نصوص أدبية
أمينة شرادي: نادين
صرخت وسقطت أرضا. غابت عن الوعي، اقتربت منها ابنتها نوال، حاولت اسعافها. ارتبكت، بحثت عن هاتفها، اتصلت بوالدها. هاتفه مقفول كالعادة. عندما يغادر البيت الى العمل أو المقهى، يقفل هاتفه ولا يهتم باحتجاج ابنته أو زوجته التي قالت له يوما في عز غضبها "أكيد سأموت بسببك. كيف سنتصل بك إذا كنا بحاجة اليك؟".
اتصلت نوال، بالإسعاف وهي ترتجف وتنام بين الغضب والخوف والحزن. كان لصراخها وخوفها على والدتها "نادين" الأثر القوي على ذلك الصمت الليلي الذي كان يخيم على المكان. سألتها جارتها: "أين والدك؟" احتارت في الإجابة، ونامت دمعة ثائرة بين مآقيها، وقالت محاولة تلميع صورته:" انه مسافر، لقد اتصلت به وسيحضر بعد قليل."
مكثت طوال الليل الى جانب والدتها نادين، تمسك يدها وتحضنها. وفي نفس الآن، تلقي نظرة على هاتفها ربما يحن والدها لصراخها الذي مزق هدوء ذلك الليل الصيفي. ظلت نادين، غائبة عن الوعي، لكن رفضت ابتسامتها التي لازمتها في أحلك أزماتها معه أن ترحل، كأنها حارسها الأبدي من كل مكروه. فتحت عينيها ببطء شديد، نوال ابنتها على جانب السرير وهاتفها بين يديها. مسحت بيدها على رأسها كأنها تقول لها، "أنا ما زلت معك، لا تخافي انني اقوى من غياب والدك."
كان يوما خاصا، لا يشبه باقي الأيام العادية بالنسبة لنادين. يوم التقت بزوجها أحمد. كانت تركض في الشارع وتصرخ بكل قوتها الى جانب باقي المتظاهرين رافضين التضييق على حرية التعبير. نادين، كانت تخطو ببطء في عالم الصحافة، تهتم كثيرا بكل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية بالبلاد، وتحلل وتطرح الأسئلة كمن يبحث عن ابرة في قش. كانت ترفض أن يزج بها في الجريدة بخانة الطبخ وتموت كل طموحاتها السياسية والفكرية. الكتابة بالنسبة اليها كالهواء والماء، لا تستطيع أن تتنفس من دونهما. كانت تجري وترفع صوتها، يعلو في الفضاء كسهم محارب يدافع عن أرضه. أثناء المسيرة الاحتجاجية، اقترب منها شاب وسيم ويظهر على ملامحه الجدية والمسئولية. سلم عليها وقال لها" ان حرية التعبير هي عنوان تقدم الشعوب." ابتسمت وتابعت سيرها العنيف الذي يحمل رغبة شديدة في تغيير الوضع المأزوم. كانت تدك الأرض برجليها دكا، كأنها ترغب في اختراقها واخراج ما بباطنها حتى تختلط الأشياء وتولد البلد من جديد. لم تجبه، ظل ماشيا الى جوارها. وقال لها " أنا أيضا كنت من المؤيدين لهذه المسيرة الاحتجاجية."
طل يوم جديد على نادين وهي بالمصحة، نوال ابنتها نائمة الى جانبها على سرير آخر. فتحت عينيها وهي تتأمل أن تجده الى جوارها وتفرح بتلك الابتسامة التي أسرتها يوما. جالت بنظراتها داخل الغرفة، كأنها تبحث عن شيء مفقود منها. رمقت ابنتها، نائمة بشكل غير مريح، من شدة التعب والخوف. فهي لم تفارقها وكانت كالمجنونة تريد أن تفهم ماذا أصابها بتلك السرعة. مسحت الغرفة من جديد بنظراتها المتعبة ثم توقفت عند الباب، ربما سيطل بعد قليل، ويرتمي بين يديها ويقبلها ويطلب منها العفو لأنه كان مشغولا وكان هاتفه مقفلا.
بعد انتهاء المسيرة، كانا قد تبادلا رقمي هاتفيهما، وتواعدا على اللقاء. كثرت لقاءتهما وتعودا على بعض. و لا يمكن أن يمر يوم دون أن يلتقيا. استيقظت نوال مفزوعة على صوت الممرضة التي أتت تبلغ والدتها بأن حالتها قد تحسنت ومرحلة الخطر قد عدت. بكت كثيرا من فرحتها وقبلت أمها التي كانت بالأمس بين الحياة والموت. استسلمت نادين، من جديد الى حنين الأمس وتركت الحرية لنظراتها ترحل وتنتظر قرب باب الغرفة على أمل أن يظهر أحمد. ستغفر له كما عودته على كل هفواته وغياباته. ستغفر له صمته الطويل بالبيت وانزواءه بغرفة الجلوس مع هاتفه. ستغفر له اقفال هاتفه كلما غادر البيت كأنه يرغب في الانسحاب من حياتها والذوبان في عالم آخر. ستغفر له لأنه الحب كله بالنسبة اليها. وكان دائما يقترب منها ويحضنها ويهمس لها بين أنفاسها على انها هي الحب كله. وتبتسم وتبدأ صفحة جديدة كمن يولد لأول مرة ويرى الدنيا بعينين حالمتين باحثتين على الأمل والحياة. سألت نوال بصوت يحمل أثار الألم والحزن: "ألم يتصل والدك؟"
نظرات نوال قلقة لأنها كانت تتمنى أن تسمعها الجواب الذي ترغب فيه. لكنها حاولت ان تختار أحسن الكلام، حتى لا يكون صدمة قوية على روحها كمن سقطت عليه صخرة من أعلى قمة جبلية، وقالت لها "أكيد سيتصل يا ماما، أنت تعلمين أنه يقفل هاتفه كلما خرج من البيت. أكيد أن هاتفه مازال مقفلا."
لكن نادين كانت تدرك في قرارة نفسها بانه بالبيت. وبأنه سعيد هناك لوحده، وبأنه يعد طعامه لوحده، وبأنه يتنقل بين التلفاز وشاشة هاتفه. أو ربما فرح فرحة العمر لما ولج البيت ولم يجد من ستمطره بالأسئلة التي يكرهها ويعتبرها كاستنطاق بوليسي. أو أنه نائم كما تعود دائما، لما يعود في آخر الليل ويدلف داخل غرفته وينام. ظلت حبيسة أسئلتها وتكهناتها طوال اليوم. تحسنت حالتها وأمر لها الطبيب بمغادرة المصحة على أن تهتم بصحتها كثيرا وتبتعد عن كل الضغوطات.
كانت مستلقية على السرير في انتظار ابنتها، سافرت بذاكرتها خارج الغرفة، توالت المسيرات الاحتجاجية السلمية والرغبة في تغيير الحصار المفروض على حرية التعبير التي أصبح كالكمامة على الأفواه. كان هناك الى جانبها، هتافات ولافتات وحماس شعبي ترتعش له الأبدان والعقول. في لحظة جد مفاجئة، حوصروا برجال الأمن وتم القبض عليهما على أساس أنهما يساهمان في الفوضى والشغب. تم الافراج على نادين فيما بعد وظل أحمد محبوسا أسبوعا كاملا. تذكرت كيف كانت تقضي يومها وليلها في انتظار الافراج عنه. شاخت قدميها ودمت أصابعها من كثرة الوقوف والذهاب والإياب. لم تمل ولم تيأس لأنها كانت مؤمنة بقضيتهما وكانت مؤمنة أيضا أنهما يمارسان حقوقهما الدستورية ولم يساهما في أي شغب. بعد أسبوع، كانت هناك، تنتظره، وجدت عددا كبيرا من الناس فيهم الأب والأم والأخت والصديق، كل واحد جاء يحمل بين يديه قلبه في انتظار سماع خبر الافراج الجماعي. تجمهر كبير، حجب عليها الرؤيا، رؤوس تتمايل يمنة ويسرا، تتعالى في الفضاء، أيادي تنادي وأصوات تصرخ. اشتبكت الحناجر والأحاسيس واهتز المكان. كل واحد ينادي على قريب له. حالة من الذعر والفرح والدموع. كانت نادين في آخر الصف، تنتظر وتترقب كمن ينتظر نتيجة الامتحان. طل بقامته الطويلة وشعره المشعث، كانت تحب فيه هذه الفوضى المستوطنة لجسده، كان لا يهتم بتناسق الألوان في لباسه، ولا بتسريحة شعره، كان يعتبر كل هذا ترفا لا فائدة منه. كان يبحث بين الجموع عليها. سرت قشعريرة بين ضلوعها وارتفعت نبضات قلبها وانطلقت كالسهم تخترق الصفوف وتبحث عن منفذ يوصلها اليه. سمع صوتها، التفت، ارتمت بين أحضانه وتمنت ساعتها لو أن الزمن توقف حتى تعيش تلك اللحظة القوية وتختبئ بين ضلوعه. قبلها وقال لها" لم أكن أدرك أنني أحبك كل هذا الحب؟".
دلفت نوال داخل الغرفة، تساعد والدتها على جمع حاجياتها ومغادرة المصحة. سألتها من جديد، وصوتها يحمل كل الأمل " هل اتصل والدك؟" ترددت نوال في الإجابة، حاولت أن تغير دفة النقاش مستغلة وضعها الصحي وما قاله لها الطبيب. لكن صمتها أشعل النار بداخل قلبها المرهف، وأعادت السؤال على نوال. توقفا قليلا خارج باب المصحة، في انتظار سيارة أجرة. حضنت نوال والدتها وقبلتها وقالت لها" أعلم أنك تتألمين لغيابه الدائم وعدم اهتمامه بك أو بنا، لكن يا أمي، والدي حنون جدا وطيب جدا غير أنه له طبائع لا تحتمل. أرجوك، لا تهتمي. أنا معك"
كانت نوال تعلم أن الأمر ليس بهذه السهولة، فقد جعلت منها الأيام الماضية، شاهدة على صراع مستمر بين والديها وخصوصا غياب والدها المتكرر واقفاله لهاتفه كأنه يتحلل من كل مسئولية. لم تفهم سبب سلوكه حتى نبتت برأسها فكرة التجسس عليه. فهي تخاف من الغد الذي لا لون له، فأصعب شيء على النفس هو عدم معرفة المجهول الآتي. فهي تحب والديها وتخاف على أمها من الانهيار. وتكره كما يكره كل مظلوم أن يعاقب ظلما، أن يفترقا يوما وتعيش بين بيتين وعطلتين وحياتين، فبيت الأسرة هو وطنها الذي تعلمت فيه أولى خطوات الحياة، ونطق فمها أولى الحروف ولعبت فيه أولى لعبها. فهي ترفض بتاتا أن يهدم أو يبنى في مكانه بيتا آخر. "الوطن لا يموت "كانت تهمس دائما لروحها لما تكون تقتنص بعض لحظات الراحة والمتعة النفسية بعيدا عن كل ضجيج وصداع الرأس. لكن هذه الفكرة لم ترق لها، هل تحادثه في الموضوع حتى تفهم ما يجول بخاطره. ظلت حبيسة حيرة استوطنت عقلها وسلوكها، حتى وهي في المصحة مع والدتها، كانت الأفكار تطاردها كما يطارد المجرم من العدالة.
وصلتا الى البيت، والأسف يسكن ملامح نادين كأنها تتساءل كيف استطاعت ان تتعايش مع كل هذا الإهمال العاطفي كل هذه المدة دون أن تدري. كيف انساب الزمن من بين يديها حتى استحالت الى جسد يرتعش وتعلو حرارته وتنخفض، دلفتا الى الداخل، كان هناك، يتأهب للخروج. كأن شيئا لم يحدث. أو كأنه يعيش وحيدا. زارها هذا الإحساس لما كانت بالمصحة، فقط حاولت أن تغالط نفسها وتتمنى أن تعيش لحظة من لحظات الأمس. لم تفهم نادين كيف تحول الى شخص آخر يحمل كما كبيرا من العنف النفسي، فهاجمها بسيل من الأسئلة، ما استطاعت أن تتذكره من كثرة أسئلته التي تساقطت عليها كما تتساقط الأحجار من الجبال أثناء فصل شتاء قاسي. قال لهما "أين كنتما؟ تركتما البيت دون أي اخبار أو حتى ترك رسالة صوتية؟ ما هذا الاستهتار؟ أنا أرفض هذا السلوك ...؟" وخرج كالعادة، وأغلق هاتفه كالعادة .
***
أمينة شرادي