرفتي طوال الوقت، وحيدةً وصامتة. لكنّني أعلم أنّك لن توافقي. كيف ستستقبلني الآن منال عندما أخرج من البوّابة هائمةً على وجهي؟ وماذا ستقول علياء عندما نصل السّاحة؟ وكيف ستنظر إليّ ميسون عندما نصل الميدان؟ وماذا سيقول العمّ عماد حين يراني دون ابتسامتي المعهودة؟

منال أكبر منّي بسنتين وتفهم أكثر منّي، وهي فتاة عاقلة وواعية، وقد زُرتها في بيتها مرّاتٍ كثيرة، وزارتني في بيتي، رأيتُ عندها الكثير من الأمور التي لا يفرح لها القلب، وهي كذلك. أعرف أنّها ستقول شيئًا ما للتّخفيف عنّي. لا أعرف من أين تأتي بمثل تلك الكلمات التي تدلّ على فهمها لما في قلبي. علياء في مثل سنّي، وتجلس بجانبي في الصّف، ورغم أنّها كثيرة الكلام وتقول، في العادة، الكثير من التّفاهات، إلّا أنّها تحبّني وتحسّ بي، لا بدّ أنّها ستسكت. لن يكون الأمر سهلا. ميسون هي أكثرهن صمتًا وغموضًا. لن تقول شيئًا، لكنّني سألمح على وجهها نظرة عينيها حين تلتقيان بعينيّ، نظرة التّعاطف، ستواسيني بها وسأشعر بالحرج. وماذا عن العمّ عماد؟ لا بدّ أنّه سيسأل ماذا حدث، فماذا أقول له؟ كم سيكون ذلك مُحرجًا!

لا أحبّ أن يشفق عليّ أحد، ولا أحبّ أن يراني أحد في مثل هذا الموقف. سأشعر بغصّة في حلقي، ولن أستطيع التّفوّه بكلمة، ولا رفع نظري إلى أحد، ورغم أنّني متأكّدة تمامًا أنّ صديقاتي لن يخبرْن أحدًا بما رأيْن وسمعْن، ولكنّني أشعر بالضّيق في صدري، لستُ أدري لماذا، ولستُ أدري إن كنتُ سأعود وأدعوهنّ لنلعب معًا في الحارة مرةً أخرى.

لستُ أدري.

***

كفر كما/ الجليل الأسفل

في نصوص اليوم