نصوص أدبية
ناجي ظاهر: أظفار حادّة
(صفحات من دفتر عاشق)
قصة: ناجي ظاهر
(ما سِرتُ إلا وطيفٌ منك يصحَبُني
سُرى أمامي وتأويبًا على اثري)
ابو العلاء المعري
***
العزيزة غالية
اقرُّ بدايةً أنني أكتب إليك هذه الرسالة/ القصة، جراء ما جُدت به عليّ من قسوة، خُيّل إلي أنها لا تعدو كونها أظفارًا حادة تنغرس في قلبي وروحي ليل نهار. منذ التقت عينانا خلال قراءتي قصيدة الحب اليتيمة.. في حياتي، في ذلك المقهى وأنا أشعر بصدّك ساعة بعد ساعة ويومًا بعد يوم.. شهرًا بعد شهر وسنة بعد سنة. لقد وضعتني دائمًا في مواجهة مع نفسي، فهل أنت تحبينني أم تبغضينني أم لا تبالين بأمري، لنفرض أنك لا تبالين بأمري فما الذي فعلته بك حتى يتحجّر قلبُك ولا تعطيني إلا ظهرك كلّما اقتربت منك أو حاولت؟ لماذا لا تكونين صريحة وتضعين حدًا لهذا العذاب المزمن المستديم.
في تلك الامسية.. من ذلك اليوم ما زلت أتذكّر كيف التقت عينانا، وكيف حاولت أن أتهرّب منها حتى لا ينتبه أحدٌ إلى ما بدا من حب بالظهور، فأنا أعرف أن الناس يفسدون الاشياء الجميلة، لذا حاولت أن أخبئك في عينيّ وأن أمضي في طريقي. يومها لحقتِ بي خلال سيري في ذلك الشارع الطويل.. شارع الضباب، استوقفتني تحت ضي القناديل، وقلت لي: إنك أبدعت. قصيدتك دخلت إلى قلبي دون طلب أو استئذان، أشعر أنها كانت قابعة في أعماقي وأنها كانت هاجعة هناك.. موضحةً أنني بإنشادي لها قبل قليل أيقظتها. حينها ابتسمت لك. شعور غامر اجتاحني ليهمس في أذني: افرح يا قلبي جاك نصيبك.. تبلغ مناك ويّا الحبيب افرح.. يا قلبي.. مددتُ يدي لحظتها إلى يدك لتلامسها.. ملامستها البكر المشتاقة لأول حبّ حقيقي في حياتي.. أنا الشاعر التعيس.. الوحيد في هذا الوجود وصحرائه المقفرة.
بعد تلك الامسية كان لا بدّ لي من أن اتقصّى أخبارك، أن أتابعك حتى لو كنت في أقصى مكان في الدنيا، فرُحتُ أسأل عنك كلّ نسمة رخيّة وهبّة ريح: أين هي؟.. إلى أن عرفت أين أنت.. وكان عليّ أن أزورك، أن أدرك ما إذا كان ما قلته نابعًا من قلبك أم أنه مجرد كلام فرضته اللحظة الطارئة الساحرة وانتهى أمره مثلما تنتهي أغلب الاشياء الجميلة في حياتنا التعيسة الجارية. زاد في بحثي عنك أنك اختفيت وغابت آثار أقدامك على أرض النسيان. ترى أكنت تمتحنين ما حصل وتودين أن تتأكدي مِن أن نبوق تلك الوردة في عتم ليلي إنما كان حقيقيًا؟ ولا لبس فيه؟.. ربّما.. ربّما.. لهذا كله كان عليّ أن أبادر إلى عمل أي فعل يحيي ما نبت في قلبينا.. كما اعتقدت أو خُيّل إلي.. حينها أخذت أفكّر في طريقة جهنمية أعلن لك بها أن ما كان ما هو إلا الحقيقة الرائعة لقلبينا المتلهّفين حبًّا .. توقًا وشوقًا من أحدنا للأخر. أفكاري تلك دفعتني لأن أوجّه إليك سؤالًا.. حاولت أن أجعله ذكيًا بحيث يكون له ما بعده، سألتك عمّا تحبين قراءته من الكتب الادبية، وتوقّعت.. للحقيقة المجرّدة.. أن تقولي الشعر.. ذلك أن الشعر وقصيدته اليتيمة جمعت بين عينينا.. وقد أضمرتُ منذ البدء بالسؤال.. أن أبحث عن كتاب شعري يمكنني من أن أوصل الرسالة إليك لتبدئي قصة حبنا العتيدة.. غير أن ما حصل هو أنك فاجأتني بأنك تودين قراءة كتب شرلوك هولمز. كانت اجابتك هذه أول نُذُر تعمّدك الخلاف معي.. كما شعرت. مع هذا بحثت عن مؤلفات مبتكر شرلوك هولمز الكاتب كونان دويل.. وحمّلت لك عربة منها سيّرتها نحوك.. إلى أن توقفت أمام ملكوتك.. ولم أنس أن أضع فوق رزم تلك الكتب وردةّ حمراء.. لعلّها تفتح كتاب المحبّة الموصد على مصراعي بابه.. كي نعبّ منه كلما شعرنا بالظمأ.
الغريب أنك انكببت على قراءة تلك الكتب ولم تسألي عنّي بعدها كما توقعت.. وقد بقيت أنتظر إلى أن لاحظ صديقٌ مخلصٌ لي ما بي تجاهك من مشاعر موءودة طيبة، فافتعل مناسبة جمعت بيننا وتعمّد أن يجلس أحدنا بالقرب من الآخر إلا أنك فاجأتني أولًا وفاجأته ثانيًا بأنك ناديت مَن يجلس في القرب منك ليفصل بيني وبينك.. عندها شعرت بمرارة لن أنساها ما حييت، إلا أنني عندما وضعت رأسي على مخدتي القاسية في ليلة مضبّبة ماطرة.. حاولت أن أوجد لك العذر.. فأنت لا تريدين أن تلفتي أنظار العُذّال إلى ما نشأ بيننا من استلطاف، لهذا حاولت ما حاولته في أول لقاء بيننا أو شيئًا قريبًا منه. خشية أن يفسد الناس كعادتهم في بلادنا ما بيننا من مشاعر يحلمون بها جميعا ولا يجرؤون على التعبير عنها أو الاقتراب من ملكوتها.
صدُّك هذا لي جذبني إليك أكثر فأكثر.. من ناحية.. ودفعني لأن أفكّر في الانصراف عنك من ناحية أخرى.. غير أن ما حدث أو كان يحدث هو أنّني كلّما حاولت الهروب منك لجأت إليك.. ومع هذا لم ألقَ مِنك سوى الصدّ.. والمزيد من الصدّ؟ هل كنتِ تمتحينني.. وتريدين أن تتأكدي من مصداقية مشاعري نحوك.. وألى متى يمكن أن تضعيني في مثل هكذا امتحان؟ ألا تكفي السنوات تتلوها السنوات وأنا أعدو وراءك.. وأنت تجرين أمامي؟.. أنظري إلى الوراء. أنظري بالله عليك.. فقد تعب حصاني من الجري.. وراء فرسك.. تعب من الامتحان يتلوه امتحان.. وقد آن لي أن أقول لك إن العمر قصير وإن لحظات المحبّة فيه.. هي ما تجعلنا نشعر بعمقه.. فلماذا تواصلين صدّك لي والتعمد في الغياب؟ لماذا تنشبين اظفارك الحادّة في روحي وقلبي.. ولماذا تديرين ظهرك لي.. وأنا أتمنّى أن أرى وجهك.. لنعيش معًا الربيعّ دهورًا.
***
ناجي ظاهر