نصوص أدبية

ابتسام يوسف الطاهر: خيوط زمن

الريح التي تسللت بلا جواز مرور، من شباكها المغلق صمتا من دهور الليل الماضي بردا، داعبت شعرها. فعقدته بلا اهتمام وارتدت جاكيته صوف كانت مرمية على مقعد الجلد في صالتها الصغيرة. اغلقت الاصوات التي تداخلت في رأسها وهي تصلها من الشارع لسيارات قليلة، فقد ولى ذلك الزمن حيث كان الصغار يملئون الشوارع لعبا وحياة باصواتهم الصغيرة الجميلة تنافس طيور الله في الغناء الرباني. فمن لم تأخذه المدرسة اخذه الكمبيوتر أو العابه الالكترونية.

حملت كوب القهوة لتدفء يدها وهي تتأمل كمبيوترها الصغير(لابتوب). مرت ايام وهي تعاند رغبتها في التطلع على ما يصلها من إيميلات او متابعة الاخبار عبر خلال شبابيك الفيسبوك. لا تريد ان تدمن كما الاخرين. هي مستعدة ان تدمن الحوار المباشر مع البشر.

 ترامت على المقعد، لم تطق صبرا كما لو كان يناديها ان تفك عنه اغلال الصمت.. فسحبت كمبيوترها الصغير ووضعته في حجرها . تمسح على ظهره كما كانت تفعل مع قطتها من قبل، فبعد رحيل القطة لم تأتِ بمثلها لكي لا تأخذ محبة الاولى أو لكي لا تعيد لوعة الفراق مرة اخرى.

لابد ان هناك العشرات من التعليقات والإيميلات والماسجات تعلن عن قلق البعض وتساؤل الاخر عن غيابك الغير منطقي. هل تختبرين مدى حبهم؟ وماذا يجدي ذلك الأختبار!

عشرات الإيميلات من مكاتب العمل سارعت لالغائها فقد اكتشفت كذبهم! فرحت وهي تجد مئات الاشعارات من صديقات واصدقاء الفيس بوك. فسارعت لفتحها. ضحكت بخيبة فلم تجد بينها من يتسائل عن سر الغياب. عشرات التعليقات على جملة كتبتها (سميراميس) احدى صديقات الفيس بوك. "الحياة هراء لابد منه".. شعر أو مايشبه هنا، وانوار هناك.

شجرة الدر الاخضر..غيرت صورتها فتهاطلت امطار المعجبين بين غزل هنا ومدح هناك لتكلل اغصان الشجرة وشاشة الكمبيوتر. ترسم على محياها ابتسامة ساخرة رغم اعجابها بالصورة فوضعت اشارة وجه باسم وابهام مرفوع اعجاب، لكي لا تتهمها بالغيرة لو انها مرت مرور الكرام.

ضحكت لصور طريفة وعلقت على موضوعات متكررة، كما لو انها تقرأها لأول مرة.."هذا ليس تعليق وانما مقال..لن يقرأه احد"..المهم افرغت بعض من اثقالك.

خيوط كازنتزاكيس تشدها لتواصل رحلته مع فرانسيس.. يالله كم اسلوبه مشوق وبشكل خطير فقد تركت كل امور الحياة متناثرة حولها لتتابع طيوره الصغيرة وهي تحط على شجرة الكتاب، تراها ملونة مثل تلك الطيور تشدها الصور والانغام. ليتها تقدر ان تفعل مافعله فرانسيس واتباعه..التخلص من كل مايحيطها من كتب واقلام وصور واشياء لالزوم لها غير ذكريات مدن زارتها وهدايا من صديقات! لابد انها ستشعر بالحرية كما وصفهم الكاتب، لابد ان تلك الاثقال التي تشدها لتلك الجدران ستتخفف منها وتنطلق خارج الجدران تلك.. ولكن الى اين!

مرت بيدها على الكيبورد لتغلق الكمبيوتر بعد غلق نوافذ الفيس بوك المتداخلة. لكنها ترددت وقد تجمدت يداها وهى ترى اسمه "لقد مررت بنفس الاسم عشرات المرات.. لم هذه المرة!" كعادته العم فيسبوك يبعث بشتى الاسماء "قد تعرفينها!" لتضيفها لقائمة لا نهاية لها من اصدقاء افتراضيين لا صداقة لهم! فسبقتها يدها لتضغط على الاسم فلمحت صورته "انه هو" هل معقول ان تتعرفين عليه بعد تلك العقود والسنين؟

كانت صورة وحيدة له وصور عدة لكتب قرأها ولمدن زارها.. بلى انه هو..

فتحتْ تلك الصورة نوافذ الزمن لتطل منها على تلك الفتاة الشاحبة النحيلة وهي تحتضن كتبها عائدة من المدرسة، لتخفي عن الانظار تخطيها عتبة الطفولة ونهوض براعم الصبا تستقطب العيون الشبقة المتلهفة. كان الشتاء يومها يودع مترددا فالحر اقوى منه سينتصر بعد ايام حتى لو سمى نفسه ربيعا. عبق الازهار يملأ روحها عطرا وفرحا وهو يهب من حدائق المنازل قرب القناة كم كانت تحلم ان تجلس على العشب المتناثر على ضفتي ذلك الجدول. ما ابسط احلامها مع ذلك كانت مستحيلة التنفيذ.

سارعت الخطوة وقد شعرت بظل يتبعها بل يسد عليها كل الدروب، مع انه كان خلفها بامتار..هل كان يتبعها؟ ستعرف بعد حين. فتباطأت لتوحي بأن تمشي غير عابئة بذلك الخيال. ارتعاشة القلب فضحت فرحتها بأن هناك من شدّهُ جمالها.. هناك من يحاول التقرب لها.. هناك من يحبها! كل البنات يحكين عن احبة ومعجبين الا هي.. لم لا. حلّقت كما لو ان ملائكة رفعوها عن الارض التي تمادت تحت قدميها، كادت تتعثر وتفضح انفعالها. لاذت باقرب شارع فرعي لتتأكد من لحاق الظل بها. اطمأنت او خاب ظنها فعادت ادراجها للشارع الرئيسي لأنه الاقصر لبيتها. ليتها التفتت لتراه.. ربما هو امرأة كانت مستطرقة او طفل عائد من المدرسة.. يا لخيبتها بنفسها.

تكرر الأمر في الأيام القادمة فلم تقاوم رغبتها في التعرف عليه، التفتت مرة فرأته فغاص قلبها بين اقدامها حتى كادت تدوسه.. طويلا مستقيما ، قميصه الابيض مكويا بعناية كما لو هو لبسه توا ناصعا فيبرز سمار الوجه. خجلت من نفسها فادعت عيناها انها تحاول التأكد من الباص اذا كانت قادمة لتسرع نحو الموقف. هل لمحت ابتسامة على وجهه، ام هو الوهم يسخر منها؟ مر بقربها ينظر للارض وجلا او ادبا. ومضى.. حين عاد ادراجه ارتعشت مفاصلها وأحمر وجهها.. يالله كيف اقابل الموقف؟ ماذا اقول؟ هل ارده بخشونة؟ هل اتجاهله وامضي مسرعة .. "اختي الباص لم يعد يتوقف هنا..لا ادري لم لا يرفعون الموقف هذا". شعرت ببالونة تطير بعشوائية بعد افراغ الهواء منها. اصطبغ وجهها بحمرة قانية. لا تدري من اين جاءها الالهام يومها "شكرا لك انا فقط اردت ان استريح قليلا".

افتقدته في الأيام القادمة حتى ظهر مسرعا امامها. فحرصت ان تبقي مسافة بينهما وعلى كل حال لا يمكنها ان تسبقه. هل ابطأ سرعته ام انها تخيلت ذلك ربما هي امنية فقط وصدقت تحقيقها. فاسرعت هي الخطا وسبقته كادت تضحك فرحة بحضوره الذي انتظرته. مضت مطأطة الرأس كأي فتاة مهذبة "لا ترفع عينها عن الارض" التي تكاد تميد تحت قدميها. هذ المرة بقي يتبعها دون ان يقول كلمة. وحرصت هي ان تتجاهله. لم يسألها هل مازالت تفضل ان تستريح على مصطبة الباص الاسمنتية؟

دخلت شارعهم فدخل هو الاخر..أه لو يقول شيئا لو يسمعها كلام اعجاب او حب من الذي تسمعه في الافلام او من صديقاتها وزميلاتها وهن يتحدثن عن المعجبين. دخلت البيت وحرصت ان تصد لفتتها لكي لا يظن بها الظنون. احتل عالم احلامها "ليكن حب من جانب واحد" لم يحمل كتبا معه اذن هو متخرج..او ربما لم يكمل الدراسة ويشتغل.. لم لا فيبدو انه ذو مسؤولية وربما يعيل امه واخواته! وهذا يفرحها اكثر لأنه سيسرع بطلب يدها.. اخذتها خيوط الاحلام والتفّتْ حولها كشرنقة ثم حلقت بها بعيدا..سيكون لها غرفة خاصة بها.. سرير كبير لهما وعليه شراشف ساتان بيضاء بلون الحليب ناعمة بنعومة قميص النوم الذي سيشتري لي منه الكثير. احمر وجهها وارتفعت حرارتها حين تخيلت عناقه لها .

مضى شبح الحب يحركها كما لو انها منومة ماعادت تركز على دروسها "اذا كنت لا تأتين بدرجات عالية فالأفضل ان تتركي الدراسة..ما جدوى ان تدخلي معهدا ..بامكانك ان تنتمي لمعهد المعلمات بمؤهل المتوسطة" كانوا يتأملون بتفوقها وقد عودتهم على درجات عالية ، فحلموا بانها ستصير مهندسة او طبيبة او حتى محامية.

علقت فكرة في رأسها، كما تعلق الفراشة بخيوط العنكبوت. حين رأت امكانية ذلك في احد الافلام، ان تصارحه، ان تكتب له رسالة وترميها في طريقه. كم راقت لها الفكرة ثم تلبستها لأيام وهي تخطط ماذا تقول وكيف؟ حتى لو كان رده سلبي وهو لا يفكر بها.. لكن على الاقل ترتاح وتعود لكتبها ودراستها افضل من تبقى "لا امل بيفرحني ولا يأس يريحني..آه منك ياشاغلني مش راضي تصارحني" صارت تردد اغنية عبد الوهاب مع التصرف بالكلمات كي تنسجم مع حالها.. يضحك ابوها "منذ متى تغير ذوقك بالغناء وصرت معجبة بعبد الوهاب". تضحك خجلى كما لو ان الاب كشف سرّها!

نهضت وتركت الكمبيوتر مفتوحا وراحت تتطلع من نافذتها الصغيرة على الشارع الهاديء ليس هناك سوى بضع سيارات تمضي غير حافلة بها..النوافذ كلها مغلقة فموجة البرد اجبرت الكثير ليكرص في داره. لكن شباك الذكريات قادها لنوافذ مازالت مفتوحة وطرية.

كان يوما صيفيا بامتياز. وهي لابد ان تذهب مع الاهل لحضور حفلة عرس قريب لهم. حاولت التحجج بالامتحان لكن اختها توسلت لها "لاتتركيني وحدي .. لا اعرف احدا هناك..على الاقل نسولف مع بعض". تعرف انها ستقضي وقتا متعبا ستعد الدقائق حتى لحظة عودتهم. فهي لا ترقص ولا تغني. ولابد لها من التغاضي عن العيون ، فالمكان سيتحول كله لعيون، كبيرة وصغيرة كحيلة وطبيعية وقحة ومبتسمة . تتحول الى اشعة Xray  تتطلع لدواخلها او بالاحرى لدواخل الفستان.. اه الفستان ماذا سيقولون عنك "اليس لك غير هذا الفستان فقد لبستيه في حفل خالتك الصيف الماضي!" هذا غيره، ذاك كان باكمام اما هذا فنصف.. وهذا اقصر ايضا. بلى لم تكذب فقد انكمش بالغسل فقصت ردنيه. لا تبالغي لن ينتبه احد لفستانك.. بلى تلك الحفلات استعراض للفساتين والمجوهرات.

الكل خرج وبدا الالحاح عليها لتستعجل..سبقوها بامتار صوب الشارع العام لياخذوا تاكسي. تخطت عتبة الباب واغلقته خلفها وحين استدارت تسمرت قدماها. رأته يخرج من احد البيوت المقابلة لجيرانهم "اهو ضيف على صديق له" لكن لم يكن هناك من يشيعه للباب كعادتنا مع الضيوف ثم فوجئت بامرأة في الخمسينات، ربما، تطل من فتحة الباب "يُمة سامح، اذا تقدر وانت راجع اجلب معك خبز".

ماذا سيقول عنك وانت متسمرة هكذا ؟ سامح اسم جميل.. فهي معجبة بالممثل سامح السريطي وهاهو القدر يبعث لها سامح بلا سريطي واجمل واطول منه.. كعادته لم يتطلع صوبها ، مضى شراعا تدفعه ريح هادئة. مضت حين رأت اختها تشير بيدها لتحثها بالاسراع. تعثرت خطواتها فساقاها صارا خفيفتان "ساكن قصادي وبحبه".

"ماذا بك؟" سألتها اختها هامسة "لا شيء.. فكرت ان نغني بالعرس ساكن قصادي وبحبه.. واتمنى اصارحه..لكن ابدا ..ابدا ما قدرش اقول له" قالت لها ضاحكة "نعم؟ وهل هذه اغنية تصلح لعرس ورقص" .. ضحكت من اختها، صدقتها انها ستغني! "بلى، نسيتِ المقطع الذي فيه فرح وعرس؟" لكن المقطع ذاك كما لو كان نذير خيبة، فتنائى عنها الفرح في لقاءه.. انه ابن جارتنا الجديدة ام رافد..اذكر ان امي زارتهم واخذت لهم الغداء الذي طبخته في اول يوم انتقالهم "للتعارف وايضا مساكين من اين لهم الوقت للطبخ" مساكين، ابنهم رافد استشهد في حرب الشمال. اذن هو المعيل لهم كما توقعت. لم تتحدث امها عن سامح ابدا، لماذا؟

مشت للمطبخ ونسيت ماذا كانت تريد، ثم سخنت الماء وعملت لها كوب قهوة اخر بالحليب واحتظنته بكفيها ليمنحها بعض الدفء..هل كانت تلك الايام بالجمال الذي اراه الان؟ فجأة كل الاغاني صارت على الجار..فيروز وجارة الوادي طربت.. عُلية وياجاري ياحمودة..ياسموحة.. رضا علي وجيرانكم ياهل الدار والجار حقه على الجار..واﮔـع دخيل بداركم وهللة الهلله بجاركم.. طفّولي من ﮔـلبي النار. صارت تردد تلك الاغنية بالذات كما لو هو امامها وتتوسل به ليطفي تلك النار التي احبتها. كادت تفضح السر حين فكرت ان تقترح على امها ان تذهب هي بصحن الكليجة لبيت سامح ..ام سامح، ام رافد، بدل اخيها الصغير. لو تضمن ان اخيها سيحفظ السر لبعثت بيده رسالة..لو تضع باحدى قطع الحلوى رسالة قصيرة..هذا هو الجنون بعينه.

كفى تخريف اين كرامتك؟ لم العجلة؟ ربما هو ينتظرك تكملين الدراسة ويخطبك مثل الشباب الملتزم! وكيف تصبر كم شهر وكم سنة جامعية.. مهلا.. اين وعدك بالعمل ومساعدة اهلك؟ ما ان ظهر السيد سامح حتى نسيتي كل وعودك!.

 وهي تشرب قهوتها التي بردت اثناء محاولتها لفتح نوافذ اخرى اسدلت الستائر عن من غاب اولا، ربماهي حين انتقل اهلها لمدينة اخرى ايجار بيوتها ارخص ولكي يكونوا اقرب لخالتها! او هم انتقلوا؟ لكنها تذكر حين وصلتهم دعوة لحضور عرس سامح على زميلته بالعمل! رفضت بشكل قاطع ان (رحت الفرح بالليل ورسمت بعني الفرحة ساعة ماكان بيشيل بايديه وعنيه الطرحة) رغم معرفتها انها لن تراه ولن يشيل طرحة.. "عندي امتحان صعب" كانت قد دخلت معهد ادارة لكي لا يقول انها خريجة جامعة ويتردد عن التقدم لها! كان ذلك تبرير لضعف درجاتها التي لم تؤهلها لغير المعهد! كان هو السبب! اي التفكير فيه.. لكنها لا تذكر انها تأثرت كثيرا لخبر زواجه! ربما لم يكن حبا ذلك الذي عاشته تلك الايام والشهور "الحب من غير امل اسمى معاني الغرام" ماذا تسمي السهر والسهو عن الدراسة كلما خطر على بالها؟ ماذا تسمي الاحلام التي تراه فيها قريبا منها تذيبها ابتسامته.. يده وهي تهمس ليدها فيحلقان عاليا كما لو هي راقصة باليه في فيلم كارتون!

ماذا تسمي رفضها للخطاب حتى تعدى قطار الزمن بانتظار الفارس المقدام! وماهو بزمن الفرسان.

"لماذا لم يضع أي صورة لزوجته او اطفاله لابد انه له ابناء وبنات..". هل تطلب اضافته كصديق افتراضي؟ وما جدوى ذلك؟ ابتسمت للصورة تودعها بصمت. واغلقت كل النوافذ وانتزعت عنها خيوط الذكريات والزمن ثم اتصلت باختها لعل الحديث معها يعيد لها توازن الايام.

***

ابتسام يوسف الطاهر

لندن 2011

في نصوص اليوم