نصوص أدبية
نضال البدري: أنتِ فحسب
إنه منتصف حزيران.. الجوّ حارّ، والشمس وسط السماء تتضاحك دون اكتراث، ونحن نعدو يميناً ويساراً، نبطئ ثم نسرع بلهاث حارّ خلف الحافلة لنجد فيها كرسيين شاغرين نرتمي داخلها مع الأكياس التي تتأرجح بين أيدينا. وقد غدت ركلات أقدمنا منهكة، والعرق يسيل بغزارة من كل أركان وجهي، والكحل أيضاً أغرق عيني وسط هالة سوداء في وضح نهار مشمس، لم تطفئ قناني الماء لهيب العطش داخلنا على الرغم من أني تناولت عدداً من قناني الماء . كذلك عمّتي بلقيس التي كانت برفقتي، فقد اصطبغ وجهها الناصع البياض باللون الأحمر، كانت ملامحها ناعمة على الرغم من تقدّمها في السنّ، لها بشرة صافية بيضاء بلون الحليب، وحين كان يقول لها أحدنا: كم وجهك جميل، وبياضك ناصع، كانت تبتسم ويبرز طقم أسنانها الذي كان أنصع بياضاً من وجهها، قائلة: أنا من أصول تركية! مع أنها وبحسب علمي لم تتخطى حدود بغداد، لا هي ولا جدي رحمه الله. بدأ التعب ينال منها والسكري يهبط بعد أن شعرتْ بجوع شديد، لم يكن أمامنا سوى أن نستأجر إحدى العربات الصغيرة (التك توك)، فهي الوحيدة التي تناسب ذوي الدخل المحدود، وتعتبر سيدة الشارع بالرغم من حجمها الصغير وسرعتها وكأنها فأر صغير يهرب مذعوراً وسط الزحام. أسرعنا صوب إحداها بعد أن قرّرنا أن نستأجرها، فلا أمل في الحصول على مقعدين في الحافلة، وبخاصة أننا في ذروة الزحمة التي تزامنت مع خروج الموظفين وطلاب المدارس والجامعات، هكذا هو الوضع في موقف (باب المُعظّم) وسط بغداد. وجدنا هناك عربة صغيرة حمراء اللون متوقفة، يجلس صاحبها داخلها في انتظار من يستأجرها. كان رجلاً في متوسط العمر، جالساً في المقعد الأمامي كالقنفذ دون حراك، متلبد الملامح بالرغم من حرارة الجوّ، تقدّمت عمّتي نحوه، وسألته بأسلوب فض بعد أن حددت له وجهتنا : كم تطلب كي توصلنا، حرّك يديه مُمسكاً بمقود عربته، قائلاً: خمسة آلاف دينار! رمقته بنظرة اعتداد بنفسها: (هواية)، سأعطيك ثلاثة آلاف دينار، أومأ برأسه أنْ لا . مضت دون أن تلتفت إليه، وكأن إصرارها على الرفض أذهبَ عنها التعب والجوع، قلت لها وبالكاد تحملنا قدمانا: لا بأس نجعلها أربعة آلاف، فالجو حارّ جداً، وهذا الرجل يبدو مسكيناً وعلى باب الله، لم تقتنع بكلامي وسحبتني كطفلة صغيرة، قائلة لي: هيا أنت لا تفهمين، تلك المركبات صغيرة، ولا تستهلك وقوداً، اصمتي واحملي الأكياس عني تلك الاكياس ايضا ، تقدّمنا الى الأمام نبحث عن سائق غيره، أقبلنا على مركبة أخرى مركونة في الجانب نفسه، كان سائقها مراهقاً، له سحنة سمراء، وهو نحيف جداً، يرتدي ثياباً رثة أفقدتها حرارة الشمس لونها، تُزيّن يده النحيفة وشوم عدّة، سألناه أن يوصلنا وكم يطلب مقابل ذلك، فطلب ستة آلاف دينار. حاولنا أن نخفض الأجرة، لكنه رفض باستهزاء، قائلاً: (لا عمي لا). وسألنا آخر، فطلب منّا المبلغ نفسه. أصبحت أسير بخطىً متثاقلة مع عمّتي التي ركبها العناد، بدأ المكان يخلو إلا من بعض المتسكعين الذي أخذوا يظهرون كمصاصي الدماء الذين نشاهدهم في أفلام الرعب. أقنعتُ عمّتي أخيراً أن نعود الى السائق الأول، فلم نعد نحتمل حرارة الجوّ أكثر من ذلك. من حسن حظنا أننا وجدناه على حاله، يراقب بعينيه الصغيرتين منتظراً ببالغ الصبر ركاباً، عدنا إليه طالبين منه أن يوصلنا وسندفع له ما طلب منا، تحرّك ماّطاً جسده النحيل المتيبس كمن يودّ أن يبثّ الحياة فيه من جديد، جاء ردّه قاسياً، حدثنا بأسلوب فظّ شامت، موجهاً كلامه إليّ: سمعتكِ تقولين عني مسكين! يبدو أنه سمع حديثنا! لستُ مسكيناً ولا أقبل صدقة منك، الرزق على الله، لا عليك، أنا أعمل بكدي ولا أمدّ يدي لأتسول من أحد، قلت له: لكني لم أعنِ بكلامي شيئاً و...، قاطعني وأشار إلى عمّتي: تفضّلي سيّدتي، سأوصلكِ أنتِ فحسب...
***
نضال البدري
عضو اتحاد الأدباء في العراق