نصوص أدبية
محمد الدرقاوي: جدة تزوجت حفيدها
لم يكن مطعم ابن عبد الله غير دكان صغير في حي شعبي لكنه عريق بأصول سكانه وانتماءاتهم السوسيوثقافية، يتعايشون شرفاء وعواما غنىً وفقرا، موظفين وحرفيين..
شهرة الحي من شهرة موقعه بين أضرحة الأولياء وإرثه التاريخي العريق، قريب من دار الدبغ شوارة، ودرازات الصناعات التقليدية على مختلف حرفها من جلد ونحاس ونسيج .. ودكاكين للتموين والصباغات وصناعة المشط من قرون العجول والبقر ..
كان المطعم لا يسع أكثر من خمسة اشخاص ينحشرون داخل الدكان يتناولون زليفات الحريرة صباحا أو عند المساء ..
عند مدخل الباب ينصِب ابن عبد الله على موقديْ الفحم طنجرتين إحداهما نحاسية عميقة والثانية من الأليمنيوم متسعة القاعدة مخصصة لقطع اللحم والحمص والطماطم مع التوابل:(التدويرة)
الى جوار المطعم الصغير كان دكان النجار المركاوي عازف الكمان المشهور، شده الفن برغبة و عن حرفته قد استغنى فأضاف ابن عبد الله الدكان الى مطعمه وهكذا صارالمطعم أكثر رحابة واتساعا، ثم أضاف مع الحريرة الكبدة مشرملة والمخ وبعض السَّلطات البسيطة ..
شهرة حريرة ابن عبد الله ذاع صيتها في الأحياء المجاورة لا يمكن ان تتقن مثلها اوقريبا من لذتها الا للات العيالات الفاسيات، فالحريرة كالتي يعدها ابن عبد الله،عليها يتهافت الزبناء كبيرا وصغيرا ذكورا وإناثا لا يقتصر الأمر على زوار المطعم من حرفيين وصناع وطلبة وانما يتعداه الى الرغبات المنزلية خصوصا إذا كانت الزوجة جديدة عهد بزواج وتقيم مستقلة عن حماتها ..
لم تكن حريرة ابن عبد الله هي ما يغري الزبناء فقط،فالرجل نظيف أنيق وسيم قد وهبه الله مع طول القامة جمال الصورة، وحلاوة اللسان وهو ما جر عليه نقمة بعض رجال الحي من يأكل الشك صدورهم خوفا على نسائهم خصوصا لو أنثى أصابها وحم فلا يمكن أن تمر على باب المطعم دون أن تسرق النظر الى وجه بائع الحريرة تشدها بسمات عيونه وغمازة خده .. بل كثيرا ما اثارت إحداهن زوار المطعم بتنهيدة وبسمة من عيون تواقة لهفة لجمال الرجل أو تدعي العطش فتطلب زليفة لتشرب من سبالة الحي المقابلة لدكان ابن عبد الله ..
لم يكن ابن عبد الله يلتفت لأنثى بقصدية أوتعمد فهو يكره أن يثير انتباه الزبائن بما قد يسيء لأنثى بوصمة دعائية قد تبلغ أهلها فتجني على سمعتها،ولئن كان يرمي نظرات عيونه في طنجرة حريرته ويده تحرك المحتوى بمغرفة كبيرة طويلة من عود العرعار فإن لسانه الذباح كان لا يتوقف عن مقطع أغنية يرددها او مثلا يرمي به أنثى دون أن يكلف عيونه الرنو اليها ..
يا اهل الهوى نصحوني
حر الشوق فناني
و انا عاد بديت
كان ابن عبد الله يعرف جميع سكان الحي ذكورا وإناثا بأسمائهم وألقابهم بل حتى بمشاكلهم الداخلية، يحيط بمعاناة الأنثى البايرة وخفة الصغيرة النزقة إحاطته بغطرسة المرأة المتكبرة القوية المتحكمة في البيت أو تلك الخانعة بذل وانكسار ..كما يدرك سطوة بعض الرجال وتحكمهم في النساء ادراكه لكل أنثى تزوجت بلا رغبة فارتبطت برجل يقمطها في ما لم تتعوده في بيت أبيها ..
كان ابن عبد الله يلتقط النظرة بإطلالة خاطفة فيعرف القادم يبادرها بمقطع من أغنية أو مثلا يناسب حالها:
فللمرأة الصبور على رجل خشن صعب يرمي كلمات:
"مظلوم ومعذب ساكت صابر..
.الجفا والهجر و نارك وناري"..
ولأخرى ظهرت بعد طول غياب :
"خيالك عندي حمام السلام
ونيسي ورفيقي في كل مكان"
كان ابن عبد الله كمخبر الحي يلتقط اسراره من ثرثرات الزوار ومن أفواه الصغار حين يأتون لشراء الحريرة لأمهاتهم، فتكفيه إشارة منهم ليعرف أفراح البيوت وأتراحها، لكنه كان كتوما لايبوح بخفايا الحي بين سكانه و لا يمشي بين أهله بنميمة ولا بدس او نفاق، يحرم على نفسه أن تشيع على لسانه معلومة لاتهم غير صاحبها،كان نصوحا أمينا لمن طلب رأيه، فاذا ما استشاره رجل عن بنت أرادها لابنه بزواج قدم له ابن عبد الله النصيحة في حدود مايعرف بلازيادة ولا نقصان أويقصده آخر أتى لبنته خطيب فيبادر الى ابن عبد الله ليعرف حقيقته وصدق ما ادعاه عند الخطبة لكن عند مرور زوجة السائل فهو يرميها بالحقيقة في مثل أو حكمة حتى تكون على بينة مما سأل عنه زوجها دون ان يبلغ ذلك علمه حتى لا تتعرض للشك وسين وجيم ..
يقول عن البنت الجميلة المكمولة يشجع عليها:
"للا مليحة وزادتها الترويحة(أي العطر)
ومن يتوكل على الله فهو حسبه"
وعن المشاكسة والمزاجية يقول:
"لا تشري حتى تقلب ولا تصاحب حتى تجرب،
الخريف،مرة شتاء و مرة صيف"
اما عن الخفيفة النزقة التي لا حدود لرغباتها
"قالُو لَلْحَمْقَة زَغْرْتِي، قالْتْ لِيهُمْ الدَّارْ ضَيْقَة"
أما عن الذكية التي تتصنع الغباء لقضاء أغراضها فيقول:
"حمقة وحواقة ومرشوشة بالهبال" ..
لا يدرج غريب في الحي حتى يصير ابن عبد الله عارفا به ملما بما يريد خصوصا إذا كان الزائر ممن يقتفي أثر إحدى بنات الحي أو بنت تريد التأكد من حال سكنى ادعاها خطيب ..
كان ابن عبد الله ثقة الرجال والنساء على السواء، الحي أمامه ينفتح بكل تركيباته لكن عن حياة ابن عبد الله ينغلق أصلا ونسبا، فمذ نبت في الحي وهو معروف بالاسم الذي يناديه به الكل .. قالوا حياني من قبيلة بني عمران، وقالوا يتيم رباه الملجأ لا يعرف أحد له أما ولا أبا .. هل هو متزوج أم أعزب ؟ عاقر أم له أبناء ؟ من تكون زوجته ؟ فالرجل في العقد الثالث من عمره واهتمامه بملبسه واناقته لا يمكن أن يُغيب أنثى حاضرة جلية بأثر وراء مظهره،كل مايعرفه الناس أنه يسكن في إحدى القرى خارج المدينة..
فجأة يغيب ابن عبد الله، والكل يجهل لغيابه سببا، قالوا مريض حتى إذا طال الغياب قالوا مات !! ..وقالوا ماتت زوجته الشابة الجميلة فهده الحزن والأسى، وقالوا فقد أحد أبنائه، بل من القوالين من ادعى أن إحدى بناته قد أتت منكرا فماعاد له وجه ليظهر به امام الناس، غيرهم قالوا رحل الى مدينة أخرى بعد أن طلق زوجته، حنت لغياب الرجل نسوة وتنفس غيرهن الصعداء بعد أن أطبق المطعم الأبواب على نفسه ..
صار ممر مطبخ ابن عبد الله خاليا ,افتقد سكان الجوار رائحة كانت تعطر صباحاتهم وأمسياتهم، وتحسر الرجال عن مخبر ناصح كان يساعدهم في اختياراتهم، حتى أصحاب الشك والغيرة خففوا من حصارهم لنسائهم وبناتهم..
الراحة يالله، لاخبر،لا اثر ..
بعد عشر سنوات يظهر شيخ في مطعم ابن عبد الله يعرض للبيع كل أدوات المطعم، حوله تجمع رجال الحي باستفسار وأرخت النساء الأسماع بفضول يلتقطن الأخبار عن صاحب ألذ حريرة في المدينة العتيقة، بل منهن من أرسلت بنتها لتتسقط لها خبرا :
"ابن عبد الله هو زوج والدتي، النكافة المشهورة بالياقوت .. أمي عشقت ابن عبد الله وبه قد تعلقت وعمرها ضعف عمره،وقد كان يبادلها نفس الحب، كلاهما تعلق بالأخر فتزوجا، لكن الوالدة اشترطت عليه أن يكون الزواج في السر اتقاء لاعتراض أبنائها،وحتى لا يقال: جدة تزوجت حفيدها .. كان يقيم معها في ضيعة كبيرة خارج المدينة تستغلها كقاعة للافراح ..
مرضت الوالدة فتوقف عن مطعمه لا يتركها لحظة أو تتركه يغيب عن عيونها ولما أدركت دنو أجلها كتبت له كل ما ورثته عن أبي وما ادخرته من عملها كنكافة ذائعة الصيت دون أن تحرمنا من حق ونصيب، ثم زوجته بعنبر بنت صغيرة كانت تربيها وهي اليوم من أسست مع زوجها ابن عبد الله المقاولة المشهورة في مراكش بمقاولة " عنبر و الياقوت للافراح " ..
ابن عبد الله رجل إنسان، فاضل كريم، يعترف بخير الغير عليه، استطاع بعد أن تفرق إخوتي غضبا لزواج أمنا به أن يعيد بناء لحمتنا في تجمع اسري هو ما كون مقاولته التي استطاعت أن تشق الآفاق بما تعده من شهيوات ولذائذ مغربية من طنجة الى الكويرة يعجز عنها أقدم الممولين واعرقهم حتى صار الممول رقم واحد لجميع المناسبات الدينية والوطنية وكثير من الأفراح.
***
محمد الدرقاوي ـ المغرب
........................
توضيحات
الزلافة: الماعون الذي تشرب فيه الحريرة سميت كذلك لأنها تًقرب إلى شاربها وتقدم له، يقال زلف الكأس: أي قربه وقدمه، وقال الله تعالى (وأزلفت الجنة للمتقين) أي قربت.
التدويرة: تدويرة الحريرة تتكون من قطع لحم صغيرة تطبخ مستقلة بكل ما تحتاجه من توابل ثم تضاف الى الحريرة
حواقة: أي تعرف الكثير لكنها تتعمد إخفاءه ..حوق تعني أحاط